هشام الحمامي يكتب: د. الجوادى وإنجازات الـ (أنا) .. له ولنا!.

ذات مصر

رحم الله د محمد الجوادى طبيب الفلاسفة وفيلسوف الأطباء.. الأولى غير متأكد منها، لكن الثانية مؤكدة بطبيعة الحال وكلمة فيلسوف هنا إشارة إلى موسوعية.. الرجل لا إلى تخصص مغلق على هذا النوع المدهش من المعرفة والفكر.. لكن الرجل بحق له قرابة قريبة به، فقد كان رحمه الله دائم التساؤل والطرق على أبواب المعرفة ليقرأ ويعرف.. وقد عرفنا به ومنه الكثير والكثير في سهولة ووفرة.    

غزير الإنتاج، دائم النشر، واسع الحضور، صفات اعتبرها د/ الجوادى مفتاحا سحريا لفرض (اسمه) فرضا على جدار زمنه وعصره، ونتحدث هنا عما هو كمي.. وبدرجة ما عن ما هو نوعي، ونحن في حاجة حقيقية إلى الإثنين .. 

***

صحيح أن النوعي يشق لنفسه في مسار الزمن طريقا متفردا خلابا .. لكن الكم له أيضا حساباته التي تملأ المجال وتنطق بواقع الحال أرقاما بعد أرقام. 

في هذا الصدد سيكون علينا أن نتذكر وفورا .. الأستاذ الدكتور محمد كامل حسين رحمه الله (ت/1977م) أستاذ العظام الشهير وصاحب الرواية الواحدة (قرية ظالمة) والعدد المعدود من الأعمال الأدبية والدينية.. لكن كل ما قاله بقى .. وبقي علما متفردا على عقله وفكره وأثره العظيم. وحين تذكر الدكتور محمد كامل حسين سيتبادر إلى ذهنك في الحال صورة واحدة تنطق له .. لا عشرات الصور الناطقة به. 

***

وأحب بالفعل هنا أن أقف قليلا وأشير بأصبع الحيرة عن(المكانة)التي يجب علينا أن نفسحها للرجلين فوق رؤوسنا، إكراما وعرفانا .. وسنسأل هنا سؤالا صريحا.                                                           

هل كان الزمن والعصر الذى ظهر فيه الدكتور كامل حسين هو الذى صهر هذه الشخصية الكبيرة و أخرجها لنا وجعلها على ما كانت عليه؟.. 

وهل كان الزمن والعصر الذي ظهر فيه الدكتور الجوادى هو الذي صهره وجعله على ما كان عليه بيننا ؟؟ .. وصح ما يقولون من أن الإنسان بن تاريخه الاجتماعي.

***

نحن نتحدث هنا عن زمن بين زمنين ووقت بين وقتين، ما في ذلك شك ..                                  

زمن أنجب لنا عظماء تاريخنا كله، رعاهم بذرا وتعهدهم جذرا، وأفسح لهم أغصانا وثمارا في سماء مجده ومجدهم وهو الزمن (1920/1950م)..الزمن الذى التي امتدت عطاياه بالثمر الشهي.. وبقيت وما كان لها إلا أن تبقى .. فهي حقائق تاريخية خالدة.

في الوقت نفسه الذى كانت هناك بذور جديدة، توضع في زمن جديد، بمناخ مختلف تماما، في كل شيء .. بلا أي نوع من الاستثناءات .. وليس هذا موضوعنا هنا. 

***

الحاصل أن كل بذور هذه الفترة المقصودة (1950/1980م) كانت جذورها ونماءها، في قلبها الستينى والسبعينى، و هي هي التي بيننا الأن.                ستمتد (ثلاثون مبارك) وتحوي بذورها وجذورها وثمارها بما يمكن معه أن نتخذ الصعود والانحدار من 1920 إلى 1980م.. مقياسا لما هو متوقع.. مع ثبات كل العوامل المحيطة ..(ثلاثون)صعود وارتفاع ، وثلاثون انحدار وهبوط ..                                                                                                             

طبعا الكلام لن ينتهي كما أشرت قبلا والمتكلمون هنا سيكونون عاطفيون بأكثر مما ينبغي للأسف ..                         

ستسمع كلاما كثيرا وضجيجا أكثر، لكنك لن تجد في نهاية كل ذلك إلا يديك تتقلب بين يديك ..

خاصة إننا سندخل من(الخمسينيات)عصر ما أسماه الرجل الكبير جدا المستشار طارق البشرى (ت/2020م) رحمه الله عصر (الأمن والإعلام) .. وما يحدد طبيعة أي نشاط هو فى النهاية.. هدفه.

***

الحاصل أننا أمام الثلاثين الصاعدة سنكون أمام حالة نوعية من أنواع التميز والتفوق والإبداع الناطق بذاته دون حاجة إلى الدعاية الزاعقة حوله ..      عكس الحالة التي سنراها ثقيلة العنوان الدعائى في جيل السبعينيات (البذور التي غرست وولدت في الخمسينيات) بكل تياراته الدينية والسياسية والفكرية .. 

