داعش لبنان ذئابٌ يقظة في بيئة قابلة للانفجار

ذات مصر
  أوائل سبتمبر/ أيلول الماضي، كانت القوات اللبنانية تستعد لتنفيذ مهمة استثنائية في شمال البلاد، بعد نحو أسبوعين من تنفيذ إحدى الخلايا المسلحة هجومًا على حراس البلدية ببلدة كفتون الكورانية (شمال بيروت)، وبعد أيام أعلن الجيش اللبناني أن مديرية المخابرات التابعة له فككت خلية جديدة لتنظيم داعش. لم يكن الإعلان عن القبض على عناصر داعش مفاجئًا، لكنه أتى في توقيت حساس، بعد أقل من شهر واحد على انفجار مرفأ بيروت الذي خلف مئات القتلى والجرحى، فضلاً عن دمار هائل في العاصمة اللبنانية التي تعيش واقع أزمة سياسية واقتصادية في الفترة الحالية، يضاف إليها التهديد الأمني الذي تشكله الخلايا الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم داعش. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] قوات الجيش اللبناني[/caption] ففي 21 أغسطس/ آب 2020، أطلق مسلحون النار على 3 من حراس البلدية (وحدات نظامية تتولى مهام الحراسة وضبط النظام داخل البلديات اللبنانية) ما أسفر عن مقتل 3 من الحراس من بينهم علاء فارس (نجل رئيس البلدية). ووفقًا للتحقيقات التي أجرتها أجهزة الأمن وقوات الجيش اللبناني، تتبع المجموعة التي نفذت الهجوم الإرهابي لخلية “خالد التلاوي” الذي نفذ هجمات إرهابية أخرى قبل أن يُقتل في اشتباك مع قوات الجيش في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي.

لبنان في عين العاصفة

النشاط الأخير للخلايا الإرهابية داخل لبنان، يرتبط بالأزمة المعقدة التي تعيشها البلاد، وفقًا لتأكيدات العديد من الخبراء والمختصين، فالبلاد تعيش أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة توصف بـ”أزمة الإفلاس الأعمق منذ نشأة الدولة اللبنانية الحديثة”. ولم يكن لبنان يومًا بمنأى عن تحركات الجماعات الإسلامية المسلحة، والتي منحها الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 زخمًا جماهيريًّا، وساهم في ازدياد نشاطها وتزايد وتيرة عملياتها. وشهد عام 2007، واحدة من كبرى المواجهات التي دارت بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الإسلام بقيادة شاكر العبسي، داخل مخيم نهر البارد، وانتهت المواجهات بهزيمة الجماعة وانتصار الجيش اللبناني. ومنذ ذلك الوقت عاشت البلاد حالةً من الهدوء الحذر، إلى أن منحت أحداث الثورة السورية قبلة الحياة للجماعات الإسلامية التي انخرطت مباشرة في الصراع السوري. تحولت الحدود اللبنانية-السورية التي تبلغ نحو 330 كيلومترًا، إلى مناطق تهريب للمقاتلين ودعم لوجيستي للحركات المسلحة التي تقاتل ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بجانب استغلالها من قبل المهربين في نقل اللاجئين الفارين من لهيب الحرب على الناحية الأخرى من الحدود. [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] عناصر داعش[/caption] وفي 2014، خاض الجيش اللبناني معارك عنيفة ضد مسلحين من تنظيمي داعش وجبهة النصرة في بلدة عرسال الحدودية، قبل أن ينسحب المسلحين الذين احتجزوا 30 عسكريًّا لبنانيًّا، ويعيدو التمركز في منطقتي جرود القاع وجرود رأس بعلبك. وتمكنت قوات الجيش من إعادة السيطرة على تلك المنطقة، بعد إطلاق عملية عسكرية عرفت بـ”فجر الجرود” ضد جيوب داعش في المنطقة الحدودية، بالتوازي مع عملية أخرى شنها الجيش السوري مدعومًا بمسلحي حزب الله في القلمون الغربي (على الجانب الآخر من الحدود) وبعد نحو 10 أيام من المواجهات، جرى عقد اتفاق بين حزب الله وداعش، انسحب التنظيم بموجبه من المنطقة تجاه مدينة البوكمال السورية (الحدود السورية- العراقية).

