فراج إسماعيل يكتب: السعودية الجديدة.. هل تلغي مصر؟!

فراج اسماعيل
فراج اسماعيل

يوما قال لي صحفي عربي كبير وكانت مصر أكثر صحة وعافية منها الآن: المشكلة أنكم كمصريين تعانون من الشيفونية!

"الشيفونية" أن تعتقد أنك الأفضل والأفهم والأكبر، خلفك 5000 سنة من التاريخ.

أضاف: التاريخ ليس مجرد صفحات صماء خرساء. التاريخ كائن حي مثلنا، إن أهملته سيهملك، وإذا لم تغذه سيموت، وحينها لا تملك سوى الترحم عليه، وزيارة “تربته” بين الحين والآخر.

كانت المناقشة تدور حول دور مصر وقوتها وسط إقليمها. الشرق الأوسط وليس العالم العربي فقط.

مصر - زمن عافيتها - تنافست مع جناحين هما إيران وتركيا، على قيادة الشرق الأوسط، واعتبرت العرب من المحيط إلى الخليج ركابا في المقصورة الخلفية تقود هي قاطرتها.

حتى في عهد السادات، الذي اعتبره الصحفي العربي، بداية أفول الدور المصري وانزوائه على الداخل، ظلت مصر تعافر للتمسك بتاريخها ككائن حي على قيد الحياة. لكن مع مبارك قُضي الأمر، وأنضمت إلى ركاب المقصورة، قاد قاطرتها برهة من الزمن صدام حسين والعراق، الذي كان يتوسط في القمم العربية القادة العرب ويمشي في خيلاء، بينما تقف مصر كغيرها على الأطراف.

بعد إنهاء مرحلة صدام والعراق بالتدخل الأمريكي وحلفائه وبمشاركة مصرية، أشبه بمشاركة المصريين الغلابة في حفر قناة السويس، انتقلت قيادة المقطورة إلى السعودية.

في مرحلة حرب السعودية على الحوثي، ظهرت الإمارات كحليف قوي عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، ثم أخذت تتوسع عربيا في مناطق التأثير الجيوسياسي بحيازة الموانئ والممرات مثل باب المندب وقواعد في البحر الأحمر، ومن ثم أخذت دورا تناطح به السعودية وتتفوق عليها أحيانا، بينما ظلت مصر على الطرف، مشدودة بين هذا وذاك.

الواقع أن بعض نخبتنا خرج من الشوفينية في لحظة صراحة مع النفس، واعترف بأننا صرنا في الخلف عربياً. المفكر السياسي والدبلوماسي السابق مصطفى الفقي أبرز مسؤول معلومات للرئيس الراحل حسني مبارك، قال والأخير في أوج قوته، إن الرئيس القادم لابد أن يحظى بموافقة أمريكا وإسرائيل والسعودية.

اعتراف صريح بقيادة السعودية للعالم العربي، لدرجة التدخل في اختيار رئيس مصر. رأينا التدخل السعودي عيانا بيانا في اختيار رئيس وزراء لبنان ورئيسها، واحتجاز رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري.

ورأينا أن أول زيارة للرئيس السابق محمد مرسي كانت للسعودية، ولم يستقبله العاهل السعودي وقتها في المطار، واعتذر له بأن السبب دواعٍ صحية.

ثم جاء مرور الملك عبدالله السريع بمطار القاهرة عقب عزل مرسي كرسالة دعم ، ومقابلته في الطائرة لوزير الدفاع وقتها المشير عبدالفتاح السياسي.

هذه المرحلة نفسها انتهت بعد تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، والاضطلاع بمسئوليات والده الملك سلمان لظروف السن والمرض.

بن سلمان يعمل على سعودة كل القوى الناعمة والخشنة ليس في عالمه العربي فقط، بل إقليميًا وعالمياً.

أبو ظبي تحاول المقاومة متمسكة بنفوذها الجديد، لكن من الصعوبة أن تقاوم طويلا، فالسعودية تملك المال الوفير ولديها صندوق سيادي من أكبر صناديق الاقتصاديات الكبرى، وتهديد نفوذها الكروي طال البريمرليج الانجليزي، أقوى دوريات العالم، والليجا الإسبانية، والبوندسليجا الألمانية.

