بين أناشيد الحماس ودعاء الهزيمة كيف نواجه "داعش" بالحرب النفسية؟

ذات مصر
  في منتصف عام 2014، وقف عدد من مسلحي تنظيم داعش، لم يتجاوز عددهم 300 مقاتل، يستعدون لشن سلسلة هجمات على القوات العراقية المتمركزة في مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة بغداد، ومركز محافظة نينوى (465 كم شمال بغداد) وبعد ساعات قليلة كان نبأ فرار القوات العراقية من المحافظة يتصدر عناوين الأخبار. تفاجأ العالم بانتشار وتمدد “داعش” السريع، لكن المفاجأة الكبرى كانت انهيار القوات الحكومية المقدرة ببضعة آلاف أمام عدد قليل من مسلحي التنظيم، الذين استهدفوا السيطرة على أحياء من شطر المدينة الأيمن فقط قبل العمليات، وفي 3 سنوات من الحرب المستمرة نجحت القوات العراقية في استعادة المدينة بعد معارك استمرت 10 أشهر. على مدار 3 سنوات بين الهزيمة والانتصار، انشغل الخبراء العسكريون والأمنيون بدراسة أسباب تمدد داعش في مقابل تراجع القوات العراقية الحكومية، التي كانت تمتلك تفوقًا تعبويًا واضحًا مقارنةً بالتنظيم. [caption id="" align="aligncenter" width="800"] مفارز داعش[/caption] في الإطار السابق، أجرى الضابط العراقي السابق هشام العلي، الباحث المتخصص في شؤون الدفاع والتسليح وعضو المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات بمدينة بون الألمانية، سلسلة دراسات ضمن مشروع “تحليل ما بعد المعركة”، استنادًا لمشاهدات وإفادات المقاتلين العراقيين ضد “داعش”، وقدمها لقيادة القوات العراقية، للاستفادة منها في جهود مكافحة الإرهاب. ويستند “تحليل ما بعد المعركة” إلى مشروعين مناظرين أجراهما الجيش الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) وحرب فيتنام (1955- 1975) وأسهمت النتائج، التي تمخّض عنها التحليل الأخير، في تحسين القدرات القتالية للجيش الأمريكي وتطوير أداء وحدات المشاة وباقي الأسلحة بقدر كبير.
إرادة القتال.. الحرب من منظور نفسي
وفقًا لعدد من الخبراء، كان انهيار القوات العراقية في داخل مدينة الموصل وغيرها من المدن العراقية انهيارًا نفسيًّا بالمقام الأول قبل أن يكون عسكريًّا، وهذا راجع إلى عدد من العوامل منها فشل وانعدام فاعلية أجهزة القيادة والسيطرة، وأسلوب حرب العصابات الذي اتبعه مقاتلو التنظيم خلال فترة طويلة قبل منتصف 2014. امتلك مقاتلو داعش إرادة القتال وتمكنوا من اكتساب الزخم وأخذوا زمام المبادرة في مواجهة القوات العراقية التي أصيبت بالشلل التام عندما بدأ التنظيم عمليته العسكرية، وبالتالي انهارت قطاعات كبيرة من القوات الحكومية بمجرد سماع نبأ تقدم التنظيم صوب مواقع تمركزها، وقبل أن تتعرض لأي عملية إرهابية. [caption id="" align="aligncenter" width="855"] قوات الحشد