د. هشام الحمامي يكتب: المسيري كان أكثر من مفكر وأكبر من سياسي

ذات مصر

خمسة عشر عاما مرت من أيام قليلة (3/7) على وفاة العلامة د/عبد الوهاب المسيري. نتذكر أشياء كثيرة ونتناسى أكثرها قيمة ومعنى. وإذا كان البدر يفتقد فقط في الليلة الظلماء، فان د/ المسيري يفتقد في كل الليالي. ليس فقط لقيمته وقيمه ما قدمه، ولكن لاتصاله في كل ما قدمه وتركه بما يتصل بنا وفينا وحولنا. فما من شيء في كل ذلك إلا وفيه من قبس المسيري شعاع مضيء.

ملأ الدنيا في حياته، وسيظل يملأها فكرا وسيرة وذكرى. والمدهش هنا هو حاجتنا إليه في وقتنا هذا أشد ما يكون الحاجة. 

فالرجل كان أكثر من كونه مفكرا شغله الفكر المجرد وانشغل به في بحوثه وقال ما قاله فيه ومضى. لم يكن المسيري كذلك. ومن نعمة الله عليه وعلينا. أن كل ما شغله وانشغل به، كان موضوعه وموضوعنا وهمه وهمومنا. 

فمن تجليات الدين والعقيدة في الإنسان والحياة. إلى تجبر الغرب واستعلائه في التاريخ والواقع. الى جرحنا المفتوح في فلسطين. مرورا بكل المحطات على طول هذه الطرق الشاسعة. المرأة، العلمانية، الاستهلاك، التعاقد، التحيز. الخ. 

***

ظاهرة حقيقية ومتميزة وفريدة في تاريخنا المعاصر، شمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي الذي يستند إلى أصالة وإبداع. رؤية عميقة للغاية، تؤمن بتعدد أبعاد الوجود الحضاري في العلم والمعرفة والأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع. 

الرجل كان بالفعل صاحب مشروع فكري تجديدي كامل. في كل ما يتعلق بالإنسان وأفكار الإنسان وحياة الإنسان ومصير الإنسان.

***

ولا تنطبق مقولة (المعاصرة حجاب) مثل ما تنطبق على المصريين في تعاملهم مع علمائهم ومفكريهم المعاصرين لهم، ولكم أن تتخيلوا قيمة أسماء بحجم جمال حمدان. ت/1993م صاحب (عبقرية مصر) وحامد ربيع. ت/1989م صاحب (نظرية الأمن القومي العربي)، وإبراهيم شحاتة. ت/2001م صاحب (وصيتي لبلادي). ومحمود شاكر. ت/1997م صاحب (رسالة في الطريق الى ثقافتنا) وحسين مؤنس ت/1996م وصاحب (أطلس تاريخ الإسلام) وعبد الوهاب المسيري. ت /2008م صاحب (الموسوعة الصهيونية) الخ. 

والمسالة بالطبع لا يبدو أنها مجرد صدفة. ولك أن تتخيل مركزية وأهمية وحساسية الموضوعات التي شغلتهم وأنتجوا فيها ما أنتجوه. وعليك إذن أن تدرك ما ينبغي إدراكه. ولتتسع تجاويف التناسي ومغائره.

***

سنتذكره في ذكراه العطرة وهو يقترب من موضوع من أدق الموضوعات وأكثرها حساسية. موضوع الفكر الإصلاحي والدولة الحديثة. وأتصور أن رؤيته في هذا الجانب قابلها الجميع بتجاهل مقصود!

 

 الإصلاحيون والدولة وأيضا السياسيون والمثقفون. في حين أن رؤيته هذه تمثل نقلة نوعية كبيرة على مستوى المفاهيم الحركية، قبل الفكرية والفلسفية. وهذه من مزايا المسيري البارزة. أنه كان دائما هناك، حيث ينبغي أن يكون. وحيث لا يمكن أن يكون إلا هناك. 

***

والمشكلة في هذا الجانب، أنه متعددة الأطراف، ويمثل فيه الغرب الفكري والسياسي طرفا هاما. ليس فقط لأن الغرب يعمل على تأطير سياساته في إطار فكرى يمثل رؤيته للإنسان والوجود. ولكن وهو الأهم هنا. لأن الغرب لا زال يعتبر نفسه في صراع مع الشرق. نعم. وهذه حقيقة من حقائق الواقع. 

نتغافل عن ذكرها كما هي بالصراحة الحادة الواجبة والتي هي بالطبع مزعجة للكثيرين. وخير شاهد على ذلك المسألة اليهودية. وأعني بذلك دولة (إسرائيل). وقد رأينا في الأيام الماضية كيف نظر الغرب الفكري والسياسي الى ما حدث في جنين. وما ينتظر له الحدوث في الضفة بأكملها. 

