الصوفية كلاعب احتياطي.. بديل الإسلام السياسي جاهز على خط التغيير

ذات مصر
 
يتجدد النقاش طوال الوقت حول الدور العام للدين في السياسة الداخلية والخارجية للدول، حتى الدول الغربية، التي يهمها بنحوٍ ما إعادة تعريف الدين في المجال العام، ووضع الحركات الدينية التي لها تأثير مجتمعي كبير. في هذا الإطار يناقش فيت موديني -أستاذ الدراسات الدولية بجامعة باتلر في إنديانابوليس- في كتابه “رعاية الصوفية” الاهتمام المتصاعد بالصوفية كحائط صد في مواجهة الراديكالية الدينية. بحسب “موديني”، فإنه “من المعترف به على نطاق واسع أن الدين أحد الاختلافات الرئيسة” بين البشر اليوم، وهو مؤثر في الأجندات السياسية و”أحد العوامل الرئيسة المؤثرة في السياستين: الداخلية والخارجية”، والحركات الدينية المتنوعة في الداخل والخارج الأمريكيّ مثل اليمين المسيحي في أمريكا وطالبان في أفغانستان، ويعد الدين أيضًا بحسب موديني من العناصر الهامة في السياسة الداخلية لدول عديدة. علاوة على ذلك، للجماعات الدينية العالمية مثل: القاعدة، وفالون جونج، والفاتيكان، تأثيرات مهمة في السياسات بأنحاء العالم.
[caption id="" align="aligncenter" width="658"] الصوفية في الجزائر سلاح الدولة لمحاربة الإرهاب[/caption]