الشعبي[/caption] استفاد التنظيم من المُبادأة، وهو أحد بدهيات الحرب، التي يسعى فيها كل طرف لفرض ظروف المعركة على خصمه واختيار توقيت ومكان الاشتباك، وهو ما تستفيد منه مفارز داعش بوضوح، ويمنحها تفوقًا نفسيًّا على القوات النظامية التي تُصعب طبيعتها انتزاع المبادأة وقلبها لصالحها خلال الحرب. وبينما يتفوق مقاتلو التنظيم نفسيًّا في ساحة المعركة، ينهزم جنود وضباط الجيش العراقي في داخلهم قبل أن ينهزموا في ميدان القتال، ورغم ذلك لا تزال دوائر رسمية تُلقي بتهمة الهزيمة على أسباب سياسية وإدارية وقانونية، دون أن تُشير بنحو أساسي إلى الهزيمة النفسية التي تسبق بقية العوامل في الظرف الراهن. يشير “تحليل ما بعد المعركة” إلى أن امتلاك زمام المبادرة في الحرب وانتزاع المُبادأة يؤثر مباشرة في الوضع النفسي للقوات النظامية، فعلى حد تعبير أحد الجنود: “في أثناء الهجوم الذي تشنه قواتنا يمكنك أن تسمع الأناشيد والجمل الحماسية التي تلهب مشاعرنا وتُعلي من روح التنافس لدينا كأننا في رحلة صيد، أما في حالة الدفاع فأكثر ما نسمعه هو صوت الدعاء”. ومن المعروف لدى المختصين أن لجوء المقاتل إلى الدعاء حين مهاجمة ارتكازه أو وحدته العسكرية، يعد دليلاً على حالة الإحباط والهلع والقلق والاضطرابات النفسية التي تتملكه في هذا الموقف. ويمكن فهم السياق السابق فهمًا أوضح، عبر تحليل حالة الصدمة التي تصيب القوات النظامية في أثناء المقاومة الطارئة (إذا تعرضت لهجوم مفاجئ من التنظيم)، فقد لُوحظ أن القوات تُصاب بحالة فوضى وانعدام تعاون، ويحدث ارتباك في القيادة والسيطرة، ويزداد الأمر سوءًا إلى أن تنهار القوات المدافعة بالكامل، بعكس ما يحدث إذا كانت لدى القوات المدافعة معرفة مسبقة أو استعداد للتصدي للهجوم الإرهابي، ففي هذه الحالة تكون على قدر أكبر من الاستقرار النفسي يُهيؤها لصد الهجوم.
[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] القوات الحكومية العراقية[/caption]
ويقع على عاتق الضباط التنفيذيين امتصاص حالة الصدمة التي تصيب جنودًا تحت إمرتهم، ومحاولة تقديم الدعم النفسي لهم لتغيير الموقف العام لصالحهم، ويوضح التحليل أن عددًا من الضباط العراقيين لم يؤدوا الدور المنوط بهم واستسلموا لحالة اليأس والإحباط بعد انهيار الخطوط الدفاعية في منتصف 2014، فحسب شهادة أحد المقاتلين في قطاع شمال سامراء (125 شمال بغداد) فإن النقطة العسكرية التي تحصنوا بها تعرضت لإطلاق نار متواصل ولم يكن لديهم سوى عتاد وذخيرة محدودة، وعندما طلب من ضابط برتبة مقدم إمداده بذخيرة أكثر، أجابه: “انتظر حتى يُستشهد زميلك وعندها سيكون بإمكانك استخدم عتاده” ويوصي تحليل ما بعد المعركة بالاهتمام بالروح القيادية لدى الضباط ودراسة تأثير الروح السلبية على بقية القوات.

