بالبلدوز وسلاح المنفعة العامة.. لا أحد يستجيب لاستغاثات إزالات مقابر القاهرة التاريخية

ذات مصر

لا يكاد يمر يوم الآن دون أن نسمع عن إزالة جديدة بمنطقة تاريخية قديمة، ارتبط بها المصريون، ففي هذه الأيام تتواصل عمليات هدم مقابر الإمام الشافعي، ضمن حكومة ممتدة منذ 3 أعوام لإزالة مقابر منطقة القاهرة التاريخية.

 وأمام جرافات تزيل ما يعترضها من مدافن أو شواهد استقرت في تلك المنطقة منذ الفتح الإسلامي لمصر خلال القرن السابع الميلادي، اجتاحت حالة من الاستياء في الشارع المصري من جرأة التعدي على حرمة الموتى أولاً، وتجاهل حرمات التاريخ والجغرافيا ثانياً، حيث ترقد في المقابر المهدّدة بالإزالة، شخصيات تاريخية وفنية وسياسية، وتاريخ هائل معرض للإزالة.

البداية من محور "الفردوس"

لم تأخذ جرافات منطقة محافظة القاهرة في اعتبارها، قيم تلك المباني التاريخية، وبدأت في تنفيذ مخطط مشروع محور "الفردوس" في 22 يوليو 2020 بهدف تيسير الحركة المرورية المتبادلة بين وسط القاهرة وكل من الطريق الدائري ومدن شرق العاصمة.

 وبالتزامن مع هذا المخطط اتضح أن مسار المحور يخترق مقابر السيدة نفيسة والسيدة عائشة،  والإمام الشافعي، ويهدد عدداً كبيراً منها بالإزالة، ليخرج الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، للرد على مزاعم هدم المقابر من خلال مداخلة هاتفيه في أحد البرامج،  مؤكداً أن محور الفردوس بعيد عن المنطقة الأثرية، وأن المقابر تبدو وكأنها قديمة، ولكن هذا لا يعني أثريتها لأن قانون حماية الآثار ينص على أنه يجب أن يمر على المبنى 100 عام منذ صدور القانون حتى يكون أثرياً، وما تم هدمه لا يتخطى عمره الـ30 عاماً فقط، ورغم تأكيده أن مسار المحور بعيد عن المقابر الأثرية إلا أنه عاد ليشير إلى أنه صدر قرار بتشكيل لجنة فنية لمعاينة الشواهد والجداريات والنقوش والكتابات الموجودة بهذه المباني أي أنه لم يكن يمتلك تأكيداً على ذلك.

وبدأت الأنباء تتداول حول إمكانية إزالة المقابر التاريخية الأثرية، في تلك المنطقة والتى تضم مقابر تاريخية وآثارا إسلامية تعود لنحو 5 قرون وهذا ما نفته وزارة السياحة آنذاك،  وقالت إنها هدمت مبان غير مسجلة في عداد الآثار الإسلامية والقبطية، وأنها مقابر حديثة وخاصة بأفراد وبررت أن ذلك سيعود بالنفع علي المواطن المصري .

مقابر الإمام الشافعي

في يناير عام 2021 تزايد الحديث عن إزالة المقابر الخاصة بالمشاهير، لكن هذه المرة في منطقة مقابر الإمام الشافعي، بعد أن وصلت خطابات لملاكها وورثتهم تنذرهم بسرعة نقل رفات ذويهم إلى مقابر مدينة 15 مايو الجديدة لبدء إزالة بعضها بهدف توسعة طريق صلاح سالم.

وقال متخصصون في الآثار والتاريخ وعلم الاجتماع أن ما يحدث في مقابر الإمام الشافعي بالقاهرة "عبثية"، إذ لا تزال المقابر القديمة تلقي برسائلها وتدفع باكتشافات مذهلة للمبادرين لحمايتها بانتشال جداريات ونقوش قديمة ضمتها جدرانها وبعضها يعود إلى أكثر من 1300 سنة، ولوحات فنية صنعت بدقة قبل مئات السنين.