البحث عن المسلم المسالم

حظي الإسلام باهتمام غير مسبوق على المستويين الوطني والعالمي، وبخاصة منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وصارت تعاليم الإسلام موضوعًا لسيل لا ينقطع من الدراسات، وتركز البحث بالأساس على الكيفية التي يستخدمه بها البعض لتحقيق أهداف سياسية، وصارت حكومات عديدة عبر العالم تهدف إلى “إيقاف انتشار التفسيرات الإسلامية المتزمّتة بهدف منع الهجمات المحتملة مستقبلاً”. في هذا الإطار سارعت جهات عديدة إلى محاولة إيجاد مناهج أخرى لفهم الإسلام، كرؤية متسامحة للإيمان، وكان الاستنتاج المبدئي أن الفرق الرئيس بين المسالم والإرهابي، هو بين من يفسّرون الدين “حرفيًّا” ومن يفسرونه “مجازيًّا”، وبعد هذا تحركت حكومات عديدة للترويج لشكل معين من التدين، وبالتحديد الصوفية في محاولة لمحاربة التطرف الديني. وفي كثير من الحالات، يكرس القادة الوقت والموارد الحكومية لتعزيز الصوفية، ليس فقط لمحاربة التطرف، لكن أيضًا انطلاقًا من تصور أن الصوفية ليست مهتمة بالسياسة، وهي بالتالي ليست مصدر قلق سياسي شرعي لهم، ولدى حكومات عديدة في العالمَين العربي والإسلامي قناعة بأن التصوف هو التفسير “الصحيح” أو المفيد للمجتمع، خاصة في ما يتصل بقضية السلام واللا عنف. وهكذا اعتبرت حكومات شرق أوسطية وغيرها أهمية دعم الجماعات الصوفية بسبب الاعتقاد بأن أي صوفي سيعزز تلقائيًّا السلام والمحبة، ومن أمثلة التوجه سالف الذكر حالات: المغرب والجزائر وروسيا، والشيشان وأوزبكستان، وجميعها اعتبرت دعم الصوفية جزءًا من جهود مكافحة الإرهاب. في ما يتصل بالحالة الجزائرية يشير مؤلف الكتاب السابق ذكره إلى أن الظاهرة الصوفية كان لها وجود قوي لعدة قرون، سياسيًّا واجتماعيًّا، وحتى على مستوى النضال السياسي-عكس الشائع- فخلال الاحتلال الفرنسي للجزائر كان الأمير عبد القادر، أحد أبرز قادة الحركة الصوفية المقاومة للاستعمار الفرنسي، واستمرت بعده، وكان الدين جزءًا مهمًا من الحركة المناهضة للاستعمار، خاصة داخل جبهة التحرير الوطني.
[caption id="" align="aligncenter" width="512"] الصوفية تطرح كبديل عن الإسلام السياسي[/caption]
لاحقًا حدثت تحولات سياسية واجتماعية عدة نتجت عنها محاولة دولة ما بعد الاستقلال السيطرة على المجال العام، حيث صارت وزارة الشؤون الدينية مشرفة على المجال الديني. وفي وقت متأخر من ستينات وسبعينات القرن الماضي، شجع بعض حكومات شمال إفريقيا وجود الإسلاميين للحد من تأثير اليسار، واستمدت هذه الصيغة عوامل استمرارها من معطيات اقتصادية وسياسية متشابهة في هذه المنطقة. وضمن السياق السياسي والاجتماعي الجديد في الجزائر في أواخر الثمانينات قررت جبهة الإنقاذ خوض الانتخابات، ما أدى إلى الأزمة السياسية الشهيرة التي انتهت بوقف المسار الانتخابي، واستقالة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، وبدأت فترة من العنف سُميت “عشرية الدم”. وبعد تولي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (2005) كان على رأس أولويات الدولة مواجهة المؤثرات السلفية التي اعتبرت رافدًا رئيسًا للأفكار المتشددة، ليبدأ اهتمام رسمي كبير بالصوفية، كنقيض فكري للسلفية. وفي 2010، بدأت الدولة في حظر دخول الكتب التي تروج للفهم السلفي، وكان الهدف “دفن شبح السلفية السياسية الراديكالية”، وكانت الإستراتيجية الرئيسة التي تستخدمها الحكومة هي ترويج الصوفية، والجهود التي بدأت فعليًّا بقدر محدود في التسعينات قد توسعت كثيرًا. وظهرت صورة جديدة للصوفية بوصفها تجسيدًا لـ”التسامح والسلم”، وتضمنت جهود إعادة التنفيذ أراضي ومزايا اقتصادية أخرى للصوفية مع السماح لهم بالعودة إلى إنشاء مدارس، واقترحت الحكومة زيادة إسهام الزوايا في نشاطات المجتمع المدني من خلال توفير الخدمات المختلفة للمعوزين، وصارت الزوايا توصف بـ”ملاذات السلام”. كان المسؤولون في الجزائر يرون أن للصوفية دورًا كبيرًا في تأكيد القيم الروحية والإنسانية والجمالية للإسلام، وبناءً على ذلك سمحت وزارة الشؤون الإسلامية بالجزائر للصوفيين بتوزيع الأدبيات المختلفة الورقية والمرقمنة للمدارس والمساجد، وقد نفذت أبحاثًا ميدانية استهدفت قياس مدى نجاح الإستراتيجية على أرض الواقع، أحدها شارك فيه أكثر من 2000 شاب جزائري، سُئلوا عن رأيهم في رعاية الرئيس بوتفليقة للتصوف، وقد وافق كثير من المشاركين على دعم الدولة للصوفية، واستشهد من شملهم الاستطلاع بعدد من الأسباب لتبرير أفكارهم عن دور الصوفية في المجتمع، وأظهرت النتائج أن:
53.47% يعتقدون أن الصوفية توفر المعرفة بالقيم الروحانية. 52.75٪ يعتقدون أن الصوفية تساعد في حل المشكلات الاجتماعية. 52.71% يعتقدون أنها “تردع الجريمة”. 58.33% يعتقدون أن الصوفية تشجع قيم التسامح.  55.65% شعروا بأن الصوفية عنصر مهم في الهوية.  40.98٪ يعتقدون بأن الصوفية أنقذت الناس من إدمان المخدرات. 
[caption id="" align="aligncenter" width="700"] المغرب يدعم الجماعات الصوفية[/caption]

