"القرضاوي".. سيرةُ إلحاحٍ مصنوع وذاكرة متناقضة

ذات مصر
  متكئًا على عقود من الإلحاح المصنوع بصبر ودأب، يقعد الداعية التسعيني، مصري المولد قطري الجنسية، يوسف القرضاوي، في مقر إقامته بالدوحة مستقبلاً وفودًا حكومية ودبلوماسية، وذلك بعد أن باتت زيارة الرجل بطريقة أو أخرى بندًا على جدول تحركات كبار القاصدين للعاصمة القطرية. والقرضاوي، المولود عام 1926 في قرية "صفط تراب" التابعة لمركز المحلة الكبرى بمحافظة الغريبة بمصر، أحد أبرز رجال الدين الداعمين صراحة لجماعة "الإخوان" وعناصرها، وانخرط في صفوفها في فترة مبكرة من أربعينات القرن الماضي، وظل عضوًا نشطًا في مستوياتها المختلفة إلى أن وصل إلى عضوية تنظيمها الدولي، وفق ما يقول هو نفسه في سيرته الذاتية. غير أن الرجل، الذي صعّد من خطابه ومواقفه ضد نظام الحكم المصري وغيره من الدول التي تقاوم سياسات "الإخوان" منذ إزاحة حكمها في 30 يونيو/ حزيران 2013، كان في سنوات ما قبل "الربيع العربي" يُقدَّم في المحافل الدينية وعبر وسائل الإعلام على اعتباره "أحد أصوات الاستنارة، والوسطية، ورفض العنف".. فكيف إذًا حدث هذا التحول في شخصيته؟ أو بالأحرى، هل كان هناك أصلاً تحول؟ ولأنه لا شيء يحدث في الأفكار فجأة، فإن القرضاوي، الذي يقول في الجزء الأول من مذكراته (ص14 النسخة المنشورة على الموقع الإلكتروني الرسمي): "كان مزاجي من الصبا مع المنهج الوسطي.. مما أحمد الله عليه العدل والاعتدال مع الناس"، ويضيف في موضع آخر (ص153): "لا يليق بالزعماء والقادة الكبار أن يستغلوا حماس الطلاب وحرارة الشباب لتحريكهم وجرهم إلى أهداف حزبية، ومصالح سياسية خاصة بغض النظر عن مصلحة الأمة الكبرى".. لكننا نجد أن القائل لما سبق هو نفس الرجل الذي أنشد عندما كان شابًّا (مع المنهج الوسطي) ابتهاجًا باغتيال محمود فهمي النقراشي، رئيس وزراء مصر الأسبق عام 1948، فقال القرضاوي مخاطبًا منفذ عملية الاغتيال عبد المجيد حسن: "عبد المجيد تحية وسلام.. أبشر فإنك للشباب إمام.. سمّمت كلبًا جاء كلب بعده.. ولكل كلب عندنا (سمّام)". وصحيح أنه من الطبيعي والممكن أن يراجع الشخص مواقفه فيؤثم مثلاً التشدد الذي كان عليه صغيرًا، لنجده يكتب ناقدًا في عام 2002 في الجزء الأول من مذكراته (ص319) إن "سياسة الاغتيال فلسفة عقيمة، لا تحل عقدة ولا تعالج مشكلة، والإخوان في عقودهم الأخيرة يتبنون فلسفة أخرى تقوم ضد العنف عامة وتبني الحوار والتغيير السلمي"، لكنه، في ما بدا محاولة للفرار من ذاكرته أو ربما للتوافق مع حقيقة أفكاره، يكتب في عام 2015 تعليقًا على اغتيال النائب العام المصري هشام بركات: "أفضى النائب العام إلى ما قدّم، فهل أغنى عنه منصبه؟ وبمَ سيجيب ربه؟" كانت تلك إذًا بذورًا أولى في النشأة، ترعرعت ونمت في شباب الرجل، بل وأثمرت في شيبه.. غير أنه من الضروري كذلك النظر إلى بذرة أخرى من بذور التكوين، ودراسة فصل آخر من فصول مضغ الذاكرة، وبحسب ما يقول القرضاوي عن مدحه لمؤسس "الإخوان" حسن البنا: "ألقيت قصيدة بين يديه في مدحه، وما مدحت أحدًا من الأحياء غيره"، لكن القرضاوي نفسه كتب قصيدة ألقاها في منتصف الأربعينات يمدح من وصفه بـ"زعيم طلبة مصر مصطفى مؤمن خلال مؤتمر في مدينة طنطا": "حيّيت فـيه لحية سُنّية.. أضفت عليه مهابة الحكماء.. الشعر مـزدحم بها فـكأنها