جمهور الأهلي و"شيكابالا": يسوع الذي نحبه ونصلبه

ذات مصر
  بهدف بديع، منح "شيكابالا" التعادل والثقة لدقائق لفريقه الزمالك المصري في نهائي دوري أبطال إفريقيا أمام غريمه التقليدي، الأهلي المصري، لكن الهدف كان كفيلاً بأن ينكأ جراحًا كثيرة غائرة عند جمهور الأهلي.. جراحًا لم تطيّبها نشوة الفوز بالبطولة القارية الغالية الغائبة منذ سنوات عن نادي القرن. فعقب المباراة والتتويج بكأس البطولة، خرج قطاع من جمهور الأهلي مثل طفل غاضب يلقي بالحجارة والسباب العنصري على نجم نادي الزمالك محمود عبد الرزاق حسن فضل الله، الشهير بـ"شيكابالا"، لنستعيد من جديد صورة وحكاية الفتى الأسمر المتورط  في مواجهة نادي القرن وجمهوره الغاضب، حكاية استمرت من مطلع الألفية إلى الآن ويبدو أنها لن تنتهي قريبًا. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] هدف شيكابالا الأخير في النادي الأهلي[/caption]

وجوه متعددة

تبدو أزمة "شيكا" مع جمهور الأهلي في أحد أوجهها كأزمة كروية، بوصفه لاعبًا مميزًا ينتمي إلى فريق منافس، ويسبب متاعب وهزائم لفريقهم المفضّل، وهذا التصور حقيقي وواقعي، لكن للأزمة وجوهًا أخرى مستترة، وتظهر بجلاء في مثل هذه الأوقات. فبينما يستعيد فريق كرة القدم بالنادي الأهلي عافيته ويفوز ببطولة مهمة، وتعيش إدارة النادي واحدة من أكثر فترات الاستقرار منذ سنوات، يعاني نادي الزمالك على الجانب الآخر من عدم الاستقرار كعادته، ويعيش "شيكابالا" لحظات صعبة ببلوغه منتصف الثلاثينات (34 عامًا بالتحديد) ما يعني اقتراب نهاية مشواره الكروي، وهو ما يجعله أقرب إلى الماضي أكثر من الحاضر، فضلاً عن نضجه النفسي الكبير وقدرته على احتواء غضبه تجاه نفسه أو فرقته أو جمهور الفريق المنافس، فلم يعد "شيكابالا" الفتى الصغير المتحمس والأهوج الذي يرفع "حذاءه" في وجه الجمهور. رغم كل هذه المؤشرات الجيدة التي من المفترض أن تجعل العلاقة المتوترة بين نجم الزمالك وجمهور الأهلي أهدأ، خاصة أن الفرقتين نزلتا إلى أرض الملعب متحدين تحت شعار "نبذ العنف"، فإن مواقف البعض من جمهور المارد الأحمر تجاه الفتى الأسمر فجّرت مشكلة كبيرة تعكس بوضوح الأبعاد النفسية للعلاقة المأزومة بين الطرفين، فلو كانت جماهير الأهلى تكرهه كُرَويًّا لتجاهلوه، والتجاهل هو أقصى أنواع العقاب والكراهية، أن يعتبرك عدوك كأنك لم تكن، مجرد شبح لا وجود له. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] شيكابالا يسدد هدفه في مرمى الأهلي[/caption] تعاملت الجماهير بأسلوب التجاهل مرارًا مع لاعبين سببوا جراحًا حقيقية للأهلي، من أبرزهم التوأمان حسام وإبراهيم حسن حين غادرا الأهلى إلى الزمالك، وإبراهيم سعيد حين تمرد على قواعد وأخلاقيات النادي، وعصام الحضري، وعبد الله السعيد، وآخرهم "ابن النادي/الجولدن بوي" رمضان صبحي، وجميعهم كرروا ما فعله "التوأمان" بصور مختلفة وبدرجات متفاوتة من الألم، ومع كل هؤلاء انتهت الأزمة سريعًا، ولم تصل العداوة والكراهية من الجماهير تجاههم إلى مستوى العداء وحجم الهجوم الذي تعرض له "شيكابالا" بنحو متكرر. فتوجيه بعض الجماهير هتافات عنصرية لابن النوبة بناء على لون بشرته، وسباب أمه، والتشهير بزوجته وطفله الصغير، ونشر فيديو لكلب يرتدي فانلة نادي الزمالك وتسميته "شيكابالا"، وفيديو آخر لمجموعة من الشباب تقف على المقابر وتقرأ الفاتحة عليه، في إشارة إلى موته أو التهديد بقتله، وغيرها من الممارسات العنصرية لا تعبر عن الكراهية فقط، بل تعبر عن معنى أعمق، وهو الحب، فوفقًا لروئ كثير من علماء النفس فإن عاطفتي الحب والكراهية وجهان لعملة واحدة. في دراسة حديثة أجراها مجموعة من الباحثين الصينيين على عشرات من الأشخاص البالغين، ونشرها موقع "frontiersin"، لاحظ الباحثون أن النتائج تشير إلى أنه كلما زادت محبتنا للأشخاص، زدات في المقابل كراهيتنا لهم عندما نفترق، فالمبالغة في كراهية شخص غالبًا ما تكون تعبيرًا عن حب مستتر، أو حب مستحيل لأشخاص لا يحبوننا، ولا نستطيع أن نتوقف عن حبهم، ونتيجة لهذا الصراع بين المحبة وعدم المقدرة على الحصول على حب الطرف الآخر، يتحول الأمر تدريجيًّا إلى نوع من الكراهية، نعاقب فيه أنفسنا ومن نحبهم بكم هائل من الكراهية تؤذينا قبل أن تؤذيهم. هذا المعنى المتناقض والمتأرجح بين المحبة والكراهية يظهر بوضوح في سخرية بعض جماهير القلعة الحمراء من لون بشرة "شيكابالا"، رغم حفاوتهم بمدرب فريقهم الجنوب الإفريقي، أسمر البشرة، "موسيماني"، وكذلك العديد من اللاعبين من أصحاب البشرة السمراء الذين تعشقهم جماهير الأهلي، فضلاً عن أننا كمصريين ننتمي إلى القارة للسمراء، ونتفاوت في درجات بشرتنا السمراء، وبالتالي هذه ممارسات تبدو في صورة عنصرية لكنها تعبر عن معانٍ أخرى. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] شيكابالا[/caption]

