عمار علي حسن يكتب: الحضارة المصرية ودعاوى «المركزية الأفريقية»

ذات مصر

لا يخلو زمن من تحد سافر للهوية المصرية، يطفو على السطح، ويطلق جدلا عارما، أو يصنع معارك تثير غبارا، ثم لا تلبث أن تهدأ، وتخبو، وقد تتلاشى مؤقتا، ثم تعود من جديد، محاولة أن تشاكس بل تزعزع المستقر حول هذه المسألة، والذي يجب ألا يتعدى اللافتة الواضحة: "مصر هي مصر، وكفي". 

أخر هذه التحديات يتعلق بدعاوى المركزية الأفريقية، التي أغضبت الأغلبية الكاسحة من المصريين، لأنها تتجاوز الحديث عن تأثر الأفارقة بعطاء الحضارة المصرية القديمة في مختلف المعارف والفنون، وهذا واقع تاريخي، إلى الزعم بأن هذه الحضارة كلها قد بناها الأفارقة، ثم تسييس هذا التصور، برفع شعارات عرقية حول حقوق أهل النوبة، أو الحق التاريخي للأفارقة في مصر. 

وينظر المصريون إلى هذه الدعاوى بعين الريبة، مثلما نظروا إلى مثيلاتها عبر التاريخ، وكانت آخرها هذه التي قامت في تسعينيات القرن العشرين، حول الأقباط وأهل النوبة والبدو والأمازيغ في صحراء مصر الغربية، وساد وقتها اتهام أطراف خارجية بأنها تقف خلف هذه الدعاوى بالتحريض والتمويل والتخطيط، بهدف زعزعة استقرار مصر، والضغط على نظام الحكم.

في القرون البعيدة لم تكن قضية الهويات تفارق المجال الاجتماعي المحلي، سواء حول الدين أو العرق، لاسيما إن حدث اضطهاد أو تمييز صارخ على هذين الأساسين، لكن ثورة الاتصالات، وانتباه القوى الاستعمارية أحيانا إلى أهمية المسائل الثقافية في الغزو والهيمنة والتمكن، جعل هذه القضايا تظل مطروحة على الدوام، وجعل هناك حساسية مفرطة حيالها.

  وتخشى الحكومة المصرية أن تؤثر الدعاية التي تصاحب قضية "الأفروسنتريزم" سلبا على الحقوق الطبيعية والإدارية والسياسية والتاريخية لمصر في إقليم حلايب وشلاتين، الذي يزعم السودان أنه جزء منه، ويطالب به من حين إلى آخر. كما تأتي إثارة هذه القضية في وقت تبدو مصر مهددة بالعطش بعد بناء إثيوبيا سد النهضة، الذي يراه المصريون مهددا لوجودهم المرتبط بنهر النيل.

علاوة على هذا تدرك الحكومة المصرية غضب الشعب المصري، من هذه الفكرة، ومن الطبيعي أن تأخذ في الاعتبار موقف الرأي العام، خاصة مع اتهامات توجهها المعارضة إلى الحكومة بالتفريط في أرض مصر، خصوصا جزيرتي تيران وصنافير اللتين تم التنازل عنهما للمملكة العربية السعودية رغم صدور حكم قضائي نهائي بحق مصر التاريخي فيهما، والتفريط كذلك في ثروات مصر، خصوصا حقول الغاز في البحر المتوسط، وعدم التصدي بالقوة اللازمة لتهريب الآثار الفرعونية، وقيام السلطات الراهنة بهدم مقابر أثرية مصرية تعود إلى العصر الإسلامي الوسيط. وهذه مسائل يتناولها مصريون بإفراط على شبكات التواصل الاجتماعي.

وهناك ضغط على أعصاب المصريين نظرا لتنامي دعوة "المركزية الأفريقية" مع ظهور الفيلم الذي عرض الملكة كليوباترا ببشرة سوداء، أو ادعاء البعض بأن بناة الأهرامات ليسوا من المصريين. فهذا الأمر يمس اعتزاز المصريين بحضارة عريقة لا تزال ملهمة للعالم كله، خاصة مع تراجع الدور الحضاري لمصر في العصر الحديث، وانحسار نفوذها الإقليمي، ومرورها بأزمة اقتصادية شديدة.

والمصريون يرتبون انتماءهم الحضاري وفق تتابع زمني يرى مصر وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل مكتوب فيها فوق هيردوت، وفوق ذلك القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة الفرعونية واضحة، وهي مسألة تنعكس بقوة في الثقافة والطقوس والمعارف، ويحملها تاريخ مصر الطويل، التي يتكون من طبقات حضارية متناغمة ومتعاونة.

كما يرتب المصريون انتماءهم الجغرافي وفق دوائر محددة هي: الانتماء لمصر كأمة قائمة بذاتها، ثم الدائرة العربية والإسلامية، ثم الدائرة الأفريقية، لأن مصر جزء من جغرافية القارة السمراء.

وهناك دعاوى مصرية سابقة بأن مصر تنتمي إلى حضارة البحر المتوسط، مثلما ذهب طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" قبل أن يعود ويعدل فكرته رابطا مصر بانتمائها العربي ـ الإسلامي. وهناك جماعات تنادي بإحياء اللغة الهيروغليفية، والتركيز على الانتماء الفرعوني لمصر، وقد قام حزب سياسي على هذه الرؤية قبل ثورة يناير تزعمه حفيد أحمد لطفي السيد، لكنه فشل في تسويق أفكاره، وانزوى. والمفكرون والأدباء الذين يحملون هذه الفكرة، لا يزال صوتهم خافتا، مع قوة اللغة العربية التي فرضت وجودها، وفي ظل مصالح مصر مع العرب. 

ويفرق المصريون عموما بين تأثير الثقافة المصرية القديمة على أوروبا، حين نقلها اليونانيون القدماء بعد غزوهم مصر، وكذلك الرومان، وتأثيرها أيضا على الثقافات الأفريقية في الموسيقى والفنون والمعرفة، وبين أن يتم نسب الحضارة المصرية كلها إلى أطراف خارجية، مهما كانت قوتها.

ولا ينكر المصريون حقيقية تاريخية هي أن مملكة كوش الجنوبية قد غزت مصر مثل ما تم غزوها من الغرب بأيدي قبائل ليبية قديما ثم الفاطميين في القرون الوسطى، وجاءها غزو من الشرق على يد الهكسوس والعرب والمغول والعثمانيين، وغزو من الشمال على يد اليونانيين والرومان والحملات الأوروبية في القرون الوسطى. لكن كل هذه الغزوات قام المصريون بتذويبها في ثقافتهم الأصيلة، وأعطت كل هؤلاء أكثر مما أخذت منهم، وحافظت على هويتها وخصوصيتها الحضارية. 

ويدرك المصريون أيضا ما أثبتته الأبحاث الجينية من أن نحو 95% من جينات المصريين المعاصرين متطابقة مع جينات المومياوات المصرية القديمة، وهذا معناه أن العرق المصري سائد، وكل ما أتى إليه، أو دخل عليه، كان عرقا متنحيا، وكذلك كانت الثقافات الوافدة، ما يجعل القول بهيمنة ثقافة معينة على الثقافة المصرية الأصلية محض مزاعم، تجافي الحقائق العلمية، ومعطيات التاريخ.