حكم وذاك تزاحم الزعماء". وناهيك بما يمكن أن تمثله طريقة التكوين تلك التي تقوم على صبي ينشد قصيدة تتغزل في "لحية" طالب أكبر منه سنًا وأرفع منه مقامًا في التنظيم، لكنها لم تكن هي فقط من بذور النشأة التي كان منها أيضًا ما كان محل انتقاد القرضاوي نفسه، الذي يقول (ص 308: 309): "جماعة الإخوان تعاني من ضعف الجانب الثقافي أو العلمي أو الفكري، (...) كانت الفكرة المسيطرة أن يدربنا (المسؤول عنا) على السمع والطاعة، وعلينا أن نقول لقادتنا ما قال إسماعيل لأبيه: يا أبتِ افعل ما تؤمر، فهو يريد جنودًا مطيعين، لا دعاة مثقفين، كأنما كان هناك خوف من القراءة والثقافة أن تنشئ العقلية المتمردة". [caption id="" align="aligncenter" width="999"] القرضاوي مع الموريتاني ولد الددو[/caption] مر الرجل بمسار خاضه أقرانه في تلك الحقبة من تجربة الاعتقال فيما قبل ثورة يوليو/ تموز 1952 وما بعدها مرتين، وعلى مستوى الدراسة فقد التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ثم حصل على العالمية مع إجازة التدريس من كلية اللغة العربية سنة 1954، ثم حصل على "الدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين" عام 1960. لكن واقعة لافتة حدثت عندما قرر القرضاوي البحث عن زوجة، تكشف عن جانب كبير من طبيعة التكوينات الاجتماعية ذات الطابع الطبقي في صفوف "الإخوان" منذ وقت مبكر في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، فيقول الرجل (ص 299 الجزء الثاني): "رشح لي أحد الإخوة من المحلة ابنة قريب له من إحدى قرى مركز المحلة، كان معنا في السجن الحربي، وكان من خيرة من عرفت دينًا وخلقًا، ولكنه من أسرة أعيان ولا غرو أن جاءني الرد بالاعتذار، وأعتقد أن هذا من حقه". ويبرر القرضاوي واضعًا يده على مفتاح مهم في تكوين "الإخوان"، وكاشفًا عن نظرية ربما مفسرة لمسلكه فيما بعد، فيرى أن "الرجل (والد العروس) وإن كان من صفوة الإخوان من عائلة كبيرة لها تقاليدها، ومثلي لا يصلح لها، وخصوصًا مع وضعي المادي والوظيفي (...) وصحيح أن تراثنا يقول: (العالم كفء لبنت السلطان) لكن لا بد للعالم أن يكون في وضع مادي يسند ظهره". وبحثًا عما يسند الظهر، رفض القرضاوي الإعارة إلى ليبيا بسبب ضعف المقابل، الذي كانت تدفعه الحكومة المصرية حينها لمُعاريها، وبدأت رحلة عمله في قطر عام 1961 عندما أعير إلى معهدها الديني الثانوي، ثم تدرج مواقع أكاديمية، فأسس وترأس قسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية كنواة لجامعة قطر 1973، ثم تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وظل عميدًا لها منذ 1973 حتى عام 1990. ورغم أن الرجل غادر مصر معارًا من حكومتها لنظيرتها في قطر، فإن عداءه لسلطة الحكم في البلاد لم تغادره، ومع تنامي زعامة وشعبية جمال عبد الناصر من المحيط إلى الخليج، فإن القرضاوي وجد (في أوساط الستينات) كما يروي في الجزء الثاني من مذكراته (ص425) أن "أحد الطلاب -وكان مفتونًا بعبد الناصر- أراد أن يعلق له صورة في الفصل وقد فعل (...) فأوعزنا إلى أحدهم أن يعلق صورة للملك فيصل، وتنازع الطالبان". وإذا كانت بذور التكوين، التي أشار إلى بعض ملامحها بنفسه في مذكراته، عبّرت عن جانب من جوانب شخصيته، فإن محاولة فهم صورته العامة يصعب أن تكتمل إلا بمعرفة كيفية