علي الصاوي يكتب: السيسي وأردوغان.. من المصافحة إلى القمة

ذات مصر

يقولون "إن المتغيرات في السياسة كالموت قد تنزل عليه بغتة وتأتيك من حيث لا تحتسب" ومن لا يضبط بوصلته السياسية على هذه الحقيقة ويكون جاهزا للتعامل مع مستجدات السياسة الطارئة لن يجد لنفسه مكانا على الطاولة، وعاش حياته السياسية يدور في دائرة الضعف الاستراتيجي وربما دفع الثمن خسارة سياسية ثقيلة تطرده خارج سباق المنافسة، فالمتغيرات في السياسة تطرق الباب على العاقل المستعد، بينما تدفع الباب على الغافل المستبد، والقدرة على التأثير في السياسة ليست لمن يجيد اللعب في مرحلة زمنية معينة، بل لمن لديه القدرة على مواصلة اللعب في كل مرحلة سياسية مهما اعتراها من تقلبات وتغيير.

تنتظر تركيا زيارة للرئيس عبد الفتاح السيسي لعقد قمة مع الرئيس أردوغان بعد سنوات من القطيعة الدبلوماسية بلغت عشر سنوات، لتأتي الزيارة تكليلا لجهود دبلوماسية بدأت بجولات استكشافية ناجحة تبعتها زيارات على مستوى الخارجية ثم مصافحة في مونديال قطر فتحت الباب لتبادل السفراء تمهيدا لقمة بين السيسي وأردوغان، ستُعقد نهاية هذا الشهر كآخر حلقة في اكتمال سلسلة عودة العلاقات كاملة.

أثمان إنسانية باهظة دُفعت في طريق القطيعة الطويل قبل عودة العلاقات بين البلدين، نسج عليها كثير من المرتزقة وجماعات الإسلام السياسي لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والتموضع في خانة براجماتية بحتة أثقلت جيوبهم وسمّنت أبدانهم بأموال ساخنة سرعان ما تبخرت في الهواء كشعاراتهم الكاذبة، فكان لصانع القرار التركي أن يبدأ مبكرا في وضع صياغة جديدة لما هو قادم وإن كانت بطيئة ومتأنية وحَذرة، حفاظا على مصالحه والعودة إلى المريع الأول وفقا لمقتضيات المرحلة وتمدد النفوذ.

رغم الخسارة التي لحقت بتركيا في السنوات الماضية بسبب سياستها المنحازة لجماعة الإخوان، إلا أنها بدأت تجنى حصاد تلك السياسة الضاغطة، فأعادت ترتيب علاقاتها وتحسينها مع الدول المجاورة من منطلق أمر واقع جديد فرضته وحدّدت فيه معالمه، أيقظ المارد التركي ومددت أذرعه في أغلب الملفات الساخنة في المنطقة كصانع ألعاب سياسي لا يستهان به، وكانت الأوراق كثيرة في هذا الصدد منها دعم جماعة الإخوان المسلمين، وتبنى خطاب عاطفي يؤجج المشاعر ويستقطب دراويش السياسة ممن لا يعرفون ما وراء الأكمة، ويجهلون قراءة ما بين السطور، وتضعف بصيرتهم عن اسشراف المستقبل بفهم ووعي، واتباع سياسة الحقنة تحت الجلد التى تشربت بها عاطفة الجماهير لعدة سنوات، حقنة ناعمة لا تشعر معها بألم رغم أعراضها الواضحة في التأثير على التوجيه والسلوك والأفكار.

فشلت جماعة الإخوان في تقدير المواقف السياسية لصانع القرار التركي وبقيت متمسكة بخطاب مظلومية عفا عليه الزمن وتصديره المشهد لتقتات به وتستجدي العاطفة طيلة السنوات الماضية، ولو وجدت غيره لما استكانت وضعفت وسقطت بين رحى المفاجآت السياسية، لكنها في الحقيقة لا تملك أى أوراق تساوم بها غير شعارات استهلاكية وروايات مُلفقة تخدر بها أتباعها دفعت بالمشهد نحو الجمود فأصابهم العقم السياسي، وفي النهاية ينسبون سقوطهم إلى موقف الدولة المصرية وتعنتها ونسوا المثل الروسي القائل: "إن الراقصة الفاشلة تتهم الأرض بعد الاستواء".

بلقاء السيسي وأردوغان في أنقرة ستبدأ مرحلة جديدة من التعاون السياسي القائم على تغليب المصلحة المشتركة الواعية وتقارب وجهات النظر في كثير من الملفات وتراجع ثِقل بعض تيارات الإسلام السياسي التى استمرت لسنوات تبحث لها عن مكان في أي جولة تفاوضية تُحسّن من وضعها على الخريطة السياسية ولو من باب الجرّ بالمجاورة.

لعبت المتغيرات الإقليمية والأزمات الاقتصادية دوراً كبيراً في فرض التقارب كخيار استراتيجي بين مصر وتركيا، وليس خياراً طارئاً للتخفيف من حدة الأزمات الداخلية وإرباك حسابات دول أخرى لعبت على وتر الخلاف التركي المصري لتحقيق مصالحها ومحاولة بعض الدول مد نفوذها على حساب مصر في العديد من الملفات بالإقليم.

كان لعنصر المفاجأة الذي اتسمت به خطوات التقارب بين مصر وتركيا دور في إحداث صدمة نوعية عند البعض، وإن لم يظهر عكس ذلك نظراً لخلط الأوراق من جديد وإرغام بعض التيارات لإعادة النظر في مواقفهم السياسية المتشددة تجاه ملفات بعينها، فمنهم من لزم الصمت وجلس يترقّب، ومنهم من هيأ نفسه لما هو قادم وغيّر لغة خطابه وأعاد هيكلة نفسه، وقد تجلى ذلك في تصريح لأحد الرؤوس الضخمة في المعارضة المصرية بإسطنبول، أن المعارضة تُطلق مبادرة لفتح صفحة جديدة من التفاهم مع الإقليم تتجاوز المرارات والخلافات السابقة.

تصريح عاقل أثمر ما بعده من تغيّر في لغة الخطاب وإبداء مرونة في التعامل مع الانفتاح السياسي الحالي والتعاطي باعتدال فيما يتعلق بالتقارب المصري التركي على وجه الخصوص، وإن كان ذلك خيار المضطر لكن هذه هى السياسة لا شيء فيها ثابتاً سوى المتغيرات.