أسلحة لا تنام: الذكاء الاصطناعي.. معادلة الجيوش تتغير

ذات مصر
  عادة ما كان امتلاك تقنية جديدة يغير قواعد اللعبة في الصراعات الدائرة بين الدول والحضارات، التاريخ خير شاهد علي أن التقنية تخلق مفاجآت في ساحة المعركة، ويمنح ظهور أي أداة قتالية جديدة -مثل اختراع العجلات الحربية والبارود- أصحابها هيمنة عسكرية لفترات زمنية طويلة تمتد لعقود أو قرون، والذكاء الاصطناعي هنا (AI) ليس استثناءً. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] العجلات الحربية[/caption] في عام 1997 تمكن حاسوب "ديب بلو"، الذي أنتجته شركة "آي بي إم" الأمريكية، من هزيمة الروسي جاري كاسباروف، بطل العالم في الشطرنج، ولكن تعد هزيمة بطل العالم في لعبة الغُو، الصيني لي سيدول، الذي فاز باللقب 18 مرة، بواسطة خوارزمية الذكاء الاصطناعي، ديب مايند، في مارس/ آذار 2016، رمزًا قويًّا للتحول في توازن القوى بين الإنسان والآلة. وفي السنوات الأخيرة، أدت زيادة توافر الطاقة الحاسوبية والبيانات الضخمة وانخفاض تكاليف تخزين البيانات ومعالجتها، إلى خروج الذكاء الاصطناعي من المؤتمرات المتخصصة إلى عناوين الصحف وخطب القادة، كما أسهمت جهود الباحثين خلال العقد الماضي في إحداث تطورات بارزة في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات التكنولوجية المرتبطة به، أمكن الوصول بها خلال فترات زمنية قصيرة إلى مستويات عالية فاقت توقعات الخبراء والمتخصصين. ومثلما كان القرن الماضي شاهدًا على التطور التكنولوجي الهائل للمجتمعات البشرية، شهد أيضًا تطورات متلاحقة في أدوات الحرب وتقنياتها، بحيث باتت هذه التطورات للعتاد العسكري تعلن قدوم حروب خيال علمي المستقبلية، تبدو مستوحاة من أفلام وروايات الخيال العلمي، وترسم رؤية دقيقة لمستقبل الحروب في السنوات المقبلة. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الذكاء الاصطناعي[/caption]

الذكاء الاصطناعي

في عام 1956 صك جون مكارثي، الملقب بـ"أبو الذكاء الاصطناعي"، هذا المصطلح، ويعرّفه بأنه "علم هندسة إنشاء آلات ذكية، وبصورة خاصة برامج الكمبيوتر"، وهو اسم عام لأنظمة الكمبيوتر القائمة على البيانات، القادرة على توليد رؤى ومعرفة جديدة من خلال قدرات مثل الفهم والاستدلال والإدراك، والتي كان يُنظر إليها على أنها قدرات فريدة للبشر. لكي نطلق هذا المصطلح على آلة يجب أن تكون قادرة على التعلم، وجمع البيانات، وتحليلها، واتخاذ قراراتٍ بناءً على عملية التحليل بطريقة مستقلة تحاكي طريقة تفكير البشر، ما يعني توافر 3 صفات رئيسة هي: القدرة على التعلم (أي اكتساب المعلومات ووضع قواعد استخدام هذه المعلومات)، وإمكانية جمع وتحليل هذه البيانات والمعلومات وخلق علاقات بينها، واتخاذ قرارات بناء على عملية تحليل المعلومات. ويقدّر الخبراء أن الذكاء الاصطناعي سيغير حياتنا في المستقبل، ويمكّن مجموعة واسعة من القدرات والتطبيقات الجديدة، وأنه لم يعد تقنية مستقبلية فحسب، ولكنه مطلب أساسي في الحاضر الذي نعيش فيه، وبدأ يتغلغل في العديد من البلدان والمنظمات في السنوات الأخيرة. وبفضل الكفاءة التي تقدّمها التقنية، بدأ العلماء بتطبيق الذكاء الصناعي في القطاع الدفاعي، وزيادة استخدام الأنظمة المسيّرة، الجوية والبحرية والبرية، وآليات الصيانة وأنظمة القتال، والتعلّم العميق، وعلم الروبوتات، ومن المؤكد أن هذه التقنيات ستوفر تأثيرًا خارقًا في الإستراتيجيات العسكرية.

الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري

يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا كبيرًا في تعزيز القدرات العسكرية التقليدية والمتطورة، فعلى المستوى التشغيلي، يعزز الذكاء الاصطناعي من القدرات العسكرية عبر إمكانات (الاستشعار عن بعد، والإدراك اللحظي للمتغيرات، والمناورة، واتخاذ القرار تحت ضغط). أما على المستوى الإستراتيجي التكتيكي في صنع القرار العسكري، فستتمكن أنظمة القيادة المعززة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من اكتساب القدرة على اتخاذ القرار السريع -بل والتلقائي- بناءً على المعلومات المعززة، وهو الأمر الذي يُجنّبها الأخطاء البشرية، ويُكسبها ميزة تنافسية مقارنة بأنظمة اتخاذ القرار التقليدية. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] التكنولوجيا في المجال العسكري[/caption] وستتمكن الأنظمة المعززة بتقنيات الذكاء الإصطناعي من التوسع في مجموعة المهام التالية: الاستطلاع ودقة تنفيذ الضربات، واختراق الدفاعات الجوية المتطورة متعددة المستويات، كما ستقدم تلك الأسلحة المدعومة بالذكاء الاصطناعي خيارات إضافية لمجموعة من المهام الاعتيادية مثل إزالة وزرع الألغام، ونشر وجمع البيانات، ومهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وشن الحرب الإلكترونية، والعمليات غير القتالية، والدعم التوجيهي للصواريخ لدقة عمليات الاستهداف. ويمثل تطوير أسلحة بتقنيات الذكاء الاصطناعي مضمارًا جديدًا تتسابق فيه القوى العسكرية المؤثرة في العالم، لتصبح الغلبة في معارك المستقبل لمن ينجح أكثر في تطبيق هذه التكنولوجيا في ساحات القتال. وستكون الأسلحة الذكية قادرة على أن تختار أهدافًا معينة وتشتبك معها دون الحاجة إلى تدخل إضافي من العنصر البشري، بحيث تحل محل الجندي شيئًا فشيئًا. وبالفعل شُغِّلت تقنيات الذكاء الاصطناعي في أماكن النزاعات في العالم، فمعظم أنظمة الأسلحة الحديثة يشغله البشر عن بُعد، ولكن بعضها تحوّل إلى التحكّم الذاتي، وتتوجّه التكنولوجيا العسكرية تدريجيًّا نحو الروبوتات التي تعمل تلقائيًّا في المستقبل القريب. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] تكنولوجيا الروبوتات[/caption] في حين وُصفت تكنولوجيا الروبوتات ونظم الأسلحة ذاتية التشغيل، إلى جانب ابتكارات أخرى حديثة، بأنها تمثل "الثورة الثالثة في الحروب"، وفسرها البعض على أنها أحد مخرجات "الثورة الصناعية الرابعة"، فإدماج الذكاء الاصطناعي معها من المتوقع أن يُحدث آثارًا تحولية في مستقبل الحروب والتوازن العسكري عالميًّا، وبناءً عليه، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري سيؤدي إلى إدخال متغير جديد في المعادلة العسكرية، ولن تتساوى فيه الجيوش التي تستخدم تلك التكنولوجيا الجديدة مع غيرها.