 

نحن بالفعل في أكثر أوقاتنا احتياجا إلى استدعاء ذكراه بيننا. ليس فقط في القضية المركزية الآن في علاقات الغرب بنا وهي (إسرائيل).

 

ولكن في كل الموضوعات التي تصنف بالفعل على أنها (موضوعات الضرورة). وكان الرجل رحمه الله في كل هذه الموضوعات أمينا مع منطق الفكر وأيضا مع منطق التاريخ. 

***

خذ مثلا رؤيته للخطاب الإصلاحي الجديد. سنرى فيه نقله نوعيه كبيره في الفهم والطرح العملي على الأرض، كذلك فضه لمغاليق العلمانية وتطويعها للفهم الإسلامي الصحيح. 

 

وهو الطرح الذي أحدث حاله فوضى شديدة لدى العلمانيين. وسمعنا للمرة الأولى عن العلمانية الشاملة. والعلمانية الجزئية. حتى جاء أروع عقل أوروبي على قيد الحياة الفيلسوف الألماني (هابرماس/ 94 سنة) ليبشرنا بمجتمعات ما بعد العلمانية.

 

وقل مثل ذلك عن الحداثة وما بعد الحداثة (رفض المرجعيات) والنماذج التفسيرية الدقيقة لكثير من المعضلات الفكرية المحيرة. فلفت الأنظار بقوة إلى خطورة فصل القيم الإنسانية والأخلاقية عن مجمل حياه الإنسان. فتصبح كل الأمور نسبيه ويصبح العالم ماده استعماليه.

 

حدثنا عن فكره فصل الدين عن السياسة. وقال إنها فكره عبثيه. لسبب بسيط وهو أن الإنسان لا يمكن تقسيمه وفصله إلى مادي ومعنوي. ديني وعلماني فكل هذه الجوانب متشابكة وممتدة.

ففصل الدين عن الدنيا يتجاهل البعد الإنساني والروحي في الإنسان. فيتحول الإنسان إلى كائن جسماني استهلاكي ليس له انتماء واضح بلا ذاكره تاريخيه. منشغل بتحقيق متعه الشخصية. يدور في دائرة ضيقه للغاية خارج المنظومة الأخلاقية والقيمية والاجتماعية.

 

لكنه رحمه الله كان يرى أن فصل (الدين عن الدولة) أمر مقبول. وسنفهم هنا أن السياسة ليست (فكرة الدولة فقط). وكأنه يتحدث الى الإصلاحيين الذين طالت نظرتهم طويلا طويلا الى الدولة ناصحا لهم في صوت شفوق وقوى وأمين

 فيقول: الإصلاحيون لا يريد الاستيلاء على الدولة. ولكنهم يريدون محاصرتها في أدوار محدده، لا ينبغي للدولة أن تزيد عليها _أي دوله_ حتى تكون الأمة هي الأقوى، والمجتمع الأهلي هو الأكثر نفوذا وتأثيرا في تصريف الحياة وإدارة شئون الناس! وللأسف لم يسمع أحد تلك النصيحة العميقة. 

***

وحين تحدث عن فكرة (المرجعية) قال: إن أي مجتمع لا بد له من (مرجعيه نهائية) نابعة من تراثه. ومن لم يكن عنده مرجعيه فسيستوردها من الآخر! وهذا صحيح تماما. 

 

سيحدثنا أيضا عن ملمح خطير في الحركات الإصلاحية. لا يدركه غير المسيري، فيطلق ما أسماه: الاختراق المعرفي السطحي. والاختراق المعرفي العميق. ويلفت نظرنا فورا، إلى أن كثيرًا من الإصلاحيين تصدوا للاختراق الأخلاقي السطحي، مثل الفصل بين الجنسين، وعدم الاحتفال بأعياد الميلاد والملابس وما إلى ذلك.

 

وفى الجانب الأخر ربما يكونوا غارقين في الاستهلاكية الرأسمالية التي هي جوهر العلمانية! 

وحكى أنه سأل بعض الإصلاحيين ماذا لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم المصارعة الحرة؟؟ فقالوا بالتأكيد لن يوافق عليها لأن المصارعين لا يرتدون الزي الشرعي..!! 

 

هم بذلك لم يدركوا إلا الاختراق الأخلاقي السطحي، أما الاختراق الأخلاقي العميق. المتمثل في فكره المصارعة والضرب والعنف فلم يدركوه. 

***

رحم الله الدكتور المسيري الذي لو كان في أمه أخرى لكان له شان أخر.

(أولو الفضل في أوطانهم غرباء تشذ وتنأى عنهم القرباء).