فراج إسماعيل يكتب: الهروب إلى السير الذاتية

ذات مصر

هل هناك جدوى من الكتابة في مناطق الشرق الأرسط والقارة الأفريقية المتخمة بالإضطرابات والإنقلابات والحقوق الإنسانية الغائبة؟!.. 
المفكر الأكاديمي والكاتب السياسي اللبناني د. رضوان السيد فتح في مقال حديث له بجريدة الشرق الأوسط جرحا غائرا لم ينتبه أحد إلى حجم الوجع المؤلم الذي يسببه لصحفيين وكتبة رأي من أصحاب الضمير القابضين عليه كالقابض على الجمر.
كلنا نعرف أن الكتابة في الشأن العام صارت مغامرة غير محسوبة العواقب، لا فارق بين كاتب كبير مهم أو صحفيين وكتاب صغار.
الإنصراف إلى وسائل التواصل الاجتماعي صار قبلة مريحة للهاربين من دورهم في توعية الرأي العام واقتحام القضايا المهمة.
الكتاب الذين كان يشار لهم في السابق بما تثيره أعمدتهم ومقالاتهم من جدل، أصبح همهم وفخرهم زيادة عدد المتابعين واللايكات والمشاركات لصفحاتهم.
اختصروا أنفسهم في بوست صغير أو “تويتة" عن موضوعات لم يخوضوا فيها من قبل، ولا يعرف أنها في دائرة اهتماماتهم، وجزء كبير منها سخافات وتوافه، لهدف واحد هو زيادة عدد المتابعين.
من يضطره إلحاح الكتابة لأن يكتب، في صحيفة أو موقع الكتروني أو على صفحته الشخصية، يختار الأسهل والأضمن، هاربا من مقامرة قد تنتهي به إلى مصير مجهول.
لا يوجد كاتب إلا ما ندر يرحب بالمغامرة في عالم يتعامل بتحفز شديد وعدوانية مع الرأي الآخر.
كثيرون استداروا إلى ماضيهم. تحولوا إلى الكتابة في سيرهم الذاتية. وبعضهم يؤثر السلامة فيكتب عن بلاد الواق واق وما وراء النهر، ومع ذلك يحسب حساب كل كلمة أو رمز أو علامة استفهام أو تعجب! 
يقول رضوان السيد في مقاله "في جدوى الكتابة وفي فائدتها": إن عدداً من كبارنا في القدْر والعمر انصرفوا إلى استعراض ذكرياتهم الحلوة والمرّة". 
ويواصل: "وكما انصرف بعضنا إلى المذكرات وكتابة الروايات، انهمك البعض الآخر خلال السنوات الأخيرة في تتبع انهيار النظام العالمي الأميركي أو هكذا يزعمون!".
يضيف"ما الهدف من إظهار القَرَف من ذلك كلّه؟.. ليس الاستحثاث للتوقف عن الكتابة، بقدر ما هو التبصر في قضايا الثقافة ومشكلات الكلمة المكتوبة في الأزمنة الجديدة. يقال إنّ فلاناً أو فلانة يتابعه الملايين على وسائل التواصل، ولا يمكن لأيٍ منا الزعْم بهذه الشعبية. ولا تزال صغائر الأمور في نظرنا تحظى بتغطيةٍ هائلةٍ مثل (الرجل الذي قبَّل رياضية!).. يقصد قبلة رئيس اتحاد كرة القدم الأسباني لهدافة منتخبه النسائي الفائز بالمونديال، والتي حظيت بتغطية عربية موسعة.
لسنا من نصنع هذه الانهزامية التي لا نعترف بها ونكتمها في أعماقنا، مؤثرين الكتابة عن العالم البعيد والموضوعات السخيفة أو التسلي بحكاياتنا وبطولاتنا الصحفية في الماضي.
إنها مفروضة علينا من نزعة الخوف من المساءلة وتوجيه القانون ليحاسب عليها، وهي نزعة بشرية لا يتكبر عليها عاقل.
في ظل اتهامات مطاطة تحتمل أي تفسير وأي عقاب، مثل تهمة إساءة استخدام وسائل التواصل، يجد الكاتب والإعلامي أن الأسلم والأضمن أن يلتحق بالزمارين والطبالين!
لا يجب أن نعيب على أنفسنا الخوف من المساءلة، ولا يصح جلد الذات على أننا ربينا داخلنا "بودي جارد" يتابعنا ويحرسنا كالأطفال من إلقاء أنفسنا في التهلكة.
وصل الحال إلى أن الرقابة الذاتية بواسطة العقل الباطن تتعامل بتعسف شديد مع ما نكتبه، وأحيانا تكون الزوجة رقيبا ثالثا أكثر حدة، فهي ليست على استعداد لتفقد بعلها الكاتب أوالصحفي، لتواجه بسبب كلمات كتبها مصاعب الحياة، وربما تعاني الأمرين لتتمكن من زيارته في محبسه إن قدر له الذهاب وراء الشمس.
ليس يسيرا الخروج من هذه الفوبيا، فقصتها هي قصة الأمس واليوم.  زد على ذلك ما ترسخ عند بعض الكتاب والصحفيين بأن الكتابة في الشأن العام جريمة، وعليهم النأي عنها. 
لا توجد وصفة طبية أو نفسية للعلاج توفر حبوب الشجاعة. الأمر بعيد تماما عن الجرأة والجبن. في مناخ لا يحترم حقوق الصحفي ويمنعه من الكتابة الحرة الموضوعية، من الخير والسلامة تحسس حروف القلم وحركة الأصابع على الكيبورد.
ليست هذه دعوة إلى الخوف والهروب إلى السير الذاتية والروايات ومجالات الإبداع الأخرى، إنما تأوهات وجع واعتراف بواقع مؤلم يسري عربيا وشرق أوسطيا وأفريقيا، وينتشر بسرعة السلالة المتطورة من كورونا.
الحروب الأهلية والإضطرابات وأحجار دومينو الإنقلابات العسكرية في غرب ووسط أفريقيا جعلت الهروب إلى السير الذاتية فريضة على أصحاب الأقلام وكتاب الرأي.
ولا حول ولا قوة إلا بالله…