المخزن والزاوية

في التاريخ السياسي والديني للمغرب تأثير صوفي قوي، وعلى مر القرون كان للطرق الصوفية حضور اجتماعي كبير للغاية، وتأثير ديني واسع، وامتد دورها حتى للسياسة فكانت تشارك في القضايا العامة، بل إنها لعبت دورًا حاسمًا في التجارة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، وبقي العديد من الطرق الصوفية نشِطًا في المغرب خلال القرن العشرين. في السنوات التي تلت هجمات 11 سبتمبر/ أإيلول بدأت الدولة المغربية تستشعر مخاطر التشدد بين المواطنين والجاليات المغربية في الغرب، وصارت تتحدث بوضوح عن أهمية “الاعتدال والسلمية”، وهذا التركيز الجديد على الإسلام تزايد بعد هجمات 2003 في المغرب، فاعترفت الحكومة بالإسلام الصوفي كأحد “أحجار الزاوية المؤسسة للهوية الإسلامية في المغرب”.. وهكذا، فإن المغرب لم يؤكد فقط الإسلام الأكثر “اعتدالاً” بل استثمر أيضًا في “الإسلام الصوفي”، ودعت إلى الصوفية من أجل مواجهة الراديكاليين، وجمع الملك محمد السادس “قادة الصوفيين المحليين وعرض ملايين الدولارات كمساعدات لاستخدامها كحصن ضد الأصولية الراديكالية”، وانهالت التبرعات على الطرق الصوفية. وبعد أن كانت الهوية المغربية تتلخص قبل 2002 في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي، أضيفت الصوفية منذ 2002 كعنصر ثالث في الهوية الإسلامية المغربية. وعكست التوجهات المغربية الجديدة عملاً منظمًا لبلورة إسلام “مغربي” جديد معتدل يتزايد اعتماده على التراث الصوفي ويعززه. وفي هذا الإطار جاء دعم عدد من الأحداث الفنية الصوفية، التي جمعت أكاديميين وفنانين حول مجموعة متنوعة من الموضوعات مثل الصوفية وحقوق الإنسان، والحوار بين الثقافات والتسامح الديني، وكان من أكثر هذه الأحداث تأثيرًا مهرجان فاس للموسيقى الروحية. وتشهد الصوفية الآن إحياءً كبيرًا في المجال العام المغربي كجزء من التدين يشجع الحوار بين الأديان والعالمية والتسامح والمودة والسلام.
[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] الحركات الصوفية في الاجتماع العربي لمجابهة حركات العنف[/caption]