ازدهار ونمو حضور القرضاوي عبر إلحاح غير مسبوق في وسائل الإعلام القطرية، وفي وقت مبكر وتحديدًا عام 1970 ومع انطلاق إذاعة وتليفزيون قطر، بدأ الرجل في بث أول برامجه وحمل اسم "نور وهداية"، وكان يُذاع مرتين أسبوعيًّا، وعلى التليفزيون الرسمي للدوحة قدم برنامجًا آخر أسبوعيًّا، فضلاً عن برنامج ثالث رمضاني، ما خلق شعبية محلية واسعة له. غير أن الحقيقة تقتضي القول إن الإلحاح التليفزيوني والشعبي الذي صاحب القرضاوي لم يبدأ في الدوحة فقط بل في مصر كذلك، وفي إطار تفاهمات الرئيس الراحل أنور السادات مع الإخوان لضرب شعبية التيارين "القومي الناصري" و"اليساري"، فإن القرضاوي ظهر للمرة الأولى في التليفزيون المصري عام 1974 مع الإعلامي أحمد فراج في برنامج "نور على نور"، ثم إنه في إطار التفاهمات نفسها استدعته قطر عام 1977 ليلقي خطبة عيد الأضحى في ميدان عابدين، وليتبادل هو والشيخ محمد الغزالي إلقاء الخطب طوال سنوات، وعن طبيعة تلك المرحلة يقول (ص 438 -439 الجزء الثالث): "وأذكر أن أول خطبة لي كانت في عيد الأضحى وكان الرئيس السادات في ذلك الوقت في زيارته الأولى لإسرائيل، واتفقت مع الإخوة (ألا) نتعرض لموضوع السياسية وأن نتكلم في القضايا الأساسية للأمة".. "وبعد سنة كان السادات في منتجع كامب ديفيد.. ومضينا على سياستنا: ألا نهاجم ذلك، لأن أي هجوم سيثير الجماهير، ويشعل النار، فلا نملك إطفاءها"! [caption id="" align="aligncenter" width="1000"] القرضاوي في لقاء سابق على الجزيرة[/caption] على أي حال، فقد مضت السنون بالرجل في حقبة الثمانينات الملتبسة، والتي كان جزء كبير من نشاطه فيها يعتمد على نهج جديد بدأت الدوحة اعتماده عبر توجيه الزيارات إلى منطقة الشرق الأقصى وبناء علاقات مع رموز تيارات الإسلام السياسي في ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وغيرها. ومع أول بث لفضائية الجزيرة عام 1996 كان الرجل ركنا ركينًا في بثها، عبر برنامجه "الشريعة والحياة"، والذي ظل لسنوات هو ضيفه الأوحد، واعتمادًا على ما طورته إدارة القناة القطرية طوال نحو 15 سنة منذ انطلاقها حتى أحداث "الربيع العربي"، فإنها استطاعت أن تكون القناة الإخبارية العربية الأبرز بالمنطقة عبر خلطة أجادتها وانطلت على الكثيرين، الذين منحوها ألقها، وبطبيعة الحال كان للقرضاوي نصيب من ذلك. ولعل أول ترجمة عملية للإلحاح الإعلامي المصنوع عبر عقود، والولاء التنظيمي الذي لم ينقطع، تمثل في ظهور القرضاوي في ميدان التحرير بقلب القاهرة في 18 فبراير/ شباط 2011، في مشهد وصفه الكاتب الصحفي الرحل محمد حسنين هيكل، بأنه "شبيه بمشهد عودة الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران"، مبديًا في حينه رفضه لذلك، ولعل فصول ما جرى في الماضي القريب من "الإخوان" من ممارسات خارج وداخل السلطة لم يرفضها أو يؤثمها القرضاوي لا تزال ماثلة في أذهان المصريين. لكن السؤال المهم بشأن سيرة القرضاوي يظل هو: هل كانت التسعون عامًا وأكثر، التي عاشها الرجل، خالية من أي اجتهاد ديني محمود أو تفسير أو فتوى متنوّرة؟ في واقع الأمر أن ما نشره وقاله وعرضه على الناس في محافل شتى كان زاخرًا بالكثير من المحطات البارزة، التي لم يتوقف هو نفسه فيها أو أمامها عند كل منحنى تتعارض فيه مصلحته ومصلحة "الإخوان" مع ما قال.