إعادة الهيكلة وشبكات الدعم التنظيمية

انهارت خلافة داعش المكانية في مارس/ آذار 2019، وأعادت قيادة التنظيم هيكلته ليعمل كمجموعات حرب عصابات، وفي نفس الوقت، عملت على تفعيل شبكات خارجية للدعم اللوجيستي والإعلامي، وكان من بينها خلايا داعشية في لبنان، وذلك وفقًا لدراسة سابقة نشرها مركز مكافحة الإرهاب بأكاديمية ويست بوينت الأمريكية. ورغم تلقي التنظيم ضربات قوية أواخر عام 2019 بمقتل زعيمه أبو بكر البغدادي والمتحدث باسمه أبو الحسن المهاجر، نجح في التكيف وأعاد تنشيط خلايا بنحو لافتة للنظر في عام 2020 الذي سجل نحو 566 هجومًا إرهابيًّا في ربعه الأول فقط، وذلك استنادًا إلى إحصاء أجراه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى. وذكر كريستفر ميلر، وزير الدفاع الأميركي الحالي، ومدير المركز الوطني الأمريكي لمكافحة الإرهاب سابقًا، في جلسة استماع أمام لجنة الأمن القومي في مجلس النواب الأمريكي، أنه على الرغم من هذه النجاحات التي أحرزها التحالف الدولي في مواجهة داعش، أثبت التنظيم مرارًا قدرته على النهوض من خسائر فادحة تكبّدها، خلال السنوات الست الماضية، بالاتّكال على كادر مخصّص من القادة المخضرمين من الصفوف المتوسطة، وشبكات سرية واسعة النطاق، وتراجع ضغوط مكافحة الإرهاب. من جانبه، قال العميد المتقاعد والخبير الإستراتيجي، إلياس فرحات، إن تنظيم داعش تحول منذ سقوط آخر معاقله في قرية الباغوز فوقاني السورية (مارس/ آذار 2019) من نمط الانتشار العسكري والسيطرة على الأرض في مناطق شمال شرق سوريا والعراق إلى الاعتماد على الخلايا الصغيرة والمتوسطة الحجم، في حين بقي نظام القيادة والسيطرة فاعلاً، ويرتكز على نظام اتصالات متطور جدًّا يسمح بقيادة المجموعات في مناطق مختلفة من سوريا والعراق. [caption id="" align="aligncenter" width="501"] إلياس فرحات[/caption] لبنانيًّا، أشار “فرحات” في تصريحات إلى “ذات مصر” إلى أنه لم يُسجَّل أي ظهور لداعش بعد خروجه من جرود رأس بعلبك والقاع صيف العام 2017، لكن ظلّ الاعتقاد سائدًا بأن خلايا نائمة وذئابًا منفردة تنتظر أوامر من قيادة داعش لتنفيذ أعمال إرهابية في لبنان وسوريا. وعلى هذا الأساس، يضيف العميد: “نفذ أحد الموالين لداعش/ ذئب منفرد في الرابع من يونيو/ حزيران الماضي عملية إطلاق نار في مدينة طرابلس (شمال لبنان) أدت إلى مقتل ضابط و3 عسكريين من الجيش وقوى الأمن، ثم كانت جريمة كفتون في سبتمبر/ أيلول 2020″، مرجحًا أن تكون الأوامر بتنفيذ العملية صدرت من مكان ما في شرق سوريا أو العراق لتنفيذ عملية إرهابية.