غضبت النخب المصرية لأن المذيع المعروف وليد الفراج قلل في برنامجه بقناة mbc أكشن من الدوري المصري ومن الديربي التاريخي بين الأهلي والزمالك، معتبرا ديربي الهلال والنصر أهم منه كثيرا عربيا وعالميا، فلا يتابع الديربي المصري إلا المصريون في مصر، على عكس الهلال والنصر الذي يتابعه العرب والعالم لوفرة نجوم الكرة الذين اشتراهم الصندوق السيادي بأسعار لا قدرة لإنجلترا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا على الدخول لمنافسته.

وليد الفراج، قصد أو لم يقصد، يتحدث سياسة، عبر قناة تمثل مجموعتها رأس حربة الدعاية السعودية في العالم العربي، وتنطلق من عندنا mbc مصر، مدعومة ماليا بإعلانات مصرية!

كانت محطة صوت العرب في الخمسينيات والستينيات رأس حربة مصر عندما جلست في قيادة المقطورة.

لولا قليل من التحفظ عند وليد الفراج، لقال إن ديربي الهلال والنصر صار أهم من كلاسيكو ريال مدريد وبرشلونة. لكنه حتما سيقولها يوماً في الوقت المناسب!

بعض مشاهير المعلقين والمحللين المصريين في المجال الكروي سينتقلون لمجموعة قنوات ssc الرياضية السعودية للتعليق والتحليل على دوري نجوم العالم المسمى دوري روشن. المستشار تركي الشيخ عبر عن سعادته بانتقال المعلق البارز مدحت شلبي إلى تلك القنوات. ما سيفهمه البعض من ذلك أنه اجتذاب قوى ناعمة أخرى لإطفاء مصر أو ما تبقى من رونق الدوري المصري.

وتجري مفاوضات جادة لاقتحام التشامبيونزليج(الدوري الأوروبي). ندري أن هناك غضبا ومقاومة من الدوائر الكروية الأوروبية. الألماني يورجن كلوب مدرب ليفربول انتقد الانفاق المالي السعودي على انتقال نجوم الكرة رغم أن ليفربول فرط في اثنين. وسخر منه الإسباني بيب جوارديولا مدرب مانشستر سيتي الذي تخلى عن الجزائري رياض محرز لأهلي جدة مقابل 30 مليون جنيه استرليني.

قال جوارديولا "الجميع يشتكي من السعودية.. لكن عندما تطرق السعودية الباب، تضع جميع الأندية السجادة الحمراء، ويقولون ماذا تريد يا صديقي؟ سأبيع كل شيء"!

طموحات اللعبة السياسية التي تستند على الأدوات الناعمة لا حدود لها عند السعودية الجديدة. 

نرى مهرجانات الفن التي تنظم ببذخ شديد في معظم المدن السعودية، وينتقل إليها نجوم الطرب والتمثيل من القاهرة.

هذا هو المطرب محمد فؤاد يثير ما تبقى من الشيفونية المصرية، بحديثه عن عظمة السعودية وقيمتها أثناء حفل هناك وسط تصفيق هائل من السعوديين.

روبي غنت ورقصت في حفل جدة على بعد 70 كم من مكة المكرمة، ورفعت فتحة فستانها لتكشف عن جزء كبير من ساقها، ثم سجلت على السوشيال ميديا ابتهاجها وسعادتها. هل تصور أكثر المتفائلين حدوث ذلك في يوم من الأيام، أم أنها صدمة حداثة غير عابئة بالرأي المحافظ في مجتمع له تقاليده وثقافته الدينية وجذوره القبلية العريقة؟!

وأخيرا المطرب محمد الحلو يقلب (عمار يا إسكندرية) في التتر الشهير بصوته في مسلسل "زيزينيا" الذي أذيع قبل عشرين عاما، إلى (عمار يا سعودية).. فأثار غضبا آخر أشرس من الغضب على محمد فؤاد.

الغاضبون يرون أن السعودية الجديدة لا تلغي دور مصر سياسيا وفنيا فقط، بل حتى قيمة الأماكن التاريخية. 

في السعودية الجديدة بستلهمون أيضا الشعار المصري الأثير (5000 سنة تاريخ) ويسقطونه عليها!

قيمة مصر عبر دورها المحوري في عقود ازدهارها ورونقها جعلتها مستهدفة لكل قوة مستجدة تسعى لمكانتها السابقة. ومما تبقى عندنا من الشيفونية يدفعنا إلى صراخ الغريق الذي يبحث عن قشة يتعلق بها وسط أمواج هادرة لا تعترف بالماضي أو التاريخ أو حتى بالأمس القريب.

