عدوى الإسمنت: كيف تخلق الخرسانة مجتمعًا مختلاً نفسيًّا؟

في البدء نُشكِّل البنايات ثم تعيد البنايات تشكيلنا. ونستون تشرشل
شكارة الإسمنت الوحيدة التي أفسدتها أمطار الليلة الماضية ظلت شاهدة على مبنى لم يكتمل إنشاؤه بالقرب من الطريق الدائري، بمبنى يجاور طوابير من الطوب الأحمر الذي تشقه أسياخ مسلحة انطبق عليها قانون يزعم محاولته استعادة أكثر من 90 ألف فدان من الأراضي الزراعية المصرية. صار بمقدور شكارة الإسمنت أن ترى مستقبلها مصبوبًا في صفوف من أبراج خرسانية تتكرر إلى الأبد فتنفتح لها عيون في الهواء على شكل نوافذ مستقبلية من الألومنيوم المحبب لأسعار السوق، يعلو بعضها بعضًا، وتحبس بداخلها مواليد مُحتملين. تُظلِم الأجواء فجأة عندما ينتهي الطريق السريع المحاصر بعلب إسمنتية بغيضة فتنسكب عليه المركبات في زحام لا رجعة فيه ولا تقدُّم أيضًا، بدءًا من مدخل ميدان رئيس ثم الإفلات من زحام كوبري يشق المباني وصولاً إلى الحفرة الكبرى التي يصعب الخروج من ظلمتها بين خطي طول بامتداد أربعة ميادين كبرى ترسم الطريق شرقًا إلى جناحي المدينة الضبابية. الامتدادات الجديدة للمدينة تثير توقًا إلى استمرار مهزلة البناء.. "البناء من أجل البناء" هو ما تمكن قراءته على شكارة الإسمنت الوحيدة التي انصهر أمامها محور صفط اللبن الأخطر والأكثر سينمائية بين المحاور المرورية التي تشق بلاد الشقاوة في الجيزة وأطرافها المحاصرة بعلب سردينٍ مخالفة من كل ناحية. بنايات شاهقة لم يخطط أحد لارتقائها المفاجئ، وهو ارتقاء ألفته الشوارع المصرية منذ انفجر السور الترابي الفاصل بين الشرق والغرب في سيناء في السبعينات وما تلاها لتتأصل معه علاقة حب بين الرأسمالية والنمو السكاني المطرد. [caption id="" align="aligncenter" width="1200"] صورة للمباني الخرسانية الشاهقة[/caption]

وحشية البناء الحديث

تكتسب المدن قدرًا كبيرًا من هويتها من تصميمها المعماري، فهناك مدن قُدِّر فيها السير، وأخرى ضاقت بها التبعات السوسيولوجية نتيجة اعتماد نمط بناء عشوائي ارتضاه سكان تأمينًا للنسل الوافد يوميًّا إلى هذه المربعات الخرسانية الصماء، التي تُشيِّد في البناء النفسي للمجتمعات عالمًا معقدًا من المتناقضات التي تؤخر مسيرته نحو شارع محصور بين ناصيتي "الألف مسكن" ومبنى "الإمباير ستايت". ثمة إلحاح بشري للعيش بشكل عمودي، يعود الأمر لأسباب تتعلق بتوفير المساحة، وزيادة الربح، وخفض التكلفة. لكن العامل النفسي له المقعد الأكبر والأطول أجلاً في ميل البشر ناحية أشكال محددة من البناء. فقد استُخدم على سبيل المثال مصطلح "وحشية" لوصف الزحف الإسمنتي في القرن العشرين بأوروبا وهو ما أطلِق على أنماط معمارية مختلفة استُخدمت في الأصل لوصف العمارة الإنجليزية الجديدة بعد الحرب، إذ استُبدِل بالبناء القديم نمط أكثر حدة واختصارًا في البناء، يتناسب واحتياجات سكان القرن العشرين الذي حفزتهم شهوة إعادة البناء بعد انهيار الحرب. لقد ارتبط البناء الإسمنتي الحديث بالمباني الحكومية في إنجلترا والولايات المتحدة. بعد الحرب صارت للتوسعات الإسمنتية أشكالاً جديدة وارتفاعات شاهقة كجزء من حرب البناء بين القوى التي حكمت العالم، بين قوسي الحرب العالمية الثانية، واعتكاف الدب الروسي في أوائل التسعينات. بل إن شكل البناء الذي اختصر البشر في طوابق خرسانية متجاورة في أوروبا الشرقية كالـPaneláks  أو في الأحياء الفقيرة بالولايات المتحدة، ارتبط دومًا بالرداءة والفقر وأحيانًا التمييز العنصري. [caption id="" align="aligncenter" width="758"] تدمير المباني في أثناء الحرب العالمية الثانية[/caption] تفضح عدة أبحاث شؤم التصميم الحديث للمدن على ساكنيها، فمبقدور شكارة إسمنت وحيدة تخشى البلل في شارع غير ممهد يستعد لأمطار شتوية عنيدة، أن تتسبب في خلق مجتمع مريض، مُحب للجريمة، يخضع رغمًا عنه لأزماتٍ نفسية نابعة من تغيرات جذرية في وظائف المخ، فالمخ في هذه الحالة يرجح كفة النشأة السوية في المناطق الريفية التي تميل لفطرة العقل البشري على النمط.

