فراج إسماعيل يكتب: ترامب على خطى جورباتشوف

ذات مصر

الراسخون في العلوم السياسية يقولون إن إمبراطوريات المؤسسات الديمقراطية الدستورية عصية على التفكك، وأن أي زعيم لا يمكنه بحركة غباء تفكيكها وتحويلها إلى أشتات متفرقة وربما متحاربة.

المعنى هنا أنه في الدول الديمقراطية العظمى لا يمكن تكرار افتكاسة الزعيم السوفييتي الثامن والأخير ميخائيل جورباتشوف، عندما أطلق برنامجه البريستوريكا أو إعادة هيكلة الاقتصاد، فغيب الامبراطورية السوفييتية إلى الأبد عام 1991، وجعلها صفحة مطوية من التاريخ بمجرد التوقيع على اتفاقية حل الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية.

الرافضون لهذه النظرية يرون أن جورباتشوف لم يطلق برنامجه اعتباطا أو بحركة غباء، فأمامه اقتصاد مترنح، وطوابير تقف بالساعات للحصول على لقمة العيش. 

كان على رأس إمبراطورية مركزية لا تستطيع البقاء أطول مما بقيت، فالاقتصاد هو حجر الأساس الذي تُقَّيم به القوى العظمى.

كان مضطرا أن ينهي الحرب الباردة مع القطب الأول بالتوافق مع الرئيس الأمريكي وقتها رونالد ريجان، وأن يفض أختام المركزية السوفييتية. وما إن فضت حتى طلبت جمهورياته الخلع الجماعي من السجن الكبير.

قدر لي زيارة عدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة بعد الخلع مباشرة، فلم أجد أثرا لإمبراطورية غابت عنها الشمس منذ قليل. فنادق متهالكة لو قارنتها مع لوكاندات زمان في مدينتي لتفوقت الأخيرة. حياة صعبة. عيون تنظر بنهم وشوق وتمنٍ لورقة خضراء من مائة دولار، ويفاجئني لص بخطفها في لحظة استبدالها من الصراف في دوشنبه عاصمة طاجيكستان، فيما الصراف الذي خطفها اللص من يده ينظر إليه باستسلام وابتسامة كأنه على موعد لاحق معه لاقتسام الكنز!

عندما أعلن جورباتشوف استقالته كآخر رئيس للاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر 1991 وغادر الكرملين، كانت 11 جمهورية بما فيها روسيا قد سبقته وأعلنت الانفصال. ظل فترة رئيسا بلا دولة ولذلك أنزل علم الاتحاد السوفييتي للأبد مساء يوم استقالته ليرفع علم روسيا، وسلم مفتاح الترسانة النووية إلى الرئيس الروسي السكير بوريس يلتسين الذي كان أول رئيس لروسيا منتخب ديمقراطيا بنسبة 57%، لكن عصره هو الأكثر ظلاما وفسادا وانهيارا في التاريخ الروسي.
اسأل عن حالة الاقتصاد قبل السؤال عن قيمة المؤسسات الدستورية الديمقراطية. وهو ما يحمي القطب الأوحد -الولايات المتحدة- من التفكك، وما يزعجها أيضا في مواجهة التقدم الاقتصادي الصيني الذي يمضى قطارا سريعا على طريق ممهد نحو مقدمة العالم.

لكي تدرك الصين المقعد الأول اقتصاديا، عليها بالشفافية، وهو مبدأ الجلاسونست الذي أطلقه جورباتشوف بالتوازي مع إعادة هيكلة الاقتصاد.

الشفافية هي عدو الفساد، والفساد هو إيدز الاقتصاد الذي يقضي عليه بعد حين.

أمريكا تبقى إذن عصية على التفكك بمؤسساتها القوية التي لا تغفل عن مراقبة نفسها، وإطلاق صيحة "قف” عندما يخرج أي جمل عن الركب. كونجرس لا يسمح للرئيس بالسباحة بحرية دون أن يشل قراره ويتدخل في سياساته ويحاسبه حساب الملكين، وصحافة فوق الجميع. ليست سلطة رابعة فحسب، بل الغول الذي ترتعش منه كل السلطات.