مشاهد آسيوية وأخرى غربية

يمتد تاريخ التصوف في شبه القارة الهندية قرونًا، وكما هي الحال في دول عربية وإسلامية جديدة حمل القرن الحادي والعشرين منذ بدايته بذور اهتمام- لا يزال يتصاعد في الحقيقة- بالتصوف والجماعات الصوفية، ففي باكستان صار حزب الشعب الباكستاني يوصف بأنه حزب الصوفية، وارتبط نجاحه بالدعم الديني للصوفية، فتبنى إطلاق دعوات لتأسيس “مجلس صوفي” باكستاني يكون قادرًا على نشر التصوف كنقيض للتطرف، وصار هناك إلحاح على أن الصوفية “دعاة سلام”.
لكن في المقابل ونتيجة للدعم الحكومي المتصاعد للجماعات الصوفية في باكستان، بدأت الجماعات المتطرفة توجه أنظارها نحو الصوفية كخطر وجودي، فاستهدفتهم عمليات إرهابية نوعية تصاعدت منذ 2005، إذ استهدف متطرفون عددًا من المزارات الصوفية بالقنابل. وحتى 2009 وقعت 9 هجمات على الأضرحة الصوفية، وفي مايو/ أيار 2009 شكلت الجماعات الصوفية “مجلس الاتحاد السني” ويضم أكثر من 60 حزبًا مختلفًا، لتحاول من خلاله مواجهة الجماعات المتطرفة ووقف مد الطلبنة في باكستان. وعلى غرار الحالات الأخرى في الكتاب، لعبت الصوفية دورًا مهمًّا في سياسة روسيا، ففي القرن الثامن عشر وما بعده ظهر عدد من القادة المناهضين للحكومة تأثروا بالفكر النقشبندي الصوفي. وبعد “الثورة البلشفية” (1917) تحدى الصوفية قادة البلاشفة وطاردت الحكومة الطريقة النقشبندية واستولت على أرض الوقف، ما أثَّر كثيرًا في بقاء الزوايا الصوفية، كما أغلقت المساجد والمقابر الدينية الصوفية، وألغيت المحاكم الشرعية، ومع هذه الإجراءات ظهرت الحركات الصوفية السرية، لكن كل هذا بدأ يتغير عندما جاء ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة، باتباعه نهجًا جديدًا تجاه الدين، ما سمح لعدة دول بإعادة تأسيس الهيئات الدينية، وفي مقدمة التغير أعيدت الحياة للمزارات الصوفية. وضمن حزمة إجراءات شكَّلت رد الفعل الروسي على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول اتخذت إجراءات أمنية، بالإضافة إلى الدعم الرسمي للصوفية كقوة مضادة للتطرف، وحدث هذا رغم تراث “الارتياب التاريخي” الرسمي تجاه الطرق الصوفية. وكانت التسعينات المنعطف الكبير الذي تحول بعده مسار الموقف الرسمي تجاه الصوفية، وبحلول أواخر تسعينات القرن الماضي، ترسخت القناعة بأنها حائط الصد المناسب في مواجهة التفسيرات الراديكالية للإسلام، وهو ما تتبناه الحكومة الروسية الحالية بقدر كبير.
[caption id="" align="aligncenter" width="402"] فان باستن بعكازين[/caption]
في عام 2006، بعد وقت قصير من هجمات لندن الإرهابية في 2005، تأسست في لندن منظمة المجلس الإسلامي الصوفي، من مسلمين سعوا لتمثيل الصوفية في بريطانيا. ولبى ظهورها جزئيًّا طلب الحكومة المتمثل في البحث عن “المسلمين المعتدلين” لتسمع أصواتهم، وقد أكد قادة المنظمة القواسم المشتركة بين جميع الناس، والمساواة بصرف النظر عن العرق أو الإثنية أو الدين، وتلقت دعمًا من الحكومة البريطانية. مقصود أحمد، مستشار الحكومة للشؤون الدينية، قال في مؤتمر المجلس عام (2009): “حتى قبل عامين لم يكن هناك صوت، ووصل صوت الحب والسلام لنا في الحكومة”. وقد أعلن في 2007 إنفاق 70 مليون جنيه إسترليني على منع التطرف العنيف على مدى 3 سنوات، ما دفع بعض الطوائف الإسلامية المختلفة والمتعارضة في بريطانيا، لتبادل الاتهامات بالتطرف، فكل طائفة تقدم نفسها على أنها الصوت “المعتدل” للإسلام مع تصوير منافسيها كـ”متطرفين”. وبحسب منتدى بيو للدين والحياة العامة (2010) تبذل الحكومات الأوروبية جهودًا لتعزيز الصوفية لم تكن دائمًا ناجحة، وإلى جانب من يشجعون ذلك يوجد من يحذرون من تقسيم المسلمين بسهولة إلى فئتين بفجاجة: المسلم الصالح “المعتدل” والمسلم السيئ “المتطرف”، وتوهم أن مشكلة التطرف يمكن حلها بصب المال على “المسلم الصالح” من أجل تحييد المسلم “السيئ”.
  • فيت موديني، رعاية الصوفية، 2015، PALGRAVE MACMILLAN
أمريكا.