أحب شيكابالا.. وأكرهه جدًّا

كمشجع أهلاوي قديم تربى في منطقة شعبية، لا متعة مجانية لسكانها غير مشاهدة ماتشات كرة القدم، عشت لحظات كثيرة تمنيت فيها أن يكون "شيكابالا" لاعبًا في الأهلى، وشاهدت محبة صادقة من أهالي المنطقة البسطاء للفتى الأسمر، محبة لمهارته العالية، وتمرده، وجنونه، وعصبيته التي تشبههم، ولو لعب "شيكابالا" للأهلى لصنعنا منه أسطورة كالخطيب، أو أبو تريكة، لكن ابن "ميت عقبة" العاشق للفانلة البيضاء رفض اللعب للمارد الأحمر مرارًا رغم العروض المغرية التي قُدمت له، خاصة في فترات توتر العلاقة بين اللاعب وإدارات الزمالك المتعاقبة، وفي واحدة من هذه الأزمات وقّع "شيكابالا" على عقد مع النادي الأهلي في فترة تولي عدلي القيعي إدارة لجنة التعاقدات بالقلعة الحمراء. "في هذه الفترة كنت باتدرب لوحدي، وأول يوم تدريب في ملعب النادي الأهلي، لقيتني بدون ما أنتبه رايح أتدرب  بفانلة بيضاء".. يروي شيكابالا هذه الحكاية في كثير من الحوارات الصحفية واللقاءات التليفزيونية كواحدة من المفارقات في علاقته بقطبي الكرة المصرية. ويشير دائمًا في أحاديثه إلى أن هواه زملكاوي، ولذلك عندما تولى ممدوح عباس رئاسة الزمالك وتواصل مع "شيكابالا" عاد سريعًا إلى ناديه، واعتذر إلى إدارة الأهلي وطلب منهم إلغاء تعاقده واعتباره كأن لم يكن، رغم أن المقابل المادي في النادي الأهلي كان أعلى بكثير من الزمالك كما يؤكد الفتى الأسمر، الذي اختار أن يطيع قلبه. هذه الحالة من المحبة المُطعمة بالكراهية في علاقة جمهور الأهلي بنجم ميت عقبة وصانع سعادة الفريق الأبيض، يعبر عن معناها الكاتب السوري ياسين حاج صالح في مقطع بليغ من مقال بعنوان "عن الحب والكراهية" يفكك فيه هذه الظاهرة، مشيرًا إلى أننا أَلِفنا أن نضع الحبّ والكُره في قطبين متقابلين متباعدين، فنفكرَ في الحبّ كشيءٍ مُنقّى من الكُره، وفي الكُره كشيء صافٍ لا يختلط بأي حبّ، لكن هذا يبدو تبسيطيًّا، لا يحيط بتداخل الانفعالات البشرية وتعقيدها.. الحب والكره "عاطفتان" مصنوعتان من قوة عطف واحدة، ففي العلاقات بين الأفراد نستطيع أن نتبين أحيانًا حبًّا تمازجه الكراهية، يتولد من تعذّرِ امتلاك المحبوب، ويحفز بلا توقف إلى جهد محبِط لامتلاكه.. لا أستطيع أن أمتلكه أو أمتلكها، فأبقى متعلقًا به/ بها، وفي الوقت نفسه كارهًا لها/ له بفعل ما يثيره هذا التعلق غير المشبع من ذلّ. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] شعار "أسياد العالم" في لافتة لمشجعي الأهلي[/caption]

