هلال عبدالحميد يكتب: ٣٠ يونيو والمعلمون ووفاة مدير مدرسة يحمل القروانة

ذات مصر

               (١ )
    أنهى مسعود  المعلم الثلاثيني يومه الدراسي بإحدى مدارس السلام بالقاهرة، خرج من باب المدرسة ، ركب التوك توك الذي يعمل عليه بعد يومه الدراسي الطويل ،  على شماله كان سور المدرسة يمتلأ بشعارات قرأ أحدها سريعًا وكان يحفظه  ( قم للمعلم وفه التبجيلا ، كاد المعلم أن يكون رسولًا) .


ابتسم قائلًا ( بلد شعارات صحيح ) على بعد أمتار أشار اليه ثلاثة شباب اركبهم، طلبوا توصيلهم لمنطقة النهضة ، وبقرب مدرسة آخرى رأي مسعود على سورها  شعارًا آخر ( نحن شركاء في بناء شخصية أبنائكم من أجل مستقبل مشرق ، واحترام المعلمين واجب الجميع ) ردد ( بلد شعارااااا ….) وقبل ان يتم جملته عالجه ( زمبة )  أحد الركاب الثلاثة  خلفه بضربة على  أم رأسه ،  فتمسك مسعود بمقود التوك توك وتشبث بمصدر رزقه،  فازدادت الضربات، ولفوا ذراعيه خلفه  وقاموا بذبحه ، والقوا جثته على الوجه تحت شعار المدرسة ( نحن شركاء في بناء شخصية أبنائكم …)
                  (٢) 

      قبيل وقفة عيد الأضحى وشهر يونيو يودع أيامه الأخيرة  أغلق الأستاذ سليمان مدير المدرسة  بإدارة المنيا التعليمية   باب مدرسته بعد إن نظفها كبقية مدراء المدارس منذ ان امتنع نظام يونيو عن تعيين معلمين أو عمال بالمدارس، نظر أستاذ سليمان  إلى شعار ( التعليم طريقنا للجمهورية الجديدة ) ومكتوب تحت الشعار : تحت رعاية حزب …( اسم حزب من أحزاب  الموالاة التي جهزتها الأجهزة بالجمهورية الجديدة لتشكل مستقبل الوطن وتحميه وتمثل على شعبه. 

المدرس سليمان


 ذهب  الأستاذ سليمان  الى بيته وخلع ( بدلته الوحيدة )  وقضى يوم العيد بين أسرته قائلًا : عيد بأي حالٍ عدت يا عيد  ،وفي اليوم الثاني للعيد  لبس ملابس عمله كعامل بناء وخرج ليؤدي عمله الإضافي لعله يعيش .
كانت الأيام الأخيرة من يونيو قائظه كالعادة ، تحت وهج شمس يونيو الحارقة و(قروانة المونة ) فوق كتفه  لفظ أستاذنا وزميلنا أنفاسه الأخيرة 
           ونحن نردد ( قم للمعلم وفه  التبجيل كاد المعلم ان يكون رسولًا ) لشاعر القصر وأمير الشعراء: أحمد شوقي 
                   (٣) 
في محطة قطارات أسيوط  حاول الأستاذ  جمال جرجس النزول من قطار الدرجة الثالثة ليلحق لجنته والتي  جاء إليها من مركز أبو قرقاص بالمنيا ليؤدي واجبه القومي -كوصف الوزارة-في مراقبة الامتحانات بمحافظة أسيوط الشقيقة ، التحق زميلنا جمال جرجس بالرفيق الأعلى بدلًا من لجنة الامتحانات ، وكان الأستاذ جرجس المكلف كمراقب بالامتحانات قد خرج من بيته قبيل الفجر 
                    (٤) 
وفي  منتصف يونيو الجاري أيضاً وبمحطة قطارات  ( ابوقرقاص ) بسوهاج لقى الأستاذ ( عزت فاررق إسكندر) مصرعه تحت  عجلات قطار الدرجة الثالثة ، وهو يحاول النزول  منه مسرعًا كي يلحق لجنته بالثانوية العامة حتى لا يُتهم بجناية التهرب من آداء الخدمة الوطنية بالثانوية العامة!
          