اضطراب الحالة المزاجية

تستقبل الحواس البشرية من العناصر التي تحيط بها. لطالما كان النمط أحد العوامل التي أثارت فضول العقل البشري الذي جُبِل على التعرف إليها بأكثر من وسيلة وبناء عليه يتخذ حيالها رد فعل يعادل المؤثر الحسي الخارجي كالشكل واللون والترتيب والتناسق. حين نشاهد مبنى أو شوارع  أو حيًّا يتسم بنمطٍ جمالي ما ومنظم ومتناغم من حيث البناء واللون، ينطبع في أذهاننا شعور حسن، لأن عقولنا طورت مع الوقت ارتباطًا شرطيًّا بين هذه الأنماط الموجودة أصلاً في الطبيعة وبين الشعور بالأمان والرفاهية. والعكس بالعكس، في غياب تلك الأنماط عن المجال البصري للمدن تضطرب الحالة المزاجية العامة لمن حشروا في محيط من غياب الأنماط التي فُطر عليها العقل البشري. تظهر هذه النتيجة مع شق شكارة الإسمنت لينسكب منها الرهاب الاجتماعي والغضب والكبت، فمزاجنا تحكمه الأشكال والمساحات التي تحيط بمجالنا البصري، النمط الذي يتغذى عليه العقل منذ تعرف على عمران الطبيعة المبهر حوله. في غياب النمط يخضع الذهن البشري لجرعات متواصلة من السب واللعن، الذي يوجهه صاحبه لنفسه ولمن حوله كل صباح على "محور المنيب" في طريقه لإنهاء إحدى المصالح اليومية أو الأسبوعية التي تنتدرج تحت بند "الرزق"، واستكمال دورة الحياة اليومية وسط طواحين من عشوائية البناء الحديث الذي لا يلقي بالاً لأهمية النمط وأثره في استقرار المجتمعات. [caption id="" align="aligncenter" width="600"] حي مصري مأهول بالمباني والسكان[/caption] قرار الانتحار أسهل كثيرًا على من يعيشون في المدن، احتمالات لا حصر لها من الفصام والذهان يعززها شكل البناء الحالي. تنبئنا الدراسات بأن النشأة في المدينة بتفاصيلها البصرية تسبب تغيرات في وظائف المخ وتزيد من فرص الإصابة بالتوتر والاكتئاب، فالخروج من البناية لمقابلة مليون غريب يوميًّا ليس بالأمر الصحي. يُثقل شكل البناء الحديث التجمعات السكنية الحديثة بما يهدد البنية المجتمعية حتى لم يعد الأمر رفاهية، خاصة وقد أبدت دوائر عليا اهتمامها به، فأطلقت مبادرات عالمية رسمية تقاوم البشاعة الإسمنتية وتحاول إعادة رسم المدن وفقًا للنمط لجمالي الذي جُبل عليه العقل والحواس، ووفقًا لمعايير صديقة للبيئة التي أخرجت لسانها في وجه البشرية مطلع العام الحالي بوباء نقله إلى البشر وطواط، بحسب ما صرحت أجهزة إعلام العالم.