ومن جانبها قالت، مفتشة الآثار، هايدي موسى، أن مقابر الإمام الشافعي هي الأغنى من حيث التراث الأثري، ولكن للأسف لا يوجد بها سوى مقبرتين فقط مسجلتين في التنسيق الحضاري كطراز معماري مميز وهما فقط المتمتعتان بالحماية ضد الإزالة.

وفي السياق ذاته، أكد ورثة شاعر النيل حافظ إبراهيم أنه لم يتم إخطارهم بشكل رسمي بإزالة مقبرته، قائلين إن حارس الجبّانة هو مَن أخبرهم. كما ينفي الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، المعني بالحفاظ على المباني التراثية، إخطاره بأي مخططات بخصوص عمليات هدم تلك المقابر.

صور من مقابر الإمام الشافعي

مقابر مهددة بالإزالة

وتم إخطار حراس عدد من المقابر الواردة بالقرار المذكور بالتخطيط لإزالتها ومنها حوش محمد راتب باشا السردار، حوش عائلة العظم السورية، الفريق إسماعيل سليم باشا، رشوان باشا عبد الله، البرنس يوسف كمال، نشأت دل قادن زوجة الخديوي إسماعيل، علي باشا فهمي، محمود سامي البارودي، أحمد شفيق باشا، إبراهيم الهلباوي، محمد محمود باشا وهي المدافن المسجلة بموجب القرار المذكور، بل وتم وضع علامات تفيد بذلك على الجدران الخارجية لبعض هذه المدافن.

ووجهت عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر منى ذو الفقار وابنة الفنان المصري الراحل صلاح ذو الفقار استغاثة، مطالبة بالبحث عن حلول لتوسعة الطريق بدلاً من هدم مدفن قائم منذ 240 عاماً، ويعتبر تراثاً أثرياً.

دعوي المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

وتقدم المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بدعوى مستعجلة أمام محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، ضد رئيس مجلس الوزراء، ووزيري الآثار والإسكان، ورئيس مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار، ومحافظ القاهرة، ورئيس هيئة التنمية الحضرية، ورئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري بصفاتهم، للمطالبة بوقف تنفيذ القرار السلبي بالامتناع عن توفير الحماية اللازمة للمقابر والمباني الأثرية وذات التراث المعماري المتميز بمنطقة جبانات القاهرة التاريخية وتحديد حرم لهذه الآثار، بما ترتب على ذلك من آثار أخصها وقف أعمال الإزالة والهدم لجميع هذه المقابر والمباني.

وقال المركز، في الدعوى التي أقامها وكيلاه عن د. جليلة القاضي، ود. مونيكا حنا، والمهندس طارق المري، والسيدة سالي سليمان، ود. داليا حسين، وهم مجموعة من أساتذة واستشاري الحفاظ على التراث العمراني، والمهتمين بمجالي الآثار والتراث المصريين، إن الدعوى أقيمت على خلفية عمليات الإزالة التي تجري على قدم وساق بمنطقة جبانات القاهرة التاريخية في حي الخليفة بمنطقة جنوب القاهرة- والمعروفة بمقابر الإمام الشافعي ومقابر السيدة نفيسة، التي يعود تاريخها إلى القرن السابع الميلادي، والتي تقع حاليا شمال وجنوب وشرق طريق صلاح سالم، وفي أواخر القرن التاسع عشر تم تخصيصها لدفن لكبار موظفي وأعيان الدولة، وبنيت على الطرز المبني عليه المقابر التي تسبقها، تلك المنطقة المخصصة منذ مئات السنين ليواري فيها الموتى الثرى، لا سيما الراحلين من رجالات ورموز الفكر والثقافة والسياسة والدين والفن وأفراد العائلة المالكة، وتضم بين جنبات مقابرها رفات مجموعة كبيرة من عظماء النضال الوطني والفكر والتاريخ المصريين.