السعودية الجديدة لا تنتقم من ماضٍ، حرب الدرعية (1811-1818) التي قضى بها محمد علي باشا والي مصر على الدولة السعودية الأولى، فقد كانت حربا عثمانية قام بها والي دولة الخلافة على مصر، وآلت مكاسبها لاسطنبول.

طموح سياسي اجتماعي يحكمه مال النفط الوفير. تغييرات دينية واجتماعية وحياتية، كان مجرد التفكير بحصولها قبل سنوات قليلة ضربا من الجنون أو الحماقة.

السعودية فتحت آفاقها على ما اعتبرته في الماضي من المحرمات. سينما وغناء وسفور نسائي واختلاط في الحفلات وملاعب كرة القدم، والسماح لنجوم الكرة الأجانب القادمين بملايين الدولارات والامتيازات الخيالية، بالمعيشة مع شريكاتهن دون عقود زواج، كما في حالة النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو وشريكته جورجينا عارضة الأزياء الإسبانية.

وأخيرا عرض فيلم (فيلم باربي) الذي حظرته بعض دول المنطقة الأكثر انفتاحا سابقا من السعودية بسبب ما قيل عن تناوله للشذوذ الجنسي والتقاليد التي تتعارض مع ثقافة المنطقة خصوصا الولاية الذكورية على المرأة.

لفت الإقبال الكبير على مشاهدة الفيلم محطة CNN الأمريكية وتحدثت  في لقاءاتها مع سعوديين عن انقلاب اجتماعي هائل. سعودة جديدة أصبحت واقعا يفرض نفسه على ثقافة دول الجوار، حتى أن المهتمين من تلك التي حظرته، يسافرون إلى السعودية لمشاهدته، على العكس من السابق، أيام سفر السعوديين للإمارات والبحرين ومصر من أجل الترفيه المفقود في بلادهم.

تقول صحيفة نيويورك تايمز: المشاهدون في السعودية تفاعلوا مع أسئلة ذكورية في الفيلم مثل: "أنا رجل بلا قوة. هل هذا يجعلني امرأة؟ " وابتهجوا مع سماع مونولوج عن قيود الأنوثة النمطية، ثم خرجوا من صالات العرض  المظلمة ليفكروا في معنى كل ذلك.  وقال شاب شاهد الفيلم: "رأينا أنفسنا". وذكر آخر أنه يعتقد أن الفيلم يحتوي على دروس مهمة للرجال والنساء على حد سواء.

وتمضي الصحيفة: كون هذا يحدث في السعودية التي تعتبر واحدة من أكثر البلدان التي يهيمن عليها الذكور في العالم، أمر محير للكثيرين في الشرق الأوسط. 

قناة "الحرة" الأمريكية تحدثت نقلا عن وكالة الأنباء الكويتية عن منع الجارة الخليجية - الكويت - عرض فيلم باربي لحرصها على منع كل ما يخدش الآداب العامة أو يحرض على مخالفة النظام العام والعادات والتقاليد.

وكذلك تحرك وزير الثقافة اللبناني عباس مرتضى، لمنع عرضه قائلا إنه "يروج للشذوذ والتحول الجنسي.. ويتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية". لاحظ أنها لبنان دولة الانفتاح الترفيهي والسياسي والصحفي العربي قبل عقود قليلة.

هل كل ذلك يلغي أدوات مصر الناعمة ودورها في المنطقة؟..

الإجابة بالنفي تؤكد الشوفينية القديمة التي تحجب الحقيقة وتجعلنا رهينة التاريخ. الواقع هو ما يجب الإقرار به. من المستحيل أن تحتفظ بالدور السياسي والاجتماعي والناعم في ظل اقتصاد يواجه مأزوم يتعيش بالقروض وبالمساعدات الخليجية. 

مناخ الاحتياج يتبعه أزمة هوية. مصريون يتمنون الهجرة، ومواهب رياضية تتجنس وتحمل علم دول أخرى في المناسبات العالمية. كثير من المنصات الإعلامية ومشاهير الإعلاميين في مصر يقبضون رواتبهم من السعودية، وجزء منهم من الإمارات، فلا تتوقع منهم إبراز هوية مختلفة لهوية المال الذي يأتي إليهم.

هل يعني هذا أننا أصبحنا مثل لبنان الخمسينيات والستينيات عندما كانت منصاتها الإعلامية والفنية تدار بمال ناصري وبعثي؟!

أترك الإجابة لكم…