نماذج لأسلحة الذكاء الصناعي

بالعودة إلى مراسم افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2018 في كوريا الجنوبية، فقد شهدت استعراضًا شاركت فيه 1218 طائرة من دون طيار ذاتية التحكم، ومزودة بأضواء لتشكيل صور معقدة في سماء الليل فوق مدينة "بيونج تشانج".. تخيّل أنه بالإمكان استخدام أنظمة التشغيل الذاتي هذه حاليًّا لتتغلب في ساحة معركة حقيقية على أسلحة مدمرة حقيقية وتحولها إلى رماد! سيؤدي إدماج الذكاء الاصطناعي في نظم الأسلحة ذاتية التشغيل والروبوتات إلى التوسع في استخدامها، وإلى الحد من قدرات أنظمة الردع الحالية، ولقد شهد استخدام أنظمة الأسلحة المعززة بالذكاء الاصطناعي، والتي تنفذ مهامها بالكامل دون تدخل بشري، توسعًا كبيرًا. ولا تزال تقنيات الذكاء الصناعي اليوم ضمن القطاع العسكري في إطار التدريب وليس التشغيل الفعلي لخوض المعارك، كما تطوّر كل من روسيا والصين تقنيات الذكاء الاصطناعي العسكرية على قدم وساق. وهناك سعي حثيث من جانب عدد كبير من الدول لتطوير أنظمة كاملة من الأسلحة ذاتية التشغيل، التي تسمى أنظمة الأسلحة الفتاكة المستقلة، LAWS، والتي يمكنها تحديد واستهداف وقتل أي شخص بمفردها. لقد تزايد الاعتماد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري بوضوح في الآونة الأخيرة، من حيث تطوير منظومات الأسلحة الحالية وإنتاج أجيال جديدة، كالدبابات الصغيرة التي تعمل تلقائيًّا. كما تعد الطائرات المسيرة القتالية أحد أهم مخرجات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فقد باتت مهامها لا تقتصر فقط على الرصد والاستطلاع والتجسس، وإنما أصبحت تقوم بمهام قتالية أيضًا، وفي ما يلي بعض الأمثلة على بعض الأسلحة المتوافرة حاليًّا:

المدفع الرشاش الكوري الجنوبي "سوبر إيجس" 2

قال المُصنّع الكوري الجنوبي للمدفع الرشاش "سوبر إيجس2": "أسلحتنا لا تنام كما ينام البشر.. هي تستطيع الرؤية في الظلام بعكس البشر، إن تقنيّاتنا تسد الفجوات في القدرات البشرية، ونريد الوصول إلى اليوم الذي ستستطيع برامجنا فيه تمييز ما إذا كان الهدف صديقًا أم عدوًّا، ومدنيًّا أم عسكريًّا". كُشف النقاب عن المدفع الرشاش الكوري الجنوبي عام 2010، ويمكنه تحديد، وتتبع، وتدمير هدف متحرك ضمن مدى يبلغ 4 كم، ويمكن لهذه التكنولوجيا نظريًّا أن تعمل دون تدخل بشري، لكن عمليًّا تُوضع ضمانات أمان تتطلّب تشغيلاً يدويًّا.

السفينة الحربية "سي هانتر" ذاتية التحكم

[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] السفينة الحربية سي هانتر[/caption] تملك الولايات المتحدة العديد من الأسلحة الحديثة التي تعمل ببرامج الذكاء الاصطناعي الحربية العسكرية، مثل السفينة الحربية "سي هانتر" ذاتية التحكم، التي صُمّمت للعمل لفترات طويلة في البحر دون وجود أي من أفراد الطاقم عليها، وهي قادرة –ذاتيًّا- على توجيه نفسها إلى داخل وخارج الميناء. واشتُرط أمر مؤقت من وزارة الدفاع في الولايات المتحدة عام 2017 للإبقاءَ على مُشغّل بشري، عندما يتعلق الأمر بالقتل باستخدام أنظمة الأسلحة ذاتية التحكم. هاروپ (مسيرة) نظام الطائرات دون طيار الإسرائيلية، هاروپ (أو هارپي 2)، كان من أبرز الأمثلة في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.. هذه الطائرة المثالية لقمع دفاعات العدو الجوية مصممة للتسكع في ميدان القتال ومهاجمة الأهداف بتدمير نفسها فيها، ويمكن للمُسيَّرة العمل ذاتيًّا بالكامل، مستخدمة نظام التوجيه المضاد للرادار، أو يمكن ضبطها على نمط التوجيه البشري.. إذا لم يحدث الالتحام بالهدف، ستعود الطائرة وتهبط ذاتيًّا في القاعدة. طائرة "هابري" دون طيار المضادة للرادار "اضرب وانس" صُمّمت طائرة هابري دون طيار المضادة للرادار في إسرائيل لتُطلقها القوات البرية، وتطير ذاتيًّا فوق منطقة معينة، لتجد وتدمر الرادارات التي تطابق معايير مُحدّدة مُسبقًا. الطائرة الروسية المسيرة "الصياد" (أوخوتنيك) يطلق عليها طائرة عصر الذكاء الاصطناعي، وتدشن- بحسب الخبراء- لعصر المعارك "الذكية" التي تستخدم فيها آليات عسكرية خالية من الطاقم البشري، أُعلِن عنها عام 2019، وتسعى روسيا من وراء هذه النوعية من الطائرات لتغيير الملامح الخارجية لحروب المستقبل، كما استفادت روسيا من مشاركتها في الحرب على الأراضي السورية لاختبار أحدث أنظمتها المسيّرة، البرية منها والجوية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر منظومة URAN-9 البرية القتالية التي استخدمتها في المعارك في سوريا، بالإضافة إلى أنها تطوّر دبابة أرماتا المُسيّرة ضمن برنامج شتروم.

