كيف جنّدني الإخوان؟ (ج 1)

ذات مصر
  ترعرعتُ في أسرة متوسطة الحال لأب موظف صغير وأم ربة منزل، كانت الأسرة محبة للفنون بأنواعها، تأنس بسماع كبار المطربين، كنتُ أكبر إخوتي، كنا 4 إخوة، اثنان من البنين واثنتان بنات. تأثرتُ كثيرًا بتربية أمي، خاصة في الجانب الأخلاقي، فقد كانت حريصة كل الحرص على عدم التأثر بسلوكيات زملائي وأقراني الخاطئة، في المدرسة أو الشارع الذي كنت ألعب فيه بجوار منزلنا، صرامة والدتي شكّلت مني شخصية انطوائية، كنت أميل للعب وحدي بعيدًا عن زملائي بالمدرسة، حتى استدعت معلمتي بالمدرسة والدتي تستفسر منها عن سبب عزلتي وشخصيتي شديدة الانطوائية. كانت السنوات الأولى من حكم الرئيس الراحل حسني مبارك تشهد نشاطًا كبيرًا للإخوان في ربوع مصر، وكنتُ حينها  في المرحلة الثانوية أقضي غالب وقتي ما بين المدرسة والمذاكرة والصلاة في المسجد، وواصلتُ على ذلك النهج حتى التحاقي  بكلية الزراعة عام 1983. كنتُ مواظبًا على الصلاة في مسجد الحي الذي أسكنه، اعتدت الوقوف مع أصدقائي ما بين صلاتي المغرب والعشاء أمام المسجد نتحدث معًا حتى يُؤذَّن للصلاة، كان بعضهم من أصحاب اللحَى الطويلة، يلبسون جلابيب قصيرة، ويظهر عليهم وفي أحاديثهم سمت ما يسمونه “الالتزام الشديد”، وعادة ما كان الحديث يدور حول الالتزام بالسنة النبوية مثل وجوب إطلاق اللحية، واستخدام السواك، وغيرها من الأمور، التي كانت تمثل موضوعات لا تثير اهتمامي. في تلك الأثناء تعرَّفت إلى أحد رواد المسجد، وكان يكبرني بنحو 6 سنوات، وتصادف أنه كان خريجًا قديمًا في كلية الزراعة، ومنزله كان يقع بجوار المسجد مباشرة، كان دمث الأخلاق، وكانت معاملته حسنة معي للغاية، ولاحظت أنه لم يكن ملتحيًّا، ومظهره لا يختلف كثيرًا عن الناس العاديين، كان يحدثني كثيرًا عن الدراسة بكلية الزراعة، وعن انتمائنا الكُروي إلى النادي الأهلي، وحبه للفن والغناء.. استطاع دون غيره أن يتقرب مني رغم طبيعتي الانطوائية وقلة أصدقائي. تقاربه ذاك لم يُرض بعض الإخوة الملتحين في حيّنا، ونصحوني بعدم الاقتراب منه لأنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، كما حذروني من محاولاته استقطابي للجماعة التي لم أنتبه لوجودها حتى ذلك الحين.
ورغبة منهم في تأكيد قطع علاقتي بهذا الرجل- كان اسمه أحمد- دعاني واحد من المجموعة، اسمه الشيخ عصام، إلى بيته، ليشرح لي الفروق الدينية والعقائدية بين السلفيين والإخوان، وأخذ يقنعني بصحة منهج السلفيين، والتزامهم بكتاب الله وسنة نبيه، حتى في الهدي الظاهر، أي المظهر الشكلي والسمت العام. أبان لي “عصام” أن الإخوان ليسوا ملتزمين دينيا، ومفرطون للغاية في سنة النبي صلى الله عليه و سلم، ويصلون في المساجد التي بها قبور، وهذا شرك بالله، حسب قوله، كما يهتمون بالسياسة على حساب الشرع، وعقيدتهم تخالف عقيدة سلف الأمة وأعطاني كتاب “تطهير الجنان من أدران الاعتقاد” للإمام الشوكاني. قرأت كتاب الشوكاني، والحقيقة وجدتُه صعبا مُعقّدا، حينها علم “أحمد” بزيارتي للشيخ عصام في منزله، فانزعج دون عصبية، مبررُا انزعاجه بأن السلفيين لا يهمهم سوى إبعاد الناس عن الإخوان، وكان يقول لي وأنا أسير معه إن السلفيين يهتمون بالشكل الظاهري، ولكنهم لا يهتمون بحقيقة الدين، وكنتُ أجد في حديثه كثيرُا من المنطق والعقلانية بالمقارنة بحديث الشيخ عصام السلفي. زاد اهتمام “أحمد” بي، وكان يمر عليّ في بيتي كي أذهب معه إلى بعض مشاويره، لم أهتم كثيرًا بهذه المقارنة العلمية بين السلفيين والإخوان، ولكن كان تشدد السلفيين ومظهرهم أمرًا مُنفرًا لي، وفي نفس الوقت كان “أحمد” لا يشغله سوى تقوية صداقته بي. حرص “أحمد” -على الأقل أمامي- أن يفصل بين انتمائه إلى جماعة الإخوان وبين صداقتنا، الرجل في الحقيقة كان أكثر ذكاء في أسلوبه من الشيخ عصام ومجموعته من سلفيي الحيّ، الذين نجحوا نجاحًا باهرًا في تنفيري منهم. لم يحدثني “أحمد” كثيرًا عن الإخوان وعن أفكارهم، فقد كانت مهمته -التي عرفتها بعد ذلك- تكمن في إدخالي بسلاسة وبساطة إلى هذا العالم، دون أي شعور مني بالقلق، لقد وجد صديقي فيَّ نموذجًا للشخص القابل للتجنيد بيسر وسهولة، فلم يتأخر عن دعوتي لجلسة قرآنية في بيته يوم الخميس بعد صلاة العشاء.. ذهبتُ في الموعد المحدد، فوجدت بعض الأصدقاء والجيران موجودين معي في هذه الجلسة، التي كانت مقسمة بين قراءة للجزء الثلاثين من القرآن والتجويد والتفسير، وقراءة أحاديث النبي من كتاب “الأربعون النووية” أو من كتاب “رياض الصالحين”.. اشتريتُ بعد ذلك هذين الكتابين، بالإضافة إلى كتاب “جامع العلوم والحكم”. