تبادل مواقع في الفشقة السودان يستعيد "اليد العليا" من إثيوبيا

ذات مصر
  بعد أقل من أسبوع على زيارة رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك للعاصمة الإثيوبية وإعلانه نجاح الزيارة، بل إحداثها “اختراقًا في ملفات شائكة، تتعلق بقضايا الحدود، واستئناف مفاوضات سد النهضة، والتنسيق الأمني”، تجددت المواجهات العسكرية على الحدود بين القوات السودانية وميليشيات إثيوبية مدعومة من الجيش النظامي، ما خلَّف خسائر في الأرواح والممتلكات، وأثار موجات غضب على المستوى الشعبي في البلدين، فما الذي حدث، وما أسباب اندلاع المواجهات في الوقت الذي تحدّث فيه “حمدوك” ومظيره الإثيوبي آبي أحمد عن اتفاقهما في النظر إلى ملف الحدود عبر لجان مشتركة. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ونظيره السوداني عبد الله حمدوك[/caption]

تفسيرات مختلفة لحدث واحد

على المستوى السوداني، تم تعريف المواجهات بأنها “غزو ميليشات إثيوبية حاولت العبث بالسيادة السودانية، وفرض أمر واقع، وقد تصدت لها قوات الحدود”، وذهب الإعلام السوداني إلى اتهام ميليشيات قومية “الأمهرة” المتحالفة مع الجيش الإثيوبي في حربه بإقليم التجراي بالضلوع في اندلاع المعارك بمنطقة الفشقة السودانية، التي حرررتها مؤخرًا وحدات من الجيش السوداني. من جهة أخرى، قللت إثيوبيا من خطورة تلك المعارك على الحدود الغربية، واعتبر مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي أن “تلك الأحداث العارضة لن تؤثر في وتيرة التفاهمات مع رئيس وزراء السودان”، لكن الأخطر أن متحدثة باسم آبي أحمد ردَّت على أسئلة الصحفيين بقولها: “المواجهات هي تعبير عن صراع الأجنحة داخل النظام السوداني، بين شقيه العسكري والمدني”، وأضاف المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي: “الخلاف الحدودي سيُنظَر فيه مع السلطة الشرعية في السودان حسب التفاهمات المتفق عليها مؤخرًا”، ونشرت الصحف الإثيوبية تقارير ومقالات اتهمت الخرطوم باستغلال انشغال الجيش الإثيوبي في معارك إقليم تجراي لإعادة ترسيم الحدود ووضع اليد على ما تعتبره مناطق متنازعًا عليها في الفشقة، المتاخمة لحدود إقليم الأمهرة الإثيوبي. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] إثيوبيا تتهم السودان بالتعدي على حدودها[/caption]

قصة الفشقة

“الفشقة” منطقة متاخمة للحدود الإثيوبية، وهي جزء من ولاية “القضارف” السودانية، يشقها نهر “باسلام” إلى جانب نهري “ستيت” و”عطبرة”، وتوجد بها أراض زراعية خصبة تصل مساحتها إلى 600 ألف فدان، وتمتد الفشقة على طول الحدود السودانية الإثيوبية بمسافة 168 كيلومترا، وتقع على مساحة 5700 كيلومتر مربع، وهي مقسمة إلى 3 مناطق: “الفشقة الكبرى” و”الفشقة الصغرى” و”المنطقة الجنوبية”. وقد بدأ الخلاف بين إثيوبيا والسودان في ملكية هذه المنطقة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وتحديدًا في 1957 حين فرضت إثيوبيا السيطرة عليها من خلال تسلل مزارعين إثيوبيين للعمل بطريقة بدائية، ونتيجة لقبول الأهالي وجودهم عادوا في العام التالي بصحبة آليات زراعية حديثة، ما دفع أهالي المنطقة للاعتراض على ما اعتبروه محاولة للاستيلاء على الأراضي الزراعية السودانية الخصبة، وقد عقدت حينها عدة اجتماعات لمسؤولي البلدين، اعترف خلالها الإثيوبيون بوجودهم داخل الأراضي السودانية، وبحلول 1962 بلغت المساحة التي زرعوها 300 فدان. وعادت الأزمة بحجم أكبر بعد سقوط نظام منجستو هيلي ماريام في إثيوبيا، وصعود الجبهة الثورية إلى السلطة في أديس أبابا، حيث دخل مزارعون إثيوبيون بإمكانات ضخمة وآليات حديثة عام 1992 مدعومين بحماية قوات إثيوبية وتوغلوا داخل الأراضي السودانية متجاوزين الخطوط السابقة، وطردوا المزارعين السودانيين واستولوا على أراضي إضافية بلغت مساحتها 44 كيلومترًا مربعًا. وجرت محاولات عدة من نظام عمر البشير لاستعادة تلك الأراضي التي صارت تخضع للسيطرة الإثيوبية، لكن باءت جميعها بالفشل أو المماطلة، وفي عام 2013 توصلت لجان ترسيم الحدود المُشتركة بين البلدين إلى اتفاق قضى بإعادة أراضي الفشقة للسودان، لكن حتى ذلك الاتفاق لم ينفذ، لتبقى المنطقة تحت السيطرة الإثيوبية، وظل النظام السوداني السابق يقدم أولويات أخرى في علاقاته مع أديس أبابا بدل الضغط في اتجاه تنفيذ الاتفاقات الخاصة بملكية هذه المنطقة. وبحلول 2017، جاء الإعلان عن التوصل لاتفاق ترسيم الحدود بين الجانبين، إلا أن هذا الإعلان تجنب الاعتراف بسيادة السودان على هذه المنطقة، واعتبرها “منطقة تخضع للتفاوض  الثنائي”.

