د. هشام الحمامي يكتب: سيناء.. من الذى خان (التاريخ)؟

ذات مصر

يقولون إن من يخون التاريخ ، يضيع الجغرافيا.. وهذا صحيح تماما.

يوجد الإنسان في الجغرافيا والمكان، ويعمل فيهما وعبر العمل والعرق يحولهما إلى جزء من الوطن، وهذه هي حركة التاريخ التي تفهم وتحوي الجغرافيا وهذا سر تلازمهما معا. 

الجغرافيا هي الأم فمن لا يشعر، بها فهو خائن للتاريخ، وهذا مرتكز هام جدا لمعنى(الوطنية) .. لا ينفصل التاريخ عن الجغرافيا أبدا ..  التاريخ هو الإنسان الفاعل في الجغرافيا .. وكلما كان فاعلا أكثر.. كان أمينا ، ووفيا لتاريخه،  بل ولإنسانيته كلها أكثر وأكثر. 

***

في سيناء يوجد جغرافيا ولا يوجد تاريخ !.. 

أقول هذا وأنا أذرف الدمع مع  الشاعر الكبير .. فاروق جويدة(77عاما)  الذى طالما بكى على سيناء شعرا ونثرا ونطق بألف خوف وخوف .. قلقا عليها وعلى مستقبلها وعلى ما يحاك لها .. 

ففي عدد الأحد 27 يونيو 2010 م من جريدة الشروق كتب : قلنا كثيرا إن سيناء الخالية من السكان والبعيدة عن التنمية الحقيقية أصبحت أرضا خصبة للأطماع والمؤامرة ،ولهذا لم يكن غريبا أن تفكر أطراف كثيرة على المستوى الدولى فى اقتحام هذه الأرض. 

وقال أيضا في كتابه (اغتصاب وطن .. جريمة نهب الأراضي في مصر) الذى صدر عن دار الشروق في نفس السنة 2010 م وكتب في مقدمته : أقدم هذا الكتاب الى أجيال قادمة، أنا على يقين أنها ستكون أقدر منا على حماية هذه الأرض واسترداد حقها في تراب هذا الوطن.

وذكر تفاصيل وأسماء ومعلومات  مهمه جدا.. محللا بها ومنبها ومحذرا من مؤامرة إسرائيلية قد تطيح بجزء عزيز من أرض مصر لإقامة دولة فلسطينية عليها، مؤكدا أن هناك سرا غامضا وألغازا كثيرة حول تأجيل مشروع تنمية سيناء.

***

كنت أكاد أسمع صوت صراخه متسائلا (لماذا تترك سيناء فراغا؟) ..                             

وتصورت أن ردا أو تحركا من جانب المسئولين سيأتى مسرعا.. خاصة وأن أحد أهم المسئولين فى عصرين متتاليين كان حاضرا فى المقالات (م.حسب الله الكفراوى)..وعبثا طال انتظاري.

ولم يرد أحد ولم ينفعل أحد.. وسنلحظ دائما .. دائما .. أن عدم الرد والانفعال لم يعد غريبا إذا كان الموضوع يتعلق باستراتيجية عليا من استراتيجيات أمننا القومى .. 

 وأذكر وقتها أن صحفيا لئيما خبيثا رد عليه فى عموده اليومى بالأهرام بمقوله مليئة بالريبة والخطورة فيقول: على من ينادون بتعمير سيناء وإقامة مدن سكنيه فيها حماية لحدودنا الشرقية ، أن يتذكروا أنه تم احتلالها وبها أكبر حشد لقواتنا المسلحة وقتها لحمايتها).. 

لحساب من كان يعمل هذا الرجل؟؟ ومن أجل ماذا عاش ومات ؟؟ وفيما عاش وفيما مات .. اذ يصدر عنه ما قال ..؟؟  إنه يكذب .. وإنه ليعلم أنه يكذب .. وإن الناس كلها لتعلم أنه يكذب .. 

هل كان بالفعل بها أكبر حشد للقوات المسلحة فى يونيو 1967؟..                         

 وهل كان هذا الحشد في سياق حمايتها وحماية أمنها وأمننا ..

ألم يقرأ أو حتى يسمع أن حرب المدن هى مقابر الجيوش!؟ 

سنقرأ بعدها للشاعر الكبير المخلص لأمته وتاريخه ونفسه فاروق جويدة : شعرا يبكىفيه نفسه ويبكينا ويبكينا ويبكى شهيدا هناك .. في سيناء ..على رملها وتحت شمسها .. 

إذا كان فيكم شموخ قديـم فكيف ارتضيتم حـياة الرمم؟!                                             

 تنامون حتي يموت الصباح وتبكون حتي يثور العدم  ..                                                  

 شهيد علي صدر سيناء يبكي ..

علي أرض سيناء يبدو شهيـد.. يطوف حزينـا.. مع الراحليـن ..                                              

  ويصرخ في الناس: هذا حرام .. دمانا تضيع مع العابثين

***

الراحل الكبير جمال حمدان(ت1993م) فى موسوعته(شخصية مصر) له دراسة شاملة عن سيناء ، يصف فيها كيف كانت على مر التاريخ موقعًا للمعارك الضارية مع الغزاة 

ويقول: حين كان ماء النيل هو الذى يروى الوادى ، كان الدم المصرى يروى رمال سيناء ، ولن تجد ذلك غريبًا إذا أدركت أهمية الموقع الإستراتيجي لسيناء بالنسبة لباقي مصر .. 

تطور الحروب على مدار التاريخ ساهم فى تحويل سيناء إلى (أرض معركة) بعد أن كانت (طريق معركة) .. ومن (جسر حربى) إلى (ميدان حربى) ، وبالتالي من (عازل) استراتيجى إلى (موصل) جيد للخطر.

***

لكن لن يتم ولن يكمل للكلام معنى .. اذا لم نتحدث عن أحد كنوز مصر التى يريدون لها الغياب فى طيات النسيان والتجهيل وهو الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إسماعيل (ت1972(.. 

الذى سيؤسس جامعة الكويت لاحقا سنة 1966م.

وصاحب(موسوعة سيناء) التى ساعده فى إعدادها ثلاثة ألاف عالم مصرى! فى جميع التخصصات ومجالات التعميروالتى استغرق إعدادها 4 سنوات 1956-1960 .

وكان من أهم ما جاء فيها(..أن تعمير سيناء لإيجاد حاجز بشرى بين مصرواسرائيل يمنع عربدة إسرائيل فى هذه المنطقة الخالية من السكان)

هل بعد هذا القول يجوز قول .. ومتى .. من سنة 1960م!!؟؟ 

تضمنت الموسوعة مسحا شاملا لجميع جوانب الحياة فى سيناء ، الجغرافيا والتاريخ والسكان والجيولوجيا والمناخ والحالة المساحية ومصادر المياه والزراعة والبترول والتعدين والمواصلات.. 

كان من الممكن أن يتم تفعيل وتطبيق ما جاء فى الموسوعة من سنه 1960م فور الانتهاء منها وهو الأمر الذى كان من الممكن أن يغير التاريخ العربي المعاصر كله..

***

إلا أن الموسوعة أٌهملت وأٌهمل معها جهد ثلاثة ألاف عالم مصرى فى كل التخصصات جهدا وصلوا فيه الليل بالنهار على مدار أربع سنوات .. ويبدو أنهم جدوا وكدوا بعد هزيمة 1956 م .. 

والتى تبين للجميع بعدها خطورة أن تترك سيناء هكذا فراغا .. 

وشتان بينها وبين مدن القناة فى تحقيق فكره الأمن الحدودى.. 

بديهيات الأمن القومى تقول عدم ترك مساحات حدودية شاسعة فراغا، لأنها بذلك تغرى بالتوسع خاصة إذا كان جارك كيان عدوانى توسعى قائم على فكرة الإبادة والإحلال.

سنتذكر كبار رجالات العسكرية المصرية أمثال الفريق يوسف عفيفى، واللواء منير شاش ،واللواء عادل مسعود ، واللواء محمد نبيل فؤاد ..جميعهم أكدوا الضرورة القومية والإستراتيجية لتنمية وتعمير سيناء وإقامة مجتمعات عمرانية كاملة ونموذجية بها. 

***

أكتب هذا المقال وأنا أبكيك يا شهيد .. يا محمد يا مؤنس ..ومن معك من الأبطال .. 

يا فخرا كانوا.. وفخرا داموا.. وفخرا قاموا فينا وعنا شهداء.