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] طارق البشبيشي[/caption] استمر حضوري هذا اللقاء الأسبوعي، وعندما لاحظ “أحمد” اهتمامي ومواظبتي على الحضور طلب مني أن أدعو زملائي المقربين في الكلية، خاصة مَن يصلح منهم، لحضور هذا الموعد الأسبوعي، واستطعت أن أقنع بعضهم واستجاب لي 10 منهم كانوا معي في نفس الصف بالجامعة، واستمر منهم 7 على الأقل، عندها أخبرنا  “أحمد” أن مكان اللقاء قد تغيّر، وتحوّل إلى أحد المساجد البعيدة نسبيًّا عن منطقتنا، وجدتُ أن من أُبلغوا بتغيير المكان هم زملائي في الكلية فقط.. سلّمنا “أحمد” لشخص آخر يكبرنا بنحو 10 سنوات، وهو مَن أطلق علينا “مجموعة زراعة”، وكان يحضر معنا مجموعة “كلية تربية”، ومجموعة “كلية تجارة”. حضر “أحمد” معنا الموعد الأول، ثم غاب بعد ذلك واستغربت لغيابه، فلم أتعود منه على ذلك، ورويدًا رويدًا بدأت أستوعب، لم يكن “أحمد” يحاول أن ينسج معي علاقة صداقة كما اعتقدت أنا في البداية، بل كنتُ له وسيلة اصطياد عناصر جديدة يضمها للجماعة، أو يستخدمها في تجنيد الأنصار المؤيدين للجماعة دون الدخول فيها.. حزنتُ وتألمت في داخلي من موقف “أحمد”، لكن وجدت نفسي داخل نشاط جديد وأقران جدد يطلقون على أنفسهم “الإخوة”، فلا يذكر اسم أي منهم إلا وتسبقه كلمة “الأخ”، كذلك صرتُ أنا “الأخ طارق”. صار “جمال” مسؤولنا الجديد كما كانوا يرددون أمامي.. كانت شخصيته تختلف كثيرًا عن شخصية “أحمد”، فقد كان “جمال” حريصًا على أن ينسج حول نفسه هالة من الغموض ليثير اهتمامنا به، وكان كثير الانتقاد لنا، وربما وصل هذا الانتقاد لمستوى التقريع والتهكم، وكان يشعرنا دائمًا بأننا مقصّرون في العمل للإسلام، وكان يحاول أن يوهمنا بأنه يعرف كل شيء، رغم رسوبه المتكرر في كلية الهندسة، التي مكث بها 16 عاما، وهو الأمر الذي فسَّره لي الإخوة بعد ذلك بانشغاله عن الدراسة والمذاكرة بأمور “الدعوة” . [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] مقر جماعة الإخوان[/caption] زرع “جمال” بداخلي معظم أفكار الإخوان من خلال حواراته معنا في أثناء الجلسة المسجديّة وخارجها.. كنا نذهب إلى بيته ونجلس في (الصومعة)، وهي غرفة على السطح بها كراسيّ وسرير ومكتبة ولوازم الشاي، وكانت سهرتنا المعتادة ليلة الجمعة.. أدخَلَ “جمال” بالتدريج في عقلي قناعات كانت جديدة عليّ مثل: غربة الإسلام في العصر الحديث – عداء العالم كله للإسلام خاصة حكومات الغرب الصليبي،و اضطهاد الحكام والرؤساء للدعاة، وجنود الشرطة والجيش هم جنود فرعون، والحياة التي نعيشها حياة غير إسلامية، وعليّ أن أصنع لنفسي بديلاً عنها وحياة إسلامية حقيقية، سواء أكان بمفردي أم مع إخواني، حتى يعود الإسلام والقرآن يوما ما للحكم. يجب أن تكون دائمًا في يدي مسطرة إسلامية (افتراضية) أحكم بها على كل مَن حولي (أساتذتي الذين يعلمونني- الأحزاب والسياسيّين – المثقفين – الزعماء – الأدباء والفنانين، وغيرهم) فحتى أحكم على هؤلاء وأكّون فيهم رأيًا يجب أولاً أن أضعهم على هذه المسطرة، وأنظر مدى قربهم أو بعدهم من الإسلام ودُعاته. بعد مرحلة طويلة نسبيًّا من الاحتكاك والوجود داخل المجموعة، أعارني “الباشمهندس جمال” كما كانوا يطلقون عليه، كتابًا هامًّا للغاية، وهو “ماذا يعني انتمائي للإسلام؟” للكاتب الإخواني اللبناني فتحي يكن، وقد دعَّم هذا الكتاب كل الأفكار التي زرعها “جمال” داخلنا، وبعد قراءتي الكتاب حدث لي التحول الأكبر، كان هذا الكتاب نقطة مفصلية نحو التزامي بالوجود في أكبر جماعة للإسلام السياسي، وهي جماعة الإخوان المسلمين.