استغلال الأزمة

ذكر رضوان مرتضى، الكاتب اللبناني المتخصص في القضايا الأمنية، في تصريحات خاصة إلى “ذات مصر” أن الأوضاع الاقتصادية في لبنان وما تبعه من انهيار العملة المحلية شكّل مصدر استقطاب استفادت منه الجماعات الإرهابية، التي اعتمدت نظام الحوالة (نظام صرافة غير رسمي) في توفير دعم لوجيستي ومالي، كأحد وسائل نقل الأموال لخلاياها. [caption id="" align="aligncenter" width="950"] رضوان مرتضى[/caption] وتابع: قبيل جريمة كفتون الأخيرة، جرى توقيف مجموعة من الأشخاص (لبنانيين وسوريين) يعملون في مجال تحويل الأموال والصرافة غير الشرعية، وإجراء عمليات تحويل أموال لإرهابيين، كما أن جريمة كفتون نفسها كشفت النقاب عن نوايا أعضاء التنظيم تنفيذ عمليات سرقة لتمويل تحركاتهم الإرهابية. وفي الإطار السابق، اعتبر “رضوان” أن هذا ليس بالأسلوب الجديد على التنظيم، لكن عناصره دفعوا إلى تنفيذ عمليات السرقة والاغتيالات الأخيرة بدوافع ذاتية، مبينًا أنه لا يمكن اعتبار المجموعة المنفذة لهجوم كفتون “خلية نائمة” لأن عددها نحو 32 عنصرًا، في حين تتكون الخلايا النائمة في الغالب من عدد محدود لا يتجاوز 5 عناصر. وتابع: من اللافت أيضًا استماتة عناصر الخلايا المتبقين والبالغ عددهم 9 عناصر في القتال 6 ساعات في أثناء محاولة ضبطهم، وهو ما يعد تطورًا في تكتيكات مسلحي داعش في لبنان. وكانت مصادر أمنية لبنانية قد كشفت في وقت سابق، عن مخطط كانت تعدّه المجموعات المتطرفة التي جرى كشفها بعد هجوم كفتون وهي: استهداف أماكن دينية مسيحية في منطقة إقليم الخروب في محافظة جبل لبنان، عبر تنكر “الانغماسيين” بزيّ رجال الدين المسيحيين. كما كان من ضمن لائحة الأهداف بعض التحضيرات غير المكتملة، مثل تنفيذ يوم إرهابي حافل يتضمن 19 هجومًا انتحاريًّا متزامنًا في الوقت نفسه مع 19 هدفًا موزعة في لبنان. ومع أن قوات الجيش والأمن اللبنانية نجحت في كشف المجموعات الإرهابية المتورطة في الهجمات الأخيرة، تتواصل التحذيرات من عودة نشاط التنظيم في البلاد، بالتزامن مع استعادة التنظيم في سوريا والعراق لفاعليته وقدراته العملياتية، خلال الفترة الماضية. [caption id="" align="aligncenter" width="900"] قاسم قصير[/caption] وفي هذا السياق، أكد قاسم قصير، الخبير في الحركات الإسلامية، أن عودة داعش للعمل والنشاط داخل لبنان مرتبط بالأوضاع الداخلية والخارجية، ففي كل بلد تشتد فيه الصراعات السياسية والحزبية والطائفية تشتد فيه الجماعات المتطرفة وتستغل الفراغ كي تنشط، وتستفيد من الصراعات في المنطقة لإعادة تفعيل دورها. وأضاف “قصير” في حديث إلى “ذات مصر” أن أجهزة الأمن اللبنانية كانت لديها معلومات خلال الفترة الماضية عن إعادة تفعيل دور داعش في لبنان، وتمكنت من كشف خططه، فقد كان مقررًا أن يستغل التنظيم الإرهابي أي انفلات أمني متوقع في البلاد، لكن اليقظة الأمنية وعدم وجود بيئة مواتية لعمل التنظيم في البلاد حاليًّا، أجهضت تلك المخططات.