             ٣٠ يونيو وتسيير الأعمال 
 
ما بين  مظاهرات ٣٠ يونيو ومحاولات تصحيح مسارات ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وتعيبن لجنة تسيبر أعمال بقيادة خلف الزناتي لنقابة المهن التعليمية بعد يونيو  ٢٠١٣ ، وقتل  الأستاذ مسعود صلاح الثلاثيني العمر  ومعلم إدارة السلام  التعليمية بالقاهرة  طعنًا وسرقة التوك توك الذي  يعمل عليه بعد يوم دراسي شاق في ٢٠١٩ 
ووفاة المرحوم سليمان محمد عبدالحميد  الخمسيني ومدرس العلوم ومدير مدرسة صفط الشرقية بالمنيا، وما بينهم من وفيات معلمين بقطارات الدرجة الثالثة، أو في طوابير الصباح أو حتى أمام تلاميذهم في فصولهم المكتظة 
   قصص معاناة طويلة وممتدة، في سبيل الحياة، مجرد الحياة 
  ناهيك عن وصفها بـ( الكريمة ) 
    قصص مليئة بالمآسي وكاشفة عن مآسي الوطن/النقابة  وبعد أكثر من ١٠ سنوات على ثورة يناير والتي كان شعارها الأيقونة ( عيش -حرية- عدالة اجتماعية -كرامة إنسانية) وبعد محاولة تصحيح مسارها في يونيو ٢٠١٣، والمعلمون يفقدون كرامتهم وسبل عيشهم  عامًا بعد   ويحاولون استرداد حريتهم في انتخاب نقابتهم والتي تمتلك عشرات المليارات. بخلاف أصول لو تم استثمارها بشكل اقتصادي لعاش المعلمون ملوك زمانهم 
   يعيش المعلمون تحت خط الفقر، بل يعيش كثيرون جدًا  منهم تحت خط الفقر المدقع .


وفي ظل شعار ( يعمل إيه التعليم في وطن ضايع ) لرأس الدولة  وكتاب وزير التربية والتعليم والتعليم الفني للإدارات التعليمية  بضرورة كتابة بيت ( قم للمعلم وفه التبجيل كاد المعلم أن يكون رسولًا) على جدران المدارس ، والمعلم يخرج من أبواب تلك  المدارس  ليستقل التوك توك الذي يملكه أو يعمل عليه بالأجرة  اليومية ليلّقط لقمة عيشه ، أو يستغل أيام العطلات الرسمية ليعمل كعامل بناء 
 

حال المعلمين في مصر كاشف تمامًا للفشل الذريع لنظام ٣٠ يونيو ٢٠١٣ 
ومع احتفالنا بذكرى ثورة ٣٠ يونيو عند البعض  أو انتفاضة ٣٠ يونيو عند البعض ، أو انقلاب ٣٠ يونيو عند آخرين ، لقى الزميل سليمان محمد عبدالحميد المعلم الخبير لمادة العلوم ومدير مدرسة صفط الشرقية بمدينة المنيا مصرعه كعامل بناء في  ثاني أيام عيد الأضحى، لفظ زميلنا  أنفاسه الأخيرة تحت لهيب شمس يونيو الحارقة وعلى كتفه ( قروانة المونة ) ليناولها للمعلم البناء 
 

  هل تتخيلون بلدًا يعمل فيها المعلم كسائق توك توك أو عامل بناء وغيرها الكثير من الأعمال التي نقوم ونحاول القيام  بها -نحن المعلمين وأصحاب المعاشات منا  - في أيام العطلات الرسمية أو بعد ساعات العمل الرسمية،أو بعد خروحنا للمعاش  بينما ترفض الحكومة حتى تعيين بديلًا عمن يخرجون للمعاشات، فأصبح المعلم يعمل ٦ حصص يوميًا حتى يومه الأخير 
 