استغاثات ومناشدات بشأن الاعتداء على المنطقة التاريخية

وانتشرت الاستغاثات والمناشدات بشأن الاعتداء على المنطقة وإزالة عدد من مبانيها الأثرية عشوائيا، في الوقت الذي يتم تنفيذ أعمال إنشائية بها لا تناسب بأي من الأحوال طبيعتها ومبانيها، وتعرضها لأخطار داهمه، ليس أقلها محو جزء من تاريخ مصر ومبانيها التراثية وإهانة رفات عدد لا يستهان به من عظمائها في شتى المجالات، حيث أزيلت مقابر عدة منها مقبرة عبدالحميد باشا صادق “رئيس البرلمان المصري من 1902 حتى 1909 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني” ومقبرة عبدالله أفندي زهدي "من أشهر الخطاطين في تاريخ مصر وهو كاتب المخطوطات على المسجد النبوي وسبيل أم عباس ومسجد الرفاعي، وغيرها"، ومدفن حسن أفندي الليثي “رسام كسوة الكعبة المعظمة”، ومدفن عشق بريان معتوقة الخديوي إسماعيل، فضلا عما يتم تداوله من أنباء بشأن إزالة قبر الإمام ورش، صاحب ثاني أكثر قراءات القرآن شيوعا في العالم الإسلامي حسب ما ذكره بيان المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

السيسي يشكل لجنة لبحث الأوضاع

ومع تصاعد الحملات المطالبة بالوقف الفوري لأعمال الهدم الجارية بمنطقة القرافتين الصغرى والكبرى غرب القاهرة، ونداءات لمراجعة ضرورة إنشاء محور "الفردوس" الذي تعتزم الدولة بناءه في موضع المقابر المُزالة، خرج قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي في 12 بتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، تضم جميع الجهات المعنية والأثريين المختصين والمكاتب الاستشارية الهندسية، لتقييم الموقف بشأن نقل المقابر بمنطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي، وتحديد كيفية التعامل مع حالات الضرورة التي أفضت إلى مخطط التطوير، على أن تقوم اللجنة بدراسة البدائل المتاحة والتوصل لرؤية متكاملة وتوصيات يتم الإعلان عنها للرأي العام قبل يوم الأول من يوليو/ تموز 2023، في محاولة لتهدئة الرأي العام.

وانقسم المهتمون حول القرار، الذي يعد إشارة إلى أن المنطقة سوف تزال بالكامل، وأن رفات الشخصيات التاريخية والمبدعين سيتم نقلها لما يسمي "مقبرة الخالدين"، فبما رأى مهتمون بالشأن السياسي أن المسألة ستحل بهذا القرار، يجد الدارسون والمهتمون بالآثار والتاريخ والتراث المعماري ان هذا القرار لن يعالج الخسارة المستمرة، وأن المنطقة يجب أن تترك كما هي لأنها بهذا الوضع تعد مقبرة للخالدين.

تهميش اللجنة المشكلة من قبل الرئيس

وصرح مصدر داخل اللجنة التي تشكلت لبحث وضع المقابربأن “اللجنة تم تهميشها خلال الفترة الأخيرة، بسبب أعمال الهدم التي جرت مؤخرا.، وكذلك بسبب التعامل معها باعتبار أن قراراتها غير ملزمة، كونها لجنة استشارية، لا تملك أية صلاحيات لوقف عمليات الإزالة. أكد علي أن قرارات الإزالة هذه تتعارض مع جميع الحلول التي تقدم بها أعضاء اللجنة خلال الفترة الأخيرة. حيث طالبنا بضرورة وقف الهدم، نتيجة عدم جدوى المشروعات المزمع تنفيذها وقدمنا بالفعل خطط بديلة”.

وأضاف: اتخذنا قرارًا بضرورة وقف الهدم، لكن ما جرى على أرض الواقع كان العكس تمامًا. فحاليًا هناك هدم على نطاق واسع، كذلك فاللجنة خلال الفترة الماضية لم ترد أي مواجهة أو صدام مع أحد. حيث ابتعدت عن التصريح لوسائل الإعلام، واكتفت بالبيانات الصحفية التي صدرت بصورة رسمية. وذلك حتى لا يتم اتخاذ قرارات عكسية يمكن أن تعوق ما قمنا به من جهود. فقد قدمنا مقترحات بديلة بالفعل، لكن حتى الآن ما زلنا نأمل في تصحيح المسألة بشكل كامل. وذلك من خلال تنفيذ المقترح الذي تقدمت به اللجنة، وهو مقترح يهدف لمنع أي هدم للمقابر. خصوصًا أن اللجنة توصلت لنتائج ودراسات جدوى كانت نتيجتها أن المحاور المرورية المزمع تنفيذها في منطقة الجبانات، لن توفر سوى دقيقتين ونصف الدقيقة كحد أقصى لحركة مرور السيارات داخل المنطقة.

