«لا في الراس ولا الكُراس».. العلم في الكتاب «الخارجي»

ذات مصر

مراكمة الأزمات وعدم وجود إرادة لحلها؛ اعتمادا على قدرة المصريين على التأقلم مع أصعب الظروف- ربما صار نهجا واضحا للإدارة الحالية، لا يهتم المسئولون في مصر الآن بالبحث عن حلول، أو محاولة معرفة الأسباب الحقيقية لأي مشكلة.. الاهتمام الأول ينصب على تبرئة الحكومة وسياساتها وإجراءاتها وقوانينها من التسبب في الأزمات؛ وعزو ذلك إلى عوامل خارجية، أو زيادة سكانية غير متوقعة، أو أي شيء آخر؛ إلا أن تشارك الحكومة بأي قدر من المسئولية في المشكلة.. وكأن قرارا صدر بذلك  لجميع السادة المسئولين، الذين لا تقع عليهم أي مسئولية في الحقيقة وفق ما هو متبع الآن.

التضخم وأسعار الكتب

أزمة جديدة تجلت في ارتفاع أسعار الكتب الدراسية الخارجية بما يتجاوز 40%، ما أثقل كاهل الأسرة المصرية بأعباء إضافية، جعلت من انتظار قدوم العام الدراسي الجديد- كابوسا مرعبا لمعظم الأسر المصرية التي أنهك التضخم الرهيب ميزانيتها، وهو تضخم لم تتسبب فيه حكومتنا الرشيدة؛ بل يعود إلى أسباب أخرى تتعلق بانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار بمقدار النصف على الأقل منذ مارس الماضي، وما ترتب على ذلك من شح الدولار وارتفاع تكلفة الاستيراد للعديد من السلع الضرورية ومستلزمات الإنتاج، ناهيك عن تكدس البضائع في الموانئ المصرية؛ لعدم قدرة المستوردين على إخراجها بسبب الفجوة الدولارية التي لم تصنعها سياسات تدميرية للاقتصاد.

وبالعودة إلى بدايات ظهور الكتب الدراسية الخارجية، والذي يُرجّح أنه بدأ على استحياء مطلع ستينات القرن الماضي، وكان تداول تلك النوعية من الكتب على نطاق ضيق؛ لأنها كانت لا تحمل إضافة كبيرة؛ في ظل اهتمام الدولة آنذاك بالتعليم الحكومي وكل ما يتعلق به، مع توجهٍ تبنّى سياسة التضييق على المدارس الخاصة، وتأميم بعض المدارس الأجنبية، وإلزام بقية المدارس التي لم تؤمم، بأن تكون إدارتها من المصريين.

لأسباب عديدة لم يلتفت غالبية الطلاب في الحقبة الناصرية للكتاب الخارجي، فالكتاب المدرسي كان كافيا جدا للغالبية العُظمى من الطلاب، فلم يكن الكتاب الخارجي يقدّم شيئا إضافيا أو جديدا، بالإضافة إلى أن سُمْعَته كانت تشبه "الدرس الخصوصي" والذي كان قاصرا على نوعية من الطلاب، لا تتمتع بدرجة مناسبة من التحصيل الدراسي الذي يوفره الانتظام في الدراسة في مدارس الوزارة، التي كانت تقدم خدمة تعليمية متميزة؛ بدأت في التراجع رويدا رويدا؛ حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه الآن.

الرأسمالية والتعليم

ثم شهدت السبعينات إعلان الدولة المصرية عقب "آخر الحروب" عن توجهها الرأسمالي، وانتهاجها لسياسات الانفتاح الاقتصادي -الاستهلاكي فقط للأسف- وكانت الدعوة للاستثمار في التعليم بالتوسع في إنشاء المدارس الخاصة، وظهور التجريبيات ومدارس اللغات بمصروفات دراسية مرتفعة عن التعليم الحكومي الذي بدأ في التداعي تحت وطأة التكدس الطلابي، وضعف الإمكانات. ولا شك أن كل ذلك قد هيَّأ البيئة المثالية لتبوؤ الكتاب الخارجي لمكانة شديدة الأهمية داخل العملية التعليمية بمواصفاتها الجديدة، مع ما طاله من التحديث والتطوير في الشكل والمُحتوى.

