ماهر الشيال يكتب: ركوب "الترند".. للوصول إلى اللاشيء!

ذات مصر


لن يواكب هذا المقال - مهما حاولت- زمن كتابته ولا قراءته، لأنه خارج الزمن قبل حتّى أن أشرع فيه؛ وذلك لأنه وإن كان يتناول موضوع "الترند" إلا أنه عاجز بالكلية عن ركوبه؛ وذلك لافتقاره الشديد إلى الشروط الواجبة للترند من سرعة وسطحية وتفاهة وانعزال تام في راهن اللحظة.. فالترند هو لحظة جذب الانتباه التي تتسم بقوة قاهرة تجبر الهائمين على وجوههم في مواقع التواصل على تغيير الاتجاه، للانخراط في اهتمام أبله بحدثٍ ما، ربما كان مفتعلا أو زائفا بالكلية.
"يعرّف قاموس كامبرج الـ (Trend) بأنه تطوّرٌ عام أو تغيّر في ظرفٍ ما أو في الطريقة التي يتصرّف فيها الناس، وعند ترجمتها إلى العربية يعبّر عن ذات المصطلح بكلمات من قبيل "نزعة" أو "ميل جديد"، وعادة ما يُقصد باستخدامها اليوم التدليل على موضة أو اتجاه سائد جديد ينتشر غالبا على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يتسلل إلى الأحاديث اليومية".
الراهنية التي تصبغ الترند بصبغتها؛ تصمه بعدم القدرة على البقاء لفترة طويلة مهما كانت قوته، فهو ابن لحظته.. عدوّه الزمن في صيرورته وتدفقه.. لذلك فإن ذاكرة المتابعين لا تحمله طويلا.. بل تتخفف منه - كنفاية خطرة- سريعا؛ بحيث يصعب استدعائه، وربما يستحيل.. لأنه بطبيعته يوغل في الزمن المتصرّم، حتى يبدو كأنه ينتمي إلى ماضٍ سحيق.
الاستحواذ على انتباه الناس (المستهلكين) وتوجيههم نحو تفضيلات بعينها - أمر ليس بالجديد، وهو وإن كانت له طرقه المعروفة والمباشرة ؛ إلا أنه ذو مقدرة أعتى إذا لجأ صانعوه إلى طرق أخرى تعتمد على برمجة العقول من خلال توفر بيانات دقيقة عن الفئات المستهدفة، وبحسب الفيلسوف الألماني جورج فرانك؛ فإن "الانتباه" بالنسبة لوسائط الإعلام، يعادل أهمية المال للبنوك والمؤسسات المالية.. فانتباهك هو أهم سلعة في "السوق المعرفية" التي تروّج عبر الوسائط؛ ليس للمنتجات فحسب؛ بل للكثير من أنماط السلوك وطرق التناول للأفكار والتفاعل مع الأحداث.. ويدخل الإنسان (المستخدم) في المعادلة بسذاجة؛ ليخرج منها مُنْتَجًا مختلفا فَقَدَ جزءا كبيرا من فرديته، بعد أن تلبسته عقلية القطيع بالكلية.. ليكون أسلس قيادا، وأكثر رغبة في الانقياد والتبعية. 
خلال الأيام القليلة الماضية.. شكر أحدهم ابنته على تمكنها من ركوب الترند، بعد إقدامها على حلاقة شعرها "زيرو" أونلاين في مشهد أثار كثيرا من التساؤلات، حول نجاح الأب في تربية ابنته التي لا تكل من محاولات ركوب الترند؛ بتصرفات تبتعد عن المألوف، وتخالف ما هو متعارف عليه في مجتمعاتنا العربية.
كل من أدلى بدلوه في الحديث عن السيدة ووالدها الذي يبدو أنه تعمّد خطف الترند من ابنته بتصريحه المتعلق بمسلكها- ركب الترند معهما؛ لكنه ركوب مدفوع مقدما، ذو ثمن باهظ، حاضرا وفادح بخصمه من رصيد مستقبل صار غائما.. بل إن الأمر ربما يكون أسوأ من ذلك؛ لأننا بدخولنا راضيين (ذاهلين) إلى الترند؛ نكون قد صرنا السلعة الغالية المسلوبة بلا ثمن.