الصورة النقيض

يمثل "شيكابالا" لجمهور الأهلي كل ما يكرهه ويتمناه في آن، فعندما كان الجمهور يقدس لاعبًا ملتزمًا في منتصف عمره الكروي مثل "أبو تريكة"، كان الفتي النوبي يمثل صورة مغايرة للاعب أكثر مهارة لكنه متمرد ينفعل، ويسب، ويرفع الحذاء في وجه الجمهور، ويكسر كل القواعد التي يقدسها قطاع كبير من جمهور الأهلي بمختلف طبقاته وشرائحه الاجتماعية، حينها كان "شيكا" مهدِّدًا للصورة الذهنية التي رسمها جمهور الأهلي عن ذاته، وعززها أو أرسى قواعدها الرئيس الأسطوري للنادي صالح سليم، بوصفهم جمهورًا "لأعظم نادي في الكون"، وفقًا لتعبير أغاني الألتراس، وبشعار "الأهلي فوق الجميع"، الذي طالما زيّن أرجاء المدرجات وبوابات النادي.

لكن الفتى الفقير القادم من أقصى جنوب مصر، لم يخف من شعارات النادي العريق، ولا جنون شعور جماهيره بجنون العظمة، ووقف يواجه الجميع بصدر مفتوح، ليكسر الصورة الذهنية التي رسمها جمهور القلعة الحمراء لناديهم، بوصفهم "فوق الجميع".

أفعال "شيكابالا" العفوية والطفولية في آن، تسببت في جرح غائر في قلوب جماهير الأحمر، الجماهير المتماهية مع فريقها حد الجنون بمواقفها، وهتافها، وأغانيها: "روحنا فداه، وفي أي مكان بنروح وراه".

هذا الجرح الغائر لم يلتئم ما دام "شيكابالا" في الملعب، واقفًا وقادرًا على المراوغة وتهديد شباكهم، حتى وإن توقف عن أفعاله الصبيانية بالوقوف مباشرة في وجه الجمهور، لكن يظل قادرًا على زعزعة مشاعرهم بلمسة سحرية، وركض خاطف وسريع لا يفعله لاعب في العشرين من عمره، فما بالنا بلاعب في منتصف الثلاينات.. هكذا عزز الفتى الأسمر من مساحات الألم والخوف في قلوب جماهير الأحمر.

[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] رمضان صبحي[/caption]

ابن النادي خارج جدرانه

على عكس صورة الشاب المتمرد، والمندفع، والغاضب، التي عاشها "شيكابالا" في شبابه، يقدم ابن النوبة صورة مغايرة في نهاية مشواره الكروي مع ناديه الأبيض، فنحن أمام كابتن فريق ناضج، ومخلص، وهادئ، يبذل مجهودًا مضاعفًا داخل غرفة الملابس وخارجها لاحتواء اللاعبين وتحفيزهم، يُطلب منه أن يقعد على دكة البدلاء فيتسجيب، يُدفع للإعارة إلى أندية أخرى فيقبل بنفس طيبة، يحتاج الفريق إلى عودته فيلبي النداء مسرعًا، ينزل أرض الملعب فيقدم أداءً باهرًا على المستوى الهجومي والدفاعي أيضًا، وهو أمر نادرًا ما كان يفعله عندما كانت سنه أصغر ولياقته أفضل، فضلاً عن أن معظم اللاعبين الموهوبين في العالم كله غالبًا ما يقصرون في أدوارهم الدفاعية، إلا أن صاحب الفانلة رقم 10 تغير كثيرًا لدرجة أنه يقوم بأدوار دفاعية عديدة قد لا يطلبها المدرب منه، لكن نضجه وحبه للفريق يدفعه لذلك.

