النهضة التونسية.. مشروع "بقاء ناقص"

ذات مصر
 
“ولادة من الخارج.. ثم حظر دام عقودًا تبعته فرصة منحتها الثورة، وأخيرًا الصراع من أجل البقاء”.. بهذه الكلمات يمكن وصف رحلة حركة النهضة التونسية، التي نشأت تأثرًا بتجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر.. ظلت الحركة محظورة ولا تستطيع العمل منذ نشأتها حتى اندلاع ثورة الياسمين عام 2011، مانحة إياها قبلة حياة بعد أن كانت مجرد أطروحات نظرية. يبدو أن السنوات العشر الماضية، التي كانت فيها النهضة على رأس العملية السياسية، ليست كافية لتنفيذ ما ظلت تخطط من أجله على مدار عقود، حتى باتت اليوم داخل دائرة الحفاظ على البقاء حتى لو كلفها ذلك عبء تغيير رؤيتها السياسية. في محاولة للاقتراب أكثر والتعرف على العوامل التي دفعتها نحو هذا التغيير، يصحبنا الكاتب “فولفجانج مولبرجر” عبر ورقة عمل بعنوان “كيف تحرك حركة النهضة التونسية السياسة الإسلامية: من الفشل البرمجي إلى تأطير الإسلاميين الجدد”، قدم من خلالها رؤية واضحة وممتعة لتاريخ الحركة ومسارها السياسي منذ نشأتها حتى يومنا هذا.
[caption id="" align="aligncenter" width="1920"] الغنوشي[/caption]

تاريخ النهضة: خطاب شعبوي ومرجعية إسلامية

يمتد تاريخ حركة النهضة إلى ما بعد استقلال تونس عام 1956، وقت سياسات التحديث والعلمنة التي بدأها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وسعى من خلالها لإحكام السيطرة على المجال الديني عبر سياسات جاء في مقدمتها إلغاء المحاكم الإسلامية، وتفكيك الهيئات الدينية التقليدية وتهميش المؤسسات الدينية، خاصة جامع الزيتونة، فضلاً عن تعديل قوانين الميراث والأسرة لتتماشى مع سياسات التحديث. في مواجهة هذه السياسات، وتحديدًا في بداية السبعينات، برزت حركة النهضة أو “الجماعة الإسلامية” كما كانت تُسمى آنذاك، كحركة مناهضة لسياسات التغريب والعلمنة، سعت لاقتراح مشروع سياسي إسلامي كبديل للعلمنة، يهدف إلى بعث الشخصية الإسلامية لتونس، وتجديد الفكر الإسلامي، واستمدت أصوله الفكرية من أفكار جماعة “الإخوان المسلمين”، التي طرحت الإسلام كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي يتجاوز إطار الدين ويمتد ليشمل مختلف مناحي الحياة. تأثرت الحركة بعد ذلك بالثورة الإسلامية في إيران عام 1979 إذ شجعتها على الانخراط في النشاط السياسي، حتى إنها غيّرت اسمها إلى “حركة الاتجاه الإسلامي”، بدلاً من الجماعة الإسلامية، ليكون ذلك بداية لحركة إسلامية تونسية تشجع الدعوة والعمل السياسي في نفس الوقت. رغم هذا، لم تتمكن الحركة من تقديم نظرية سياسية واضحة لكيفية تطبيق المشروع الإسلامي في الحكم، واعتمدت في سياستها أكثر على التحرك وفقًا لمقتضيات الظروف والسياق السياسي القائم، لكن ذلك لا ينفي اعتمادها بعض المبادئ والتوجهات الواضحة من قبيل رفضها لشكل النظام السياسي القائم بعد الاستقلال، والمعاداة للعلمانية كما يبدو واضحًا في كتابات مؤسس الحركة، راشد الغنوشي. اعتمدت الحركة في مسارها خطابًا شعبويًّا يقوم على مفاهيم رئيسة مثل العدالة والحرية، وعمدت إلى تصوير نفسها على أنها التجسيد الحقيقي للتراث والهوية التونسية، كما عمدت للتأكيد على كونها ضحية القمع السياسي والإقصاء في ظل ما تعرضت له من اضطهاد خلال عهد بورقيبة ومن بعده الرئيس السابق زين العابدين بن علي، اللذين اعتبرا الحركة “خصمًا سياسيًّا وتهديدًا رئيسًا لهما”، ورفضا محاولاتها للمشاركة السياسية حتى بعدما تحولت لحركة النهضة عام 1988، وسعت للمشاركة في العملية السياسية والانتخابات البرلمانية في العام ذاته.