هل بات السودان في موقع قوة؟

ظل السودان في فترة حكم الإنقاذ دولة ضعيفة، تعاني من نزاعات داخلية عدة، وحصار دولي مفروض لأسباب تتعلق بتصنيفه كدولة راعية للإرهاب، ما جعل علاقاته مع العالم والجوار في غالبها تعاني اختلالاً في الموازين بنحو وضع المصالح العليا للبلاد تحت ضغوط الراهن السياسي الذي أثّر في نظام الحكم في الخرطوم، ولعل العلاقة الإثيوبية السودانية تمثل أبرز مثال لاختلالات حساب المصلحة، فقد ظل نظام البشير يقدم مصلحة بقائه في السلطة على حساب سيادة الدولة ووحدة أراضيها! [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الرئيس السابق عمر البشير[/caption] سقوط البشير وتشكُّل قيادة وطنية حديثة بنفَس ثوري جديد صار يُملي على الحكام الجدد ضرورة إعادة تقييم جميع القضايا التي فرط فيها النظام السابق، بما فيها العلاقات الخارجية مع الجوار والعالم، كما أن الحرب التي تشهدها الجارة الشرقية (إثيوبيا) قد مثلت فرصة مواتية لإعادة تموضع السودان والتفاوض من موقع قوة، فمن الواضح أن هناك تبادلاً للمواقع التي ظلت قائمة، فالسودان الآن يبدو أكثر قوة وتماسكًا، ويتمتع بقبول دولي، خاصة بعد خروجه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الوضع في السودان[/caption] تبدو إثيوبيا الآن كدولة تعاني من أزمات داخلية، فضلاً عن حالة السيولة الأمنية بعد الحرب المستحدثة في تجراي وتداعياتها التي دفعت المجتمع الدولي للتفكير في إمكانية فرض عقوبات من قبيل حجب المساعدات الأوروبية والأمريكية المقدمة لدعم الموازنة العامة، بالإضافة إلى أن الإقليم المشتعل في الشمال يتاخم الحدود السودانية، كما يُعد السودان المنفذ الدولي الوحيد للإقليم، إذا ما استثنينا الحدود الإريترية، حيث يتحالف النظام مع نظيره الإثيوبي في هذه الحرب، ما يعني أن أديس أبابا بحاجة ماسة إلى التنسيق مع السودان في إطار عملياتها العسكرية الهادفة الى إلحاق الهزيمة بقوات تيجراي، وفرض طوق أمني وعسكري في حدودها، كما أنها بحاجة إلى مساعدة السودان لتجنب إمكانية إعادة تمركز تلك القوات انطلاقًا من العمق السوداني، علاوة على ضمان عدم فرار العناصر المطلوبة من قيادات تيجراي إلى الأراضي السودانية. هذه العوامل المهمة كلها بإمكانها إعادة صياغة موازين القوة لصالح الخرطوم، ولعلها الحسبة الموضوعية، التي درستها حكومة “حمدوك” في مضيها لإعادة تحرير منطقة “الفشقة” دون أن تخشى رد الفعل الإثيوبي.

هل تستغل الخرطوم وضعها الجديد؟

من خلال الاستعراض السابق لموازين الضعف والقوة لدى كل من أديس أبابا والخرطوم، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل تسعى الأخيرة لاستغلال موقعها الجديد في صياغة علاقات مغايرة لتلك التي ظلت سائدة لأكثر من 3 عقود؟ وهل يدرك صانع القرار السوداني أهمية ودقة هذه المرحلة لتحقيق مكاسب معينة، في ما يتعلق باستعادة الأراضي السيادية السودانية،  فضلاً عن المصالح الأخرى، خاصة ما يتعلق بملف سد النهضة الإثيوبي؟ من المبكر الإجابة بنحو قاطع عن هذه الأسئلة، لكن ثمة مؤشرات تؤكد السعي الحثيث للخرطوم في هذا الاتجاه، ولعل أبرزها زيارة حمدوك الأخيرة إلى أديس أبابا، عقب تحرير أجزاء معتبرة من الفشقة، والإعلان عن تفاهمات مهمة، من بينها ملف ترسيم الحدود، وعودة مسار التفاوض حول سد النهضة، بعد انسحاب السودان نتيجة التعنت الإثيوبي، ما يعني أن آبي أحمد، المثقل بتداعيات حرب تيجراي (داخليًّا وخارجيًّا) والمتطلع إلى مساعدة السودان، قد قدم تنازلات ما لحمدوك، الذي أنهى زيارته في وقت أقل مما أعلن عنه مسبقًا، كما أن التصريحات  السودانية اللاحقة (شديدة اللهجة) بعد تجدد المواجهات في الفشقة تشير إلى ذات المنحى الذي أشرنا إليه سابقًا.