السياسيون والنظر إلى أهمية الذكاء الاصطناعي

مع التغييرات الحاصلة في أنواع الحروب في العالم، من مباشرة إلى حرب بالوكالة إلى الحرب الهجينة إلى الحرب اللا تماثلية، تقف الدول الكبرى قاب قوسين أو أدنى من تصدّر الاعتماد على القوة العسكرية اللا تقليدية، والمعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي العصرية، فلا تعد تهويلاً أفلام الخيال العلمي، التي تتخوّف من سيطرة الآلة على الإنسان وتتّخذ قرارات مصيرية بدلاً منه، بعدما أصبحت أقرب إلينا مما نظنّ، فقد باتت القوى الكبرى تخصص جانبًا كبيرًا من ميزانياتها الدفاعية للإنفاق على تطوير تكنولوجيا الذكاء، ما ينبئ ببزوغ عصر جديد من الحروب.. إنه عصر الذكاء الاصطناعي. بين كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، سباق مشتعل في تطوير تكنولوجيا عسكرية معتمدة على نظم الذكاء الاصطناعي، فعلى سبيل المثال، شرعت هذه الدول في تعزيز برامجها الصاروخية والنووية بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بما يجعلها قابلة للانطلاق وتدمير الأهداف المحددة مسبقًا في حالة استشعارها أي خطر أو هجوم عليها. تنطلق هذه الدول من حقيقة أن نجاحها في تحقيق أسلحة ذات تقنيات تكنولوجية متطورة، يضمن لها عامل التفوق في أي صراع محتمل، ما يعزز مكانة كل منها ونفوذها السياسي في النظام الدولي، وهذا ما عبر عنه بوضوح وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر خلال مؤتمر عقد في واشنطن في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، حين قال: "الدولة التي سوف تسخر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أولاً سوف تكون لها ميزة حاسمة في ساحة القتال لعدة سنوات مقبلة". [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر[/caption] وهو نفس المعنى الذي عبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حين قال في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية عام 2019: "من يستطيع تقديم ابتكارات تكنولوجية في هذا المجال، سيتمكن من التحكم بالعالم". لكن المؤسف أنه في مقابل تزايد الطلبات التجارية والعسكرية على الذكاء الاصطناعي، يتراجع حجم الإنفاق المتعلق بالصالح المجتمعي مثل معالجة تغير المناخ، وتحسين الاستجابة للكوارث، وتعزيز القدرة على الصمود، ومنع ظهور الأوبئة، وإدارة النزاعات المسلحة، والمساعدة في التنمية البشرية. والتحدث عن الذكاء الاصطناعي باعتباره سباق تسلح يعني تجاهل العديد من مجالات تطويره، مثل إمكانية تحسين نتائج الصحة العامة، والتي قد تفيد جميع البشر، فالخوارزميات التي تكشف السرطان أفضل، على سبيل المثال، من الممكن أن تقلل بنحو ملحوظ تكاليف الرعاية وتزيد من دقة التنبؤ بالمرض في مراحله المبكرة. وسوف تستفيد مجالات الذكاء الاصطناعي من التعاون والاستثمار متعدد الأطراف، ولكن التهديدات الأمنية المحتملة والمترتبة على التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، تشمل الأمن بمفهومه الواسع الذي يتضمن الأمن الرقمي (مثل التصيد الموجه والتزييف العميق والتصنيع الصوتي، وانتحال الهوية، والتسلل الآلي والتطفل على البيانات)، والأمن المادي (مثل الهجمات المنفذة من أسراب الطائرات دون طيار)، وأخيرًا الأمن السياسي (مثل عمليات المراقبة والخداع والإكراه).