على الصاوي يكتب: الحيّ أبقى من الميّت

ذات مصر

"كن إنسانًا لا أكثر" عبارة لا تتطلب جهدًا كبيرًا لتطبيقها كمنهج عملي وواقع حياة لتنعم البشرية بحياة آمنة مستقرة، بعيدًا عن معاني الكراهية التي صبغت حياتنا وطغت على كل تصرفات البشر في هذه الحقبة الزمنية القاتمة، لذلك لا تعجب حين تكثر المظالم وتأكل الحروب المنطقة وتشرد أبناءها برا وبحرا غير مأسوف عليهم، لأننا بكل بساطة عجزنا عن أن نرقى إلى مرتبة الإنسانية متجاوزين حواجز الأنانية والطائفية والأثرة، التي أوحلتنا فيها السياسة والاستقطاب الآيديولوجي والمتاجرة بالدين والأوطان.

فبقدر ما ساهمت حركات الربيع العربي في تحريك الوطنية الراكدة بداخل الشعوب، وإثارة نخوتها لتشعر بوجودها كرقم صعب في معادلة التغيير، إلا أن الجراح التي لحقت ببعض الشعوب بعد ذلك ما زالت تنزف ألمًا واحتياجًا، ولا تمر ساعة إلا وتقرأ قصصا مأساوية يندى لها جبين الإنسانية خجلًا وحياءً، فتقف مذهولًا أمام نفسك، عاجزًا عن فعل شيء تجاه تلك القلوب المكلومة، وتسأل نفسك: هل نجحنا في الاختبار الأخلاقي تجاه بعضنا البعض أمام هذا السيل الجارف من المآسي والأحزان والمظالم الإنسانية، أم أننا سقطنا في بئر الخذلان ودفنا رؤوسنا في الرمال غير عابئين بجائع هنا أو شريد وطريد هناك؟ وهل كنا بحاجة لثورة على الأنظمة الحاكمة أم على أنفسنا؟

كان أجدادنا قديما يرددون مثلًا شهيرًا يقول "إن الحي أبقى من الميت"، وقد قرأت قصة حولت هذا المثل القديم إلى واقع عملي تجلت فيه أسمى معاني الإنسانية، وكم أتمنى تكرار هذه القصة في بلاد المشترك بينها أكثر من المختلف عليه، وتحمل ديانة تُعد من أرفع الديانات حضًا على الرحمة والإيثار وكل معاني الإخاء والتضامن الاجتماعي.

وبطل قصتنا هو شاب كندي يعشق الترحال ويجوب البلاد طولًا وعرضًا ليمارس هواية السباحة وتسلق الجبال، لكنه توفي في إحدى مغامراته في اليابان بعد أن سقط من شاهق على رأسه ومات على الفور، ومن هنا بدأت البطولة، فقد جمع عدد من النشطاء مبلغا من التبرعات لنقل جثمان الشاب لدفنه في كندا، لكن أمرًا حدث لم يكن أحدا يتوقعه.

رفضت عائلة الشاب نقل جثمان ابنها إلى كندا، وبدلًا من ذلك تبرعت بالأموال لإحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، لتكون هذه الأموال بمثابة قبلة حياة لجمع عائلة سورية مشتتة بين كندا والأردن، فقامت دار الرعاية وبمساعدة بعض الكنائس وأسرة الشاب المتوفي بلم شمل مواطن سوري وزوجته وطفليه بوالدته وأخيه، بعد فراق دام خمس سنوات، ذاقت فيها العائلة مرارة الشتات، وعانت والدته من نوبات قلبية لبكائها الدائم على فراق ابنها، ونشرت وسائل إعلام كندية لحظة استقبال العائلة السورية في المطار، في حضور أسرة الشاب الكندي المتوفي أيضًا.

وفي وسط هذه الأجواء المفعمة بالمشاعر الإنسانية قالت شقيقة الشاب الكندي: "لو كان شقيقي موجودًا الآن لسعد كثيرًا بذلك العمل الإنساني". لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ساعدت العائلة الكندية الشاب السوري في تجهيز منزل من كافة أغراضه ليسكن فيه عزيزًا مكرمًا مع زوجته وأبنائه.

بعد هذا الموقف الإنساني الذي يبعث الأمل من مرقده داخل النفوس اليائسة، تذكرت قصصًا مشابهة لكثير من عائلات عربية في إسطنبول تعاني العنصرية والشتات، لا تقل ظروفها صعوبة عن الحالة بطلة القصة، لكنها لم تجد من يمد لها العون ويجمع شتاتها الممزق كأبسط حقوقها الإنسانية، وبالرغم من كثرة الجمعيات والمنظمات والأموال التي تنفق بسخاء على مؤتمرات وندوات وفعاليات تحت عناوين ثقيلة، إلا أن أصحاب الاحتياج الشديد ما زالوا خارج قائمة الاهتمامات، في صورة تعكس واقعنا المزيف برتوشه التجميلية التي تُقدس المظاهر ولا تأبه لواقع المهجّرين في شتى بقاع الأرض.

ما أحوجنا إلى منظومة تكافل حقيقية تساعد الحالات الإنسانية العاجلة بقدر الإمكان وتجمع شملهم ولو حتى بجهود ذاتية مستدامة، فليس هناك أصعب من مرارة الهجر والفراق، فحين نكون بلسم لحياة الحزانى والمنكسرين يكون لحياتنا طعمٌ آخر، فليس هناك شيء يَشفي من ألم النفس سوى اللمسات الإنسانية.