متى بدأت قريتنا الإسمنتية الكبيرة؟

[caption id="" align="aligncenter" width="340"] جوزيف أسبدن بنّاء إنجليزي[/caption] ثمة سباق نحو بدائل أكثر قربًا من البيئة، وسعي للخروج من العالم المحبوس في شكارة الأسمنت، شركات حديد سويدية سعت مؤخرًا لاستبدال الفحم بالهيدروجين أثناء صناعة الصلب، أو الخروج بعدد من الحلول المعمارية التي لا تغفل الطبيعة بل وتذعن لها كتصميماتٍ زجاجية من المرايا شيدت في صحراء شبه الجزيرة العربية لكي لا تتعدى على البيئة المحيطة. قد لا يكون المعمار الخشبي أو الذي يعتمد على المنتجات الزراعية وغيره من الحلول البيئية أطروحات اقتصادية على الإطلاق ولكنها بداية لإعادة النظر في مغزى المعمار المدني الحديث وأثره على المستوي النفسي للمستفيدين منه، والخروج بموائمات بين النمو السكاني والانحدار النفسي. استبدالًا آخر في فورة التغييرات التي اتخذت اتجاهًا خراسانيًا تصاعديًا واحدًا منذ كانت طرقات مدينة ليدز الإنجليزية الممهدة في الأعوام التالية لـ 1820 عُرضة لسرقات بنَّاء إنجليزي يُدعى جوزيف أسبدن، اعتاد الرجل حينها دون شك الاحتكاك بالسلطات أثناء قيامه بسرقة الحجر الجيري من شوارع مدينته حتى غُرِّم مرتان لكن شهوة الربح تمكنت منه  فلم تردعه الغرامات عن مواصلة السرقة  لكي يواصل اخباراته المعملية على مواد البناء قبل أن يخرج على العالم بخلطته السحرية لما بات يُعرف اليوم باسم الأسمنت البورتلندي وهو أكثر أنواع الأسمنت استخدامًا في العالم إلى يومنا هذا. بعد قرنين سينتج العالم من اكتشافه ما يعادل 3,5 مليار طن سنويًا من مادة الأسمنت البورتلاندي في يومٍ من الأيام حتى بات العالم قرية إسمنتية مترامية الأطراف. اقتصر خليط البناء على مزج الحجر الجيري بالماء والطين فإذا انصهر فُتت إلى بودرة وما تتعدى درجة حرارته الحد المطلوب يسمى كرانكات وعلى الأغلب كان يتم التخلص منها. [caption id="" align="aligncenter" width="384"] سقوط حافلة وسط حي شعبي بالقاهرة[/caption] قرر وليام إبن جوزيف أسبدن أن يختبر تلك الكرانكات حتى يتمكن من خلع جلبات أبيه ويؤسس شركته الخاصة، وُصِم وليام بالاحتيال إذ خدع أكثر من مستثمر بأوراقٍ وهمية واكتشافات مزيفة في مجال البناء لكن ربما كانت تلك ضريبة النجاح، فقد استطاع أن يتوصل إلى خلطة أكثر تماسكًا للأسمنت سوف تسمح بعلو أكبر للبنايات عبر أوروبا والولايات المتحدة بامتداد الخط الزمني المجاور للطريق الدائري الذي يخضع لعملية رفع كفاءة وحيث تخشى شكارة أسمنت  وحيدة أن تفسدها الأمطار قبل أن تسقط عليها حافلة من أعلى محور صفط اللبن وتلتقفها مباني الطوب الأحمر في الدقيقة الأخيرة ليُراق الأسمنت على الطريق وينوء تحت حمولة الحافلة المكتظة بالركاب.