ما بعد الثورة: من السرية إلى ممارسة السياسة ولكن

على هذا النحو، تعرضت الحركة للاضطهاد وفرَّ العديد من أعضائها خارج البلاد، ما جعلها تعطي الأولوية للحفاظ على بقائها، وتستمر في هذا المسار حتى اندلاع الانتفاضات العربية عام 2011، التي منحتها الفرصة لتصير حزبًا سياسيًّا ولاعبًا شرعيًّا مشاركًا في الحكم. نجحت الحركة من خلال خطابها الشعبوي في اجتذاب التونسيين، وتمكنت من الفوز واحتلال المركز الأول في الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011، وقادت حكومة انتقالية منتخبة بالتحالف مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، مكونة ما يُعرف بحكومة “الترويكا” بين عامي 2011 و2013، كما شاركت في صياغة الدستور ومختلف مراحل الانتقال السياسي التي تلت الثورة التونسية. ورغم الفرصة الذهبية التي منحتها الثورة التونسية والانتفاضات العربية للحركة، فإنها كشفت في الوقت ذاته أوجه القصور والخلل داخل الحركة، وعدم امتلاكها نظرية سياسية واضحة بشأن تطبيق مشروعها السياسي وميلها في سياستها بقدر كبير نحو البراجماتية والتكيف مع السياق السياسي حفاظًا على وجودها، الأمر الذي تسبب في النهاية بحدوث انشقاقات بصفوف الحركة، وخلافات مع تيارات الإسلام السياسي المساندة لها، خاصة السلفيين. ظهرت الخلافات بين الحركة والسلفين منتصف عام 2013 عقب تصنيف حكومة النهضة (تحالف الترويكا) لـ”جماعة أنصار الشريعة” (منظمة سلفية جهادية) كمنظمة إرهابية على خلفية الاحتجاجات المندلعة في تونس ردًّا على الاغتيال السياسي لاثنين من قادة اليسار، وهما شكري بلعيد ومحمد براهمي، في فبراير/ شباط ويوليو/ تموز 2013 على التوالي، والتي تصاعدت فيها هجمات الجماعة والسلفيين المتشددين ضد قوات الأمن ومؤسسات الدولة. في هذه الأثناء، أُطِيحَ بحكم الإخوان المسلمين في مصر، وأدركت النهضة أن عليها التعامل ببراجماتية أكثر والتخلي عن بعض المواقف الأيديولوجية للحفاظ على مكتسباتها ووجودها بالأساس، فعمدت إلى توثيق علاقاتها مع ممثلي ورموز النظام التونسي السابق عبر إبرام التسويات معهم، وتُرجم هذا فعليًّا عام 2014، حين صوَّت حزب النهضة ضد استبعاد أعضاء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي السابقين من الترشح السلطة، معللاً ذلك برفضه الإقصاء الجماعي وتفضيل التمهل وانتظار ما سيفرزه قانون العدالة الانتقالية من محاسبة للمتورّطين في الفساد من رموز النظام السابق. تسببت هذه الخطوة في تراجع شعبية النهضة وفقدانها جزءًا كبيرًا من مصداقيتها، خاصة أنها جاءت في تناقض واضح مع ما طالبت به بعد خلال حملتها الانتخابية من تحقيق مطالب الثورة ومناداتها بعزل رموز النظام السابق. وبجانب الخلافات مع السلفيين وخسران المصداقية لدى التونسيين، كان في صفوف الحركة ذاتها استقطاب ظهر جليًّا خلال مشاركتها في عملية إعداد دستور ما بعد الثورة، إذ اقترحت الكتلة النيابية للحركة نصًّا دستوريًّا من شأنه أن يجعل من الشريعة مصدرًا للقوانين، لكن هذا الاقتراح لاقى معارضة كبيرة من الأحزاب العلمانية، ما دفع الحركة إلى المهادنة وسحب الاقتراح، مع محاولة تلطيف الأجواء وطمأنة مؤيديها بأن مواد الدستور الجديد الذي صدر في يناير/ كانون الثاني 2014 تؤكد أن الإسلام هو دين الدولة، ومَعلمْ هوية أساسي للشعب التونسي، وأن الحركة ستظل متمسكة بهويتها الإسلامية لأن الإسلام السياسي يهدف في جوهره إلى تعزيز أهداف الشريعة الأوسع نطاقًا، كالعدالة والحرية. ورغم محاولات الحركة لطمأنة مؤيديها والترويج للأمر كأنه انتصار، لكن مرونتها هذه تسببت في انقسام بين صفوفها، خاصة من جانب المتمسكين بضرورة أن تكون الشريعة أساس التشريع بالدستور، كما زادت خلافاتهم مع السلفيين، الذين اعتبروا المرونة خيانة لهم بعدما منحوا الحركة أصواتهم.