الدكتور الجوادى كان علم على هذا الجيل، سنجد أن الدعاية الذاتية حول إنتاجه وجهده الكبير أضعاف أضعاف ما فعله وقاله عن نفسه مبدعا ورائدا كالدكتور محمد كامل حسين .. رغم الفارق النوعى الكبير بين الرجلين .. ود/الجوادى نفسه كتب كتابا جميلا عن الدكتور كامل حسين، سيرة وترجمه ممتازة.. 

***

يقولون أنه كلما كان الليل أشد ظلمة، كانت النجوم أكثر سطوعًا ..ولنوسع دائرة المعنى معنا وللنظر الفارق الضخم مثلا بين الحركة الإسلامية في الأربعينيات ..والحركة الإسلامية في السبعينيات

 نفس القول سيصح تماما مع التيار الليبرالي الذى كان حضنا وسيعا لأفكار وأخلاق المصريين.. ثم أصبح مثالا مقززا للاستغلال والتعالي الطبقي ..                                                                                   

ناهيك عن التيار اليسارى أبو التضحيات والعطاءات والذي سنجده في السبعينيات على النقيض التام، إذ سيسعى أهم رموزه إلى الاغتراف والعب من المال واكتنازه والجري اللاهث خلف الشهرة والنجومية كما تقول الراحلة اروى صالح(ت/1997م) رحمها الله في (المبتسرون). 

***

سيأخذنا كل ذلك إلى النظر الأبعد في ما يمكن أن يوصف بـ (حب التفوق والتميز بغير هدف نبيل) كما يقول لنا الكاتب الروسى الكبير مكسيم جوركى في الجزء الثاني من سيرته (معترك الحياة) ترجمة ا/ سعد توفيق .. ..                                                                                                                  

لكن ما هو (التفوق والتميز بغير هدف نبيل)..؟ ويبدو انهما كانا موجودين بكثرة أيام الكاتب الكبير.. وهم موجودون في كل عصر على أي حال، وهى حالة إنسانية أشار إليها القرآن ككثير من(سوءات)الإنسان الأخرى (الشح، الهلع ، الجدل ..الخ) .

***

في (الوعى الإسلامي بالشخصية الإنسانية) لدينا أية كريمة تتحدث عن الذين لا يريدون (علوا في الأرض ..) .. وهو أمر متوقع من دين يحض اتباعه على النظر البعيد في قصة (الأهداف والغايات)  ..                             

فاذا كانت النهايات تحاصر المكان كله، وتبحلق فيه من كل جانب، فيجب على المرء أن يتحلى بالكثير من العقل والقليل من الذكاء .. الذكاء نعمة جميلة لكن العقل نعمة جليلة .. وشتان بين الإثنين.                             

ولا يتطلب الأمر في الحقيقة ذكاءَ كثيرا حتى تعبر الجسر بأمان وهدوء واحترام .. والأهم وحتى تتحقق حقيقتك في نفسك، فتذهب بها إلى حيث يجب أن تكون. 

وفى(الوعى الإسلامي بالشخصية الإنسانية) أيضا سنجد أن هناك أية كريمة تتحدث عن الذين يذهبون بعيدا في النظر للـ (أنا) .. و آه يا أنا .. من أنا .. !! .

ولدينا في ذلك وعيا عميقا بذاتنا ..                                                                                              

 ويطرحه القرآن الكريم في تساؤل مثير للتفكير، حول تلك الذات حين تتيه مشرئبه برأسها متدلهه تائهة في شيء من الزهو: كما جاء في سورة النساء (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم، بل الله يزكي من يشاء ولا يُظلمون فتيلا). 

وأي عاقل سيدرك ذلك ولدينا كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من العلماء وأكابر الفضلاء، وسيكون هناك من يتعثر ويقوم وينهض، ويعلمنا كيف قام ونهض ..ثم كيف قام ونهض وهو يسير في طريقه إلى المعاد .. 

(الإنسان الرباني) الخلوق يحب المعرفة والوعي و يعتصم كثيرا بقوة الصمت ..ولا يميل إلى الحشد المعلوماتي الزاعق في مباريات الذكاء والتفوق.. 

***

رحم الله الدكتور محمد الجوادى الذى وظف ذكائه الكبير في تجميعات وتلخيصات أضافت الكثير والكثير للمكتبة العربية ..وأيضا في كتابة السير والتراجم ..

 لكن الأستاذ العقاد(ت/1964م) رحمه الله جعل المسألة ذات معيارعالى وعامر بالمعنى فى(العبقريات)عند الحكم على جودة وقوة تناول الشخصيات التاريخية .. فكشف لنا الكثير حول كتابة… والفارق بينها وبين كتابة أخرى .. 

كل ذلك كان من السمات المميزة التي انتقلت مع د/ الجوادى من عالم أوائل الطلبة إلى عالم أوائل المثقفين .. 

وتمنينا أن يكون ذلك لفترة وجيزة، ثم ينتقل بكل التجميعات وتراكمها الهائل ، تكثيفا وتركيزا، من خانة المثقف إلى خانة المفكر ..كما كان ورأينا في نموذج د/محمد كامل حسين ..                                                      

لكن الوقت لم يوافيه .. ورحم الله كل من قدم لأمته وبلاده، ولو أقل القليل مما يستطيع ..                                              

        وما قدمه د/ الجوادى رحمه الله لم يكن أبدا قليلا.