هذه الصورة "اليسوعية" التي يقدمها "شيكابالا" يفتقدها جمهور الأهلي بشدة في هذه المرحلة، صورة اللاعب المُخلص ابن النادي، صورة مغايرة تمامًا لخيارات لاعبين مثل عبد الله السعيد ورمضان صبحي، اللذين خلفا جراحًا جديدة وعميقة عند جمهور أعظم نادي في الكون كلفت خزينة النادي أكثر من 200 مليون جنيه لمحاولة تضميدها بشراء لاعبين مثل حسين الشحات، ومجدي قفشة، وطاهر محمد طاهر وغيرهم، ولم يحدث ولن يحدث غالبًا شفاء لهذا الجرح لأنه جرح حقيقي، وواقعي، وابن ماكينة الرأسمالية التي ندور فيها وتحكمنا على المستويات كافة.

أزمة جمهور الأهلي أنه يعتقد أن نادي القرن والمبادئ خارج هذه المنظومة الرأسمالية النفعية، هذه المعاني القيمية والعقائدية والأيديولوجية عن التضحية والفداء والبطولة الجماعية تظهر بوضوح في أغاني الألتراس الأحمر: "دايمًا معاه ولآخر الكون.. عمري عشان الأهلى يهون".

لا يعطي أحد عمره لماكينة رأسمالية، هذه بدهية يعرفها الإنسان بالفطرة، الرأسمالية لا قلب لها، كل متعة مقابلها ثمن، هذه القواعد الحاكمة والمنظمة لكرة القدم وللعالم ككل، لا تزال جماهير الكرة الحالمة غير قادرة على قبولها، خاصة جماهير الأندية الكبيرة والعريقة مثل الأهلي والزمالك، لكن خطورة هذا الإنكار أنه يورط الجمهور في أزمات نفسية عميقة يعيشها جمهور الأهلي حاليًّا.. إنه صراع قاسٍ بين ما تخيلوه ويؤمنون به، وبين واقع فريقهم.

هذه المفارقات القاسية بين الخيال والواقع، تدفع الجمهور غالبًا لإنكار حقائق كثيرة، كنوع من الحيل العقلية لحماية أنفسهم من الآلام الكبيرة التي قد تهدم أسطورة ناديهم وأسطورته المتماهية معه، حقائق كثيرة صادمة من أبرزها الدور الكبير لرجال الأعمال في نجاح فريق كرة القدم بالنادي الأهلي، فضلاً عن الدعم السياسي والمالي الذي تلقاه النادي مصريًّا وعربيًّا في السنوات الماضية، وظهر بفجاجة في ظاهرة "تركي آل الشيخ" بكل ما يمثله من معانٍ وأفكار ضد النادي ومبادئه، ومع ذلك استطاع بأمواله الهيمنة على الجميع بداية من رئيس النادي وصولاً إلى أصغر لاعب، حتى قطاعات من الجماهير لم تسلم من هذا الفخ، فهتفوا باسم الرجل طمعًا في بعض المال.

كل هذه الحقائق يتناساها أو يتجاهلها جمهور الأهلي لكي يحافظ ويعزز من أسطورة الفانلة الحمراء، التي تعبر عنها بجلاء جملة "الأهلي بمن حضر"، وهي أسطورة يبدو أن كثيرًا من لاعبي الفريق لم يعودوا يؤمنون بها، في حين يقف "شيكابالا" على الضفة الأخرى وحيدًا كالعادة مؤمنًا ومعبرًا عن هذه الأسطورة، فيثير بوعي أو دون وعي كراهية جماهير الأحمر، لأنه قادر أن يعيش ويعبر عن الصورة "اليسوعية" التي كفر بها كثير من لاعبي فريقهم.