 تخيلوا أن الزميل سليمان كان يؤدي عمله كمعلم وكمدير مدرسة ويعمل كعامل بناء في أيام العطلات ليسد رمق أولاده ، وهو في نفس الوقت عضوًا ، بل وامين عضوية بمركزه  في حزب من أحزاب الموالاة له ٢٣ عضوًا بمجلس النواب و١١ بمجلس الشيوخ ومنهم رؤساء ووكلاء وأمناء سر بلجان المجلسين ، وعلى الرغم  من ذاك فإن زميلنا المرحوم سليمان لم يجد نائبًا من أحزاب مصر المصنوعة على أعين الأجهزة ، ومجالسها المرسومة رسمًا دون أي تدخل من الناخبين ، لم يجد المعلمون نائبًا  يطالب الحكومة، لا يستجوبها -لا سمح الله – ويحعلها تحاسب المعلمين على أساس مرتبات ٢٠٢٣ بدلًا من أساس عام ٢٠١٤ ، كي تقتطع معظم ما يتقاضونه 
وإذا كانت أجهزة نظام ٣٠ يونيو قد أممت الأحزاب والسياسة والبرلمان وعطلت انتخابات المحليات من الأساس ، فإنها لم تدخر جهدًا  لتأميم نقابة المهن التعليمية منذ ٢٠١٣ وعينت الأجهزة لجنة لتسيير الأعمال لتدير أكبر وأغنى نقابة مهنية في مصر والوطن العربي ، نقابة تمتلك عشرات  المليارات السائلة ، وأصولًا بمئات المليارات ما بين أراضٍ وفنادق ومطاعم وكافيهات ومدارس خاصة  ومستشفيات ووحدات بمدن شاطئية ، بينما يعيش منتسبوها دون نقابة منتخبة ودون أية خدمات ، -أنا اتقاضى معاش نقابة كل ٣ شهور بمبلغ ٣٥٠ جنيهًا الشهر يقل عن ١١٧ جنيهًا، ولا أجد أية خدمات صحية بمستشفيات النقابة. 

  وعلى الرغم من حصول المعلمين وفي مقدمتهم النقابي المناضل دكتور محمد زهران وهو الذي ترشح دون حزب أو تيار ضد مرشح الإخوان ولم يفز عليه الأخير بتنظيمه وامواله الا بأصوات قليلة 
بينما حصل هو على أحكام قضائية بوقف لجنة تسيير  الأعمال وتعيين أقدم ٥ نقابيين واجراء انتخابات خلال ٦ أشهر ، إلا ان أجهزة ٣٠ يونيو تعطل تنفيذ الحكم ، وتصر على وضع النقابة بكل فلوسها تحت  إدارة لجنة تسيير أعمال تكره المعلمين ويكرهونها ، بينما اعتقلت الأجهزة محمد زهران ويحيى المنشاوي وسمير الغريب وهم منافسوا الاخوان الرئسيون بعد ثورة يناير  فإنها رفضت تتفيذ الأحكام القضائية وسلمت النقابة لرجالها تسليم مفتاح 
يا ترى لماذا تكره ٣٠ يونيو الانتخابات فتعطلها أو تمنعها ، أو تتدخل فيها فتحولها لمهزلة؟! 
ومتى يجد المعلمون مكانًا آمنًا لهم تحت الشمس فينتخبوا ممثليهم لإدارة نقابتهم 
اعتقد أن حق كل زملائنا وعلى رأسهم من لاقوا وجه رب كريم -حق المعلمين  وأسرهم في حياة كريمة يستوجب تنفيذ الأحكام القضائية بوقف لجنة تسيبر الأعمال وتسليم النقابة لاقدم ٥ نقابيين برئاسة دكتور محند زهران الحاصل على اعلى الأصوات في آهر انتخابات أجريت بالنقابة في ٢٠١١ 
ليقوموا بتعديل  قانون نقابة المهن التعليمية رقم ٧٩ لسنة ١٩٦٩ واجراء انتخابات حرة نزيهة 
 هل آن الآوان أن  تترك الأجهزة الأمنية النقابات لأصحابها ، والانتخابات للناخبين، ونتحول فعلًا لجمهورية جديدة فعلًا ، لا شعارًا بلا  مضمون تحته كشعار وزارة التربية والتعليم ( قم للمعلم وفه التبجيلا ، كاد المعلم ان يكون رسولًا) 
رحم الله كل شهداء المعلمين وشهداء الوطن بجميع المهن ، والهم أهلهم الصبر والسلون.