ذلك الانتباه المستمر المرهق؛ بل القاتل هو وقود تلك الآلة الجهنمية التي تبقيك منعزلا ومنجذبا للمتابعة دون ملل.. حتّى لا يفوتك شيء (فوبيا الفوات) وهو مصطلح ظهر منذ نحو عقدين؛ في مجال التسويق؛ لكنه بلغ الذروة بالانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي.
الإغراق في الراهنية بهدف قبض اللحظة الحالية؛ يعكس التوق المستعر نحو البقاء (أبديا) والهروب من النهاية التي تعني رمزيا الاختفاء أو الغياب المُطلق من الفضاء الأزرق (الموت الرمزي).
هذه الملاحقة الدقيقة تحوّلنا من مُرَاقِبين إلى مُرَاقَبين طوال الوقت، هذه المراقبة الصارمة تهدف إلى الوصول إلى الدرجة الكاملة في التنبؤ بأفعالنا وتصرفاتنا المستقبلية.. حسب الكاتبة الأمريكية شوشانا زوبوف.
هذا الكشف التام لأمور تتعلق بمستقبلنا على هذا النحو الخبيث؛ تجعلنا وكأننا نسوق المستقبل مكبلا لينعم ببلادة كاملة في أسر الحاضر الذي يتمدد ببلاهة في حضور استثنائي للتفاهة.. وفق ما يرى الفيلسوف الكندي آلان دونو الذي يقول في مقدمة كتابه "نظام التفاهة": "نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجيا إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة".
ويضيف آلان دونو أن تلك الثقافة التي صارت سائدة "...قد أدّت إلى صعود قواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين في كل الميادين، ومن ضمنها ميدان التواصل الاجتماعي على المواقع الافتراضية". ما أدّى إلى "تدهور متطلبات الجودة العالية، وتغييب الأداء الرفيع، وتهميش المنظومات القيمية، وبروز الأذواق المنحطة، وإبعاد الأَكْفَاء، وخلو الساحة من التحديات، لتتسيّد -إثر ذلك- شريحة كاملة من التافهين والجاهلين من ذوي البساطة الفكرية".
لا شك أنه بأداة الترند الفعالة جدا.. ستأسرنا السرعة الخاطفة والانبهار اللحظي.. لكنها سرعة وثيقة الصلة بالنسيان ومحو الذاكرة، وانبهار لا يستعجل سوى الخفوت والانطفاء.. فالعلاقة وثيقة بين التراكم المعرفي والزمن.. بين الذاكرة والبطء، بين التأمل والوعي.. لكن ركوب الترند لا يسمح لنا بذلك ولا بجزء منه؛ فالمطلوب أن نظل مندفعين طوال الوقت للحاق به، في صراع محموم للظهور الافتراضي الذي صار بديلا للوجود المتحقق للذات الذي أصبح جزءا من ثقافة بائدة.
لكنه التسويق الجيد لمخدر العصر الذي يمنح إحساسا كاذبا بالإشباع العاطفي الذي يعزز الميل للانسحاب الاجتماعي، والتخفف من المسئولية العامة.. وهو ما هدفت إليه النظم الرأسمالية من الاستخدام المُفرط للتكنولوجيا الحديثة في المجال الإعلامي، وفق رؤية الفيلسوف الفرنسي برنار ستيغلر.
إن ذلك الاختطاف الذي نشير إليه لحساب الانغماس التام في اللحظة (اللقطة) مُهّد له جيدا منذ بداية ثورة المعلومات، التي صاحبت ذلك التدفق المعلوماتي الرهيب الذي أضعف قدرة المجتمعات المنتجة للمعرفة على استيعابها وملاحقتها ناهيك عن فهمها وتحليلها والاستفادة منها.
لذلك ولكل ما سبق.. فنحن جميعا مدعوون للإعراض التام عن الترند، وعدم ركوبه - مهما كانت المغريات- والعودة المتمهلة لمصادر المعرفة التي يستلزم التعامل معها شيئا من الصبر والتروي؛ ترفقا بالذاكرة، ورحمة بذواتنا المُجهَدة من هذا اللهاث المحتدم الذي لن يورثنا سوى الشقاء.