 الإستراتيجية الثلاثية.. هل يستفيد منها داعش؟

من ضمن الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها القوات العراقية قبل معركة الموصل الأولى، هو عدم وجود إستراتيجية شاملة لمواجهة إرهاب داعش، فبدلاً من وجود تصور مكتمل لديها والاستفادة من خاصيتي الاستباق والردع، اكتفت بالدفاع الهش الذي كان ردود فعل ضعيفة جدًّا أمام أعمال المسلحين (مقاتلي داعش) ومع مرور الأيام فقدت الخطوط الدفاعية جدواها وفاعليتها. ويثمّن تحليل ما بعد المعركة الإستراتيجية الثلاثية التي ترتكز على 3 أسس (الاسترخاء، والترقب، وفرض الفشل) واتبعت الحكومة العراقية هذه الإستراتيجية جزئيًّا في حربها ضد داعش. ويهدف الاسترخاء إلى وضع مقاتلي داعش في بوتقة الإحباط، عبر منحهم فترة هدوء داخل المدن التي يسيطرون عليها، مع شن حرب محيطية لا يكون هدفها تطويق المدن بالكامل، وفي تلك الحالة يصاب المقاتلون بحالة إحباط (كعادة المقاتلين العقائديين حين يمرون بفترة هدنة بعد قتال عنيف، إذ تضمحل لديهم القيم العقائدية والروحية والحماس الجهادي ويصبحون باحثين عن الأمن والراحة وبعض الامتيازات).
[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] البغدادي[/caption]
ورغم أن هذه الإستراتيجية وُضعت بالأساس لاستخدامها في أعمال مكافحة الإرهاب، فإنها تنطبق أيضًا على تنظيم داعش حاليًّا، فداخل المدن التي طُرد منها التنظيم توجد حالة من الترقب المستمر لنشاط خلايا ومفارز داعش التي تعمل بنظام حرب العصابات، وبالتالي تعمل القوات العراقية على تحصين مواقعها وانتظار الهجمات الوشيكة، وقد تمر فترة طويلة دون أن يحدث هذا الهجوم، وبالتالي يرتفع معدل القلق والإحباط لدى القوات ويفقدون جزءًا من تفوقهم النفسي لصالح التنظيم. وفى نفس الإطار، تدير سرايا ومفارز داعش حرب إنهاك طويلة تُجَر فيها القوات الحكومية نحو كمائن وفخاخ نصبها التنظيم الذي يحتفظ بجيوب عديدة داخل الصحراء العراقية مترامية الأطراف، في حين تتحفز القيادة العراقية لإطلاق الحملة تلو الأخرى ضد مناطق انتشار داعش، الذي يتخلى بسهولة عن مناطقه، ثم يعود للنشاط داخلها من جديد فور انتهاء الحملة، وهو ما يؤثر في معنويات القوات العراقية، ويفرض الفشل على الجهود الرامية للقضاء على بقايا التنظيم الإرهابي. وبالتالي فإن اتباع الإستراتيجية الثلاثية الرامية إلى تحطيم معنويات الخصم، صار يستغله بوضوح طرفا الصراع داخل العراق.

 تقدير الموقف.. نحو إدارة جديدة للصراع

يمكن القول إن حرب اليوم ضد داعش، هي حرب مجموعات عنقودية تجعل المعركة تدور على مساحات واسعة وليس على خطوط جبهة عريضة، وهو ما يشتت ذهن القيادات العسكرية، ويصيب مفاصل الإدارة والتخطيط العملياتي لديهم بالشلل في أثناء الأعمال الدفاعية ضد التعرضات والعمليات الإرهابية الخاطفة، ما يجعل الأحداث تسير نحو تشتت القرار والفردية في الأفعال والضغط النفسي على الجميع، ما يجعل الموقف العام محفوفًا بالمخاطر ومنذرًا بانتكاسات جديدة للقوات العراقية. وبناءً على ما تقدم، يؤكد تحليل ما بعد المعركة أهمية وجود قيادات فاعلة ومتزنة تستطيع تقدير الموقف بصورة صحيحة ومستمرة وإصدار أوامر وتوجيهات واضحة في أثناء التعرض لهجوم إرهابي، ما يجعلهم مصدرًا لبث الطمأنينة في صفوف الجنود ويعزز روح العمل الجماعي بينهم.
[caption id="" align="aligncenter" width="1000"] مقاتلو داعش في معركة استرداد الموصل[/caption]
وفي الوضع الحالي، يجب الاهتمام بالعامل الديموجرافي، خاصة في داخل محافظات المثلث السُّنّي العراقي الذي يضم بيئات اجتماعية بعضها رافض لتعامل الجيش والحشد الشعبي مع أبناء تلك المناطق، ما ينعكس على الوضع النفسي للقوات الحكومية وبالتالي على سير العمليات العسكرية. ويشدد التحليل على ضرورة اتباع إستراتيجية منسجمة للاشتباك والدفاع تقوم على إجهاض وحصر وتطويق العدو، والإسناد المتبادل بين السرايا والفصائل المتشابكة لتدمير قوات التنظيم المهاجمة. وفي النهاية، يدعو تحليل ما بعد المعركة إلى النظر إلى حرب العصابات التي يخوضها داعش من منظور سيكولوجي- سوسيولوجي بدلاً من اعتماد وجهة النظر العسكرية التكتيكية فقط في مواجهة التنظيم، والاهتمام بالجانب النفسي باعتباره سر النجاح والفشل في الحرب الحالية، لأن القوات العراقية تتموضع حاليًّا في وضع دفاعي طويل الأمد يحتاج إلى رسم خطط من خلال “سيكولوجيا الدفاع” التي أبرزت أهميته الخبرات السابقة في مكافحة الإرهاب.