وتابع المصدر: نحن في اللجنة لا نريد إلقاء اللوم على أحد بشأن ما حدث في الماضي من أعمال هدم. لكننا حاولنا الوصول لنتائج وتقديم مقترحات، لحماية المقابر، وقمنا بعمل الدراسات اللازمة. وتوصلنا إلى أن هذه المحاور المزمع تنفيذها غير مجدية من الأساس. وطالبنا بالاكتفاء بما تم تنفيذه من أعمال خلال الفترة الماضية.

وأضاف : كل ما نريده هو المحافظة على المقابر التراثية، وصيانتها، وتحويلها لمزار سياحي عالمي، لكن للأسف الشديد نصطدم، لأن كل فرد يحاول أن يدافع عن وجهة نظره. فاللجنة للأسف تم التعامل معها باعتبارها لجنة استشارية لا تملك أي صلاحيات، وهذا خطأ كبير لأن جميعنا من المتخصصين، وبذلنا مجهود كبير للمحافظة على المقابر، وتقديم حلول حقيقية. لذلك ما نريده هو ضرورة الأخذ بالحلول التي طرحناها، للوصول للحل الأمثل في التعامل مع الأزمة التي تعيشها المقابر.

وأكد أن اللجنة تقدمت في وقت سابق بطلب لوقف كافة الأعمال الجارية داخل المنطقة من هدم، لكنها لم تتلقى ردًا بخصوص هذا الاقتراح.

وحول إطلاع اللجنة عما يحدث داخل المقابر أوضح أن اللجنة لا تعلم شيئًا، ولا أحد يبلغها بأي خطوة تحدث داخل القرافة، ولم يطلعها أحد على مجريات الأمور، والمستجدات «كل اللي اتقال ليهم إن المشروع والتصور اللي تقدموا به تم قبوله، لكن على أرض الواقع الأمور كانت مختلفة تمامًا لأن الهدم مستمر».

استقالة قريبة

وتوقع المصدر أن الهدم سيستمر خلال الفترة المقبلة، إذ أوضح أن المشروع الذي تقدمت به اللجنة يمنع الهدم بشكل كامل، لكن ما جرى على أرض الواقع كان العكس إذ جرى هدم المقابر، وكان أخرهم هدم مدفن عتقاء الأمير إبراهيم حلمي.

ورأت اللجنة أنه من الضروري الاكتفاء بما تم داخل المنطقة خلال السنوات والأشهر الماضية، والاكتفاء فقط بالجزء الذي جرى هدمه واستخدامه كطريق، مع عدم المساس بأي جزء داخل المنطقة، والمحافظة عليها بشكل كامل كما هي، فوفقًا لدراسة الجدوى أيضًا فالمنطقة باتت قادرة على استيعاب حركة السيارات بشكل كامل؛ وبالتالي لا يوجد أي ضرورة لاستكمال المشروع الذي كان من المزمع تنفيذه.

وكانت من ضمن الاقتراحات والبدائل تخفيف الضغط على شارع صلاح سالم، وتزويد الضغط على محور الحضارات، وطريق النصر، مع توفير مسارات خدمة داخل الجبانة الجنوبية، ناحية قبة رقية دودو، باعتباره مدخل ديني للقادمين إلى هذه المنطقة حتى الإمام الشافعي، والإمام الليث، وغيرها من مقابر هامة داخل المنطقة، وبعد كل هذا الغضب الشعبي والرفض القاطع من علماء الأثار واللجنة المكلفة من الرئيس السيسي، هل تستمر إجراءات الهدم أم تتوقف وتمتثل الجهات المعنيه لتوصيات اللجنة المشكلة بقرار من رئيس الجهورية.