خلال فترة حكم الرئيس مبارك التي امتدت لثلاثة عقود؛ أتيحت الفرص بشكل أوسع للاستثمار في شتى أنواع التعليم، مع تسارع وتيرة انهيار منظومة التعليم الحكومي، بكل أعمدتها الأساسية (المباني- المناهج- المعلم- الطالب) وظهرت المدارس الدولية - البداية ديسمبر 2002- لأبناء الطبقة الأكثر ثراء.. برغم أن الإنفاق المعلن على الكتاب المدرسي بلغ 1.2 مليار جنيه 2006/2005، لتزدهر سوق الكتاب الخارجي على نحو غير مسبوق؛ ولتتجاوز الأموال المدارة فيها حاجز المليار جنيه وفق أعلى التقديرات للعام الدراسي نفسه. 

تراكم الأزمات والمشكلات التعليمية، وعدم وجود الإرادة السياسية الجادة الحريصة على إيجاد الحلول- أدى في النهاية إلى تفريغ المدارس من طلابها ومعلميها لصالح مراكز الدروس الخصوصية؛ واكب ذلك ظهور وليد مشوّه لهذه العملية، وهو المذكرات التي يفرضها مدرسو الدروس الخصوصية على الطلاب المترددين على تلك المراكز، مقابل أثمان ليست بالقليلة.. لكن ذلك لم ينل من حصة الكتب الخارجي في الكعكة التعليمية؛ إذ اعتمد مدبّجو تلك المذكرات على الكتب الخارجية مصدرا للمعلومات بشكل صريح؛ حتى أن غالبية تلك المذكرات ليست سوى نقل مباشر أو صور لصفحات الكتب الخارجية.. ساعد على بقاء الكتاب الخارجي متصدرا المشهد التعليمي دون منافسة تُذكر من كتاب الوزارة أو مذكرات المدرسين أيضا - أن سعره ظلّ في متناول غالبية الأسر المصرية.. إلى أن وقعت الأزمة الأخيرة التي واكبت ارتفاع أسعار الورق والأحبار وتكاليف الطباعة بسبب شُح الدولار، واضطرار المستوردين لتدبيره من السوق الموازية بأسعار اقتربت من حاجز الـ 40 جنيها للدولار الواحد، وربما تجاوزته.

قبل بداية أزمة النقد الأجنبي الأخيرة في مارس الماضي، كان طن الورق يباع بنحو 17 ألف جنيه، ارتفع إلى نحو 50 ألف جنيه للطن مؤخرا، ويبلغ حجم استهلاك مصر من الورق نحو 500 ألف طن سنويا، تنتج منها قرابة 210 آلاف طن محليا.. وتستورد مصر نحوا من 290 ألف طن من الورق سنويا من فنلندا والبرازيل ودول أخرى.

الأسر.. وأسعار الكتب

وحسب الأسعار الجديدة للكتاب الخارجي الذي صار من العسير الاستغناء عنه، فإن متوسط إنفاق الأسرة المصرية على طالب المرحلة الابتدائية خلال العام الدراسي الجديد على هذا البند فقط سيصل إلى 1250 جنيها، وبالنسبة لطالب المرحلة الإعدادية حوالي 1700 جنيها، أما طالب المرحلة الثانوية فسيكون متوسط الإنفاق حوالي 2950 جنيها.. ليتجاوز إنفاق الأسرة المصرية التي لديها ثلاثة أطفال فقط، على الكتب الخارجية للعام الدراسي الجديد حاجز الـ 6 آلاف جنيه.

وفي محاولة جادة للتغلب على تداعيات هذه الأزمة الطاحنة؛ ظهرت سوق الكتب الخارجية المستعملة التي تباع بأسعار تتراوح بين 30، 55 جنيه حسب المرحلة الدراسية وحالة الكتاب؛ وقد شهدت هذه السوق إقبالا كبيرا من الطبقات محدودة الدخل.. أيضا ظهرت نسخ العام الماضي (المرتجع) وهي كتب لم تستعمل وتراوحت أسعارها بين 100، 150 جنيها.. لتسهم هي الأخرى بشكل أو بآخر في تخفيف حدة الأزمة على ميزانية الأسرة المصرية التي أرهقها التضخم الرهيب.

تذكرنا تداعيات الأزمات التعليمية المتلاحقة بمقولة لرئيس جامعة القاهرة الأسبق أشار فيها إلى أن المصريين يعيشون وهما كبيرا اسمه التعليم.. والحقيقة أن الأوهام من الممكن أن تكون بديلا جيدا إذا كان قبح الواقع أفدح من تقبله أو التعامل معه على نحو جدي.