ماهر الشيال يكتب: وانتبهنا فوجدنا الجنيه «مايسواش بصلة»!

ذات مصر

يحتل البصل مكانة مميزة في الثقافة المصرية منذ أزمنة بعيدة، فذكرت بعض المراجع أن البصل استخدم كعملة لدفع أجور العمال الذين شاركوا في بناء الأهرامات، كما رود أنه كان مقدسا في مصر قبل الميلاد بنحو 3500 سنة، ومما ورد أيضا أنه اتخذ رمزا للحياة الأبدية، وهو ما يبرر ظهوره في العديد من الرسومات على جدران مقابر قدماء المصريين، في اللوحات الجنائزية، كما وضعه أجدادنا فوق المومياوات وحولها.. ولقد اكتشف علماء الآثار أن مومياء رمسيس الرابع كانت تحتوي بصلا في تجاويف العينين والأذنين، أما الأنف فقد وجدت به قشور البصل مغطاة بالراتنج؛ لاعتقاد المصريين القدماء أن الرائحة النفاذة للبصل تساعد الموتى في التنفس الأول بعد العودة للحياة في الأبدية.

أما أمثالنا الشعبية فقد أقحمت البصل في كثير منها، وقد ضُرب به المثل في القِلة والبساطة فقالوا "بصلة المُحب خروف" بمعنى أن أقل الأشياء مع الحب تكون ذات قيمة كبيرة، وقالوا أيضا "أمك البصل