فراج إسماعيل يكتب: غليان في الخليج

ذات مصر

أتابع بقلق شديد تقارير الصحافة الأمريكية ذات الصلة بالمصادر الرفيعة ودوائر المخابرات المركزية CIA عن صراع النفوذ المكتوم بين أبوظبي والرياض، وهما أكبر دولتين عربيتين في الخليج، قادتا معا الحرب على اليمن، وتحالفتا في عدد الملفات الإقليمية والدولية.
كتب الباحث المستقل في الدراسات الشرق أوسطية والجغرافيا السياسية والاستخبارات طلال محمد في الصحيفة الأمريكية (فورين بوليسي) في 12 يوليو الجاري أن معركة الخرطوم اتخذت بعدًا إقليميًا، فكل من السعودية والإمارات، تعتبرانها فرصة لترسيخ مكانتهما المهيمنة في الشرق الأوسط. فبينما تدعم السعودية البرهان، تدعم الإمارات حميدتي.
إذا تم محاكاة النموذج الليبي، بتقسيم السودان إلى مناطق سيطرة لمراكز قوى متخاصمة، سيكون حميدتي شوكة في خاصرة البرهان الذي يكتسب شرعية دولية، وذلك يمنح الإمارات نفوذاً إضافياً في مستقبل البلاد، ويساعد على ترسيخ أبوظبي كقوة بارزة ناشئة في الخليج.
عقب الإطاحة بالبشير. قامت أبوظبي والرياض على الفور بتمويل المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى السلطة، بما قيمته 3 مليارات دولار من المساعدات. في ذلك الوقت، كانت المصالح السعودية والإماراتية في السودان متوافقة بشكل عام، وكلاهما ساعد في لعب دور في التحول الديمقراطي قصير الأجل في البلاد. 
اعتبارًا من عام 2018، استثمرت أبوظبي بشكل تراكمي 7.6 مليار دولار في السودان. منذ سقوط البشير، أضافت استثمارات أخرى بقيمة 6 مليارات دولار تشمل مشاريع زراعية وميناء على البحر الأحمر. 
في أكتوبر 2022، أعلنت الرياض أنها ستستثمر ما يصل إلى 24 مليار دولار في قطاعات الاقتصاد السوداني بما في ذلك البني التحتية والتعدين والزراعة.
الدولتان تتحولان لاحقا إلى المنافسة على السيادة الإقليمية التي تتصاعد الآن.
لفترة طويلة، كانت التوترات داخل الشرق الأوسط تتطلب من السعودية والإمارات إعطاء الأولوية للشراكة على حساب المنافسة. الآن رفع الأمير محمد بن سلمان تنافسه مع أبوظبي إلى درجة الغليان.
في السنوات الأخيرة دعمت العاصمتان التغيرات الجيوسياسية بالتغيرات الاقتصادية، إذ ركزنا على تنويع اقتصاداتهما بعيدا عن النفط، وصياغة أدوار إقليمية ودولية أكثر بروزا في الطيران والرياضة والبنى التحتية وغيرها من المجالات. 
تحولت الرياض في عهد بن سلمان من هوية يهيمن عليها الإسلام إلى القومية المفرطة، بينما تبنت أبو ظبي في عهد الشيخ محمد بن زايد سياسة ثقافية تعزز المزيد من التنوع الديني والقبول.
في اليمن تحالفا في الحرب على الحوثي، لكن منذ بدء الصراع في عام 2015، تباعدت أهدافهما تدريجيًا، حيث دعمت الرياض الحكومة المعترف بها دولياً للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بينما اختارت أبو ظبي دعم المجلس الانتقالي الجنوبي. أعطى هذا الإمارات السيطرة على العديد من الموانئ والجزر اليمنية - وبالتالي الوصول إلى باب المندب والقرن الأفريقي.
ثم خططت الرياض لبناء خط أنابيب ينقل النفط السعودي إلى ميناء نشطون البحري اليمني على الحدود مع عمان، وهو ما قد يقوض لاحقا المكانة الرئيسة لدولة الإمارات في نقل النفط والغاز، ويمنح المملكة مزيدا من السيطرة داخل أوبك.
تقرير الفورين بوليسي يلقي الضوء على دور مفترض تلعبه واشنطن في غليان الخليج، ويشير إلى أنها أصبحت مكانًا رئيسيًا للمنافسة السعودية الإماراتية، فعقب اتهام المخابرات الأمريكية للرياض في قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي في 2018، ما أدى إلى تجميد العلاقة بينها وبين صناع القرار الأمريكيين في السنوات الأخيرة، أتيحت لأبوظبي فرصة ذهبية لتحل محل الرياض كحليف عسكري خليجي مفضل لواشنطن.
فبينما علقت الولايات المتحدة مبيعات الأسلحة إلى السعودية بسبب الحرب في اليمن، اختارت إدارة ترامب تزويد الإمارات بالطائرات المقاتلة الأكثر تقدمًا، F-35. 
في 18 يوليو نشرت الصحيفة الأمريكية المرموقة وول ستريت جورنال ما أسمته "صراع الأخوة أو الأصدقاء الأعداء" بين الخليجيتين على ملفات النفوذ.
التسريب لا يخلو من دور استخباراتي في الحصول على معلوماته، فقد تناول اجتماعا مغلقا للأمير محمد بن سلمان مع مجموعة منتقاة من الصحفيين السعوديين في ديسمبر الماضي تكلم فيه بغضب كبير وتهديدات مبطنة عن سياسة النفوذ الإماراتي المتقاطعة مع المصالح السعودية.
التسريب كتبه ثلاثة مراسلين، تصدرتهم المصرية سمر سعيد التي تغطي السعودية والخليج والشرق الأوسط للصحيفة منذ عام 2009، وتربط تقاريرها بين النفط والجغرافيا السياسية في المنطقة.
أقامت في البداية في دبي ثم انتقلت لاحقا إلى الرياض لتغطية السياسة والطاقة والأعمال، قبل أن تعود إلى دبي في عام 2012.
وشاركها في كتابة التقرير ديون نيسنباوم الحائز على جوائز من تغطيته السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والأمن الإقليمي لصحيفة وول ستريت جورنال أثناء إقامته في كابول وبيروت والقدس وواشنطن وإسطنبول. وبلغ مرتين التصفية النهائية لجائزة بوليتزر، إحداهما عن تغطيته الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وعودة طالبان.
أما المراسل الثالث فهو ستيفن كالين ومقره في الشرق الأوسط، حيث يعيش منذ عام 2009. انتقل إلى الرياض في عام 2017 لتغطية صعود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العميقة الجارية في المملكة. وقد كتب عن كل تطور رئيس في المملكة المعاصرة وجيرانها في الخليج.
عرجت على هذه الخلفية للمراسلين الثلاثة، بالإضافة إلى سمعة الصحيفة نفسها، لأنها تعطي ثقة وجدية للمعلومات، وأن جهة ما في الرياض حرصت على تزويدهم بها.
صراع النفوذ في ذلك التقرير لا يقتصر على النفط والسيادة الإقليمية، بل يمتد إلى حيازة القوى الناعمة مثل الرياضة والفن والمهرجانات الفنية والغنائية والسياحة، والقلق الإماراتي من التأثيرات الاقتصادية المستقبلية لمشروع نيوم، وكذلك ما حصل من انتقال شركات ومؤسسات دولية كبيرة من دبي إلى الرياض.
إذن هو غليان حقيقي.. فإلى أين تمتد أبخرته؟