الديمقراطية الإسلامية: إستراتيجيات النهضة للمواءمة والتكيف

تُشير سياسات النهضة السابقة إلى أنها تعتمد في سياساتها على التكيف مع الظروف السياسية والاجتماعية، وأن اتجاهًا للمرونة جاء بالأساس في إطار محاولاتها للتكيف مع الواقع، ففي كل مرة تبدي فيها الحركة موقعًا راديكاليًّا يلقى رد فعل معاديًا أو رافضًا، سواء أكان من الإعلام أم المعارضة أم المواطنين، تعود مرة أخرى إلى البراجماتية وتقديم تنازلات حفاظًا على مكتسباتها ومسايرةً للواقع، بل وتعمل للترويج للأمر على أنه سعي منها للاعتدال بعيدًا عن المواقف المتطرفة، رغم أن هذا الاعتدال جاء بالأساس نتيجة لتوازن القوى في المجال الاجتماعي والسياسي العام. هذا التكيف رغم ما يحققه للحركة من مكتسبات، يفرض أيضًا العديد من التحديات أمامها، ويثبت أن نظريتها ورؤيتها للإسلام السياسي غير واضحة أو محددة المعالم، كما يتسبب في انشقاقات صفوف الحزب، خاصة من الشباب السلفي، الأمر الذي يجعل سياسات الحركة وإستراتيجيتها للبقاء على المحك، فهي ممزقة بين ما تدعيه وما تمارسه على الساحة السياسية. نتيجة لهذه التحديات، اتجهت الحركة لتجديد خطابها القائم على مفاهيم الهوية والعدالة والحرية، قدمت مفهومًا جديدًا وهو “الديمقراطية الإسلامية”.. ظهر المفهوم في مايو/ أيار 2016، حين اجتمعت الحركة في مدينة “الحمامات” التونسية بمناسبة انعقاد المؤتمر العاشر للحزب، وأعلنت استعدادها للتخلي عن “الإسلام السياسي” وتبني “الديمقراطية الإسلامية”، التي من خلالها يبرز حزب النهضة كحزب سياسي مدني ديمقراطي. وخلال هذا الاجتماع تبنت الحركة مبدأ “التخصص” الذي يفصل بين النشاط السياسي والديني للحركة، أي فصل العمل السياسي للحزب عن الأنشطة الدعوية، وبمقتضاه لم يعد مسموحاً لقادة الحركة المسؤولين سياسيًّا ممارسة الأنشطة الدينية في الجوامع أو تولي مناصب قيادية في الجمعيات الدينية. ورغم هذه المحاولة، فالواقع يشير إلى أنها لم تُحدث تغيرًا حقيقيًّا، فحتى اليوم لم تتغير اللائحة الداخلية للحركة لتتناسب مع إعلان التخصص، ولا يوجد تمييز واضح بين الحركة كحزب يمارس العمل السياسي، وكمنظمة دعوية تكرس اهتمامها للأنشطة الدينية.. الاختلاف الوحيد الذي حدث فعليًّا هو أن الممثلين المنتخبين للحركة لا يمارسون الأنشطة الدينية كالوعظ وإمامة الصلاة. نهاية، يمكن القول إنه رغم تغيير الحركة خطابها وإبدائها الاستعداد لتقديم تنازلات، فأجندتها السياسية وممارساتها ما زالت متغيرة وغير مكتملة، كما أنها تفتقد إلى المصداقية، ما ينعكس على شعبية الحركة وقدرة الحزب على العمل السياسي، كما أن محاولاتها لإعادة تقديم نفسها كحزب وسطي معتدل بدلاً من كونها حزبًا إسلاميًّا، لا تنبع من تغير حقيقي في توجهات الحركة وإيمانها بالليبرالية، وإنما محاولة منها للحفاظ على وجودها ومنع تآكل شعبيتها في ظل التحديات المجتمعية والسياسية التي واجهتها، وربما أيضًا محاولة لتميزها عن الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية مثل “داعش” و”القاعدة”. إلى هنا يبقى السؤال قائمًا: هل يمكن لحزب النهضة في ظل توجهاته الدينية المحافظة أن يتخلى عن تلك التوجهات لصالح الديمقراطية والليبرالية؟