معوض جودة يكتب: فرنسا المحجوبة والرأسمالية المأزومة

ذات مصر

ما إن قتل الطفل نائل مرزوقي على يد شرطي فرنسي في باريس، حتى اشتعلت عدة مدن فرنسية، اعتراضا في ظاهره على مقتل الشاب الطفل، وفي باطنه احتجاجا على ركام اقتصادي ضرب عامة الناس.

بدا اللافت للنظر محاولة السلطات تحجيم الحدث، وإهالة التراب عليه، حتى لا يتسع الخرق على الراقع الفرنسي، وقد نجحت الأجهزة الأمنية في ذلك كثيرا.

 تم إبعاد وسائل الإعلام في تشييع جثمان الشاب، عبر أشخاص منعوا دخول الصحفيين والكاميرات إلى المنطقة التي تقيم بها أسرة الشاب القتيل.

بل إن الغريب المريب، هو إصدار عائلة الشاب نائل، بيانا طالبت فيه بعدم حضور الصحفيين إلى جنازته، وعدم وجودهم في أي وقت من أوقات يوم الدفن.

وجاء في بيان عائلة القتيل، الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، أن العائلة «تطلب من جميع الصحفيين عدم الحضور إلى موقع الجنازة، أو في أي وقت من أوقات يوم الدفن، وذلك احتراما لخيارها!!».

وهو أمر يثير الدهشة والريبة. فكيف بأسرة شاب مكلوم مقتول، تهيل التراب على فتاها، وتمنع وسائل الإعلام من تغطية جنازته وما يتعلق بها!!!. وما لوسائل الإعلام من دور سوى أنها تذكر الناس به، والسلطات تحاول جاهدة أن تجعله نسيا منسيا، وأن تعيد الهدوء للشارع والمدن التي ضربها طوفان من العنف والنهب والحرق وتخريب الممتلكات.

في الاعتراض الشعبي الفرنسي على قتل الشاب صورتان، أقلهما الاعتراض على عنف الشرطة وأرجحهما الاعتراض على الأوضاع الاقتصادية التي يعانيها المواطن الفرنسي، خاصة في ظل حالة مكرورة من التظاهر الساخط، بدأت بمظاهرات أصحاب السترة الصفراء عام 2018 اعتراضا على ارتفاع أسعار الوقود وغلاء المعيشة، ثم امتدت وتكررت التظاهرات العارمة على قانون نظام التقاعد.  وما بين هذه وتلك، كانت الحكومة الفرنسية تراهن على الوقت، وانصراف المتظاهرين إلى أشغالهم حينا، والزهق من كثرة التظاهر دون استجابة حينا آخر، حتى كانت حادثة مقتل الطفل نائل، فانفجر الشارع غضبا وعنفا وسرقة وتخريبا. ما يوحي أن الأمر أبعد من الاعتراض على حادثة قتل وقعت على شاب ذو جذور عربية، لا يلقى لمثل هذه الحوادث بالا طويلا، خاصة إن كانت الضحية ملونة أو ذات جذور غير أوروبية.

ومن مظاهر الخوف الفرنسي، والتراجع قليلا عن الحريات والحق في التظاهر، رفض السلطات والقضاء الفرنسي التصريح بمسيرة كان من المقرر تنظيمها السبت الماضي في باريس، تكريما لذكرى الشاب أداما تراوري، الذي توفي على يد الشرطة خلال عملية توقيف في 2016، ورفضت كافة الجهات التصريح بالمسيرة، واعتقلت السلطات شقيق آداما، وأوسعته ضربا بعد قيام نحو ألفي شخص بالتظاهر دون التصريح لهم.

بدا القلق إن لم تكن مظاهر الشيخوخة الرأسمالية على المجتمعات الأوروبية واضحة، فمطالب الشعوب وحاجات الناس صارت أكبر من قدرة الحكومات على تلبيتها، ولم يعد في جعبة العالم الثالث ما يسرقه العالم الأول، فباتت التظاهرات اعتراضا على حدث ما، بوابة نحو الانتقال لاعتراض آخر على الأوضاع الاقتصادية.

وليس من الرجم بالغيب القول إن التظاهرات العارمة، والاضطرابات المجتمعية، بعيدة عن العواصم الأوروبية، وحتى المدن الأمريكية. فالرأسمالية المتوحشة جعلت 90% من الثروة كل الثروة، في يد فئة أقل من 1% من جموع الناس، بل إن شركة مثل «آبل» كشفت عن تحقيقها إيرادات قياسية بقيمة 117.2 مليار دولار، خلال ربع العام الحالي، أي في ثلاثة أشهر، وكذا كافة الشركات العملاقة العابرة للجنسيات، تحقق عشرات، أو مئات المليارات من الدولارات، ربحا لا يضيف كثيرا للقاعدة الصناعية، أو الإنتاجية للبشرية. بل إن معظمها خصما من القدرة الإنتاجية للفرد والمجتمع، وإهلاكا للوقت وكافة الشركات العملاقة الربح، مرتبطة ارتباطا وثيقا بتكنولوجيا الاتصالات.

وفي ظل الخلل الرهيب في توزيع الدخل بين القطاعات المجتمعية لا أقول الأفراد، سيكون الاعتراض أو الصخب الجماهيري هو الحقيقة المؤجلة الحدوث، ولعل ما حدث في باريس رسالة أولية ستتبعها رسائل أخرى قريبا. ولعل الحرب الروسية الأوكرانية جاءت لقادة الرأسمالية على طبق من ذهب، لذلك نفخوا فيها من روحهم، وأطالوا أمدها، للتعمية على أوضاعهم الاقتصادية المأزومة، التي ستنفجر لاحقا حتى ولو كثرت المسكنات.