أتحدث عن الصحافة بمعناها المتطور، ورقية ورقمية وقنوات تليفزيونية وسوشيال ميديا.

في الصين ليس هناك شيء من ذلك. وفي روسيا لم تنجح ديمقراطية يلتسين الهشة، فسلمت شرفها لطموحات وديكتاتورية الزعيم الأوحد بوتين، الذي يحاول استعادة امبراطورية الاتحاد السوفييتي، وسيدفع الثمن باهظا في النهاية، بتفكك الاتحاد الروسي نفسه. 

لكن أمريكا خائفة أيضا من التفكك بفعل طموحات رئيس سابق هاجم مبنى الكابيتول عقب سقوطه في الانتخابات السابقة، وقد حوكم على ذلك مؤخرا.

في المحكمة بواشنطن ظهر واثق الخطوة يمشي ملكاً، لا يتطلع إلى المستشار الخاص، ممثل الادعاء، والذي سبق أن وصفه ترامب بالحقارة، ناعتاً المحاكمة بأنها فضيحة للديمقراطية الأمريكية تهدف لإبعاد منافس لبايدن من الانتخابات القادمة.

ما عدا الحزب الجمهوري الذي ما يزال ترامب يحتفظ بثقته وأوراق اللعبة فيه، فإن باقي مؤسسات القوة في الولايات المتحدة تخشى على مستقبل إمبراطوريتهم من عودة ترامب للبيت البيضاوي.

عندما تولى رئاسة أمريكا رفع شعار (أمريكا أولاً) وهذا معناه الانزواء وترك مشاكل العالم لأصحابه. الاستبداد يمرح كما يشتهي، والانقلابات العسكرية في مناطق النفوذ الأمريكي تتحرك بكيفها وإرادتها، وحقوق الإنسان شأن داخلي بكل دولة، يخضع لتعريفاتها ومزاج حكامها.

الإمبراطوريات العظمى تتقوقع بفعل فاعل من داخلها، خصوصا إذا كان الدافع هو الاقتصاد كما صرح ترامب في رئاسته الأولى.

إذا تخلت أمريكا عن مبادئها الرئيسة في إعلان الاستقلال عن بريطانيا العظمى بتاريخ 4 يوليو 1776 كالحريات والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، بالنسبة لسياساتها الخارجية، فستكون بداية السقوط والتفكك.

عودة ترامب قد تخلق مؤشرات للتفكك، فهو جرئ على الثوابت والدستور والمؤسسات، رجل مال متصارع اقتصادياً مع جهات اقتصادية أخرى داخل الولايات المتحدة.. لذلك هو متهم بأنه أخذ دعما من بوتين وأجهزة الاستخبارات الروسية للفوز برئاسته الأولى، فالروس يرون فيه جورباتشوف أمريكا مع اختلاف السبب والوسيلة والخطاب السياسي.

من هنا التقط الإعلام الأمريكي باهتمام قول ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي بأنه سيدعم استقلال ولاية تكساس في حال قررت ذلك، وأن الصراع السياسي بين النخب والجهات الاقتصادية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة، من بينها استقلال بعض الولايات التي أصبحت تتباهى باستقلاليتها في أكثر القضايا حساسية، مشيرا إلى أن ولاية كاليفورنيا تود الاستقلال، وولاية تكساس، بدأت بالفعل الاستعداد لعقد استفتاء بشأن استقلالها.

ميدفيديف، إضافة إلى كونه مسؤولا، هو خبير سياسي معلوماتي محنك، يزعم تطوير الجمهوريين في ولاية تكساس، والذين ينتمي لهم ترامب، قانونا لاستقلال الولاية وآخر للاستفتاء حوله.

أحلام "ميدفيديف" كعشم إبليس في الجنة. النشيد الوطني الأمريكي الذي كتبه فرنسيس سكوت على وقع القصف البريطاني لقلعة ميناء بالتيمور عام 1814، واصفا ارتفاع علم الولايات المتحدة في الصباح، بعد أن توقع ارتفاع علم بريطانيا العظمى، سيظل موقداً حماس مؤسسات القوة في أمريكا للدفاع عن وحدة إمبراطوريتها.

وغير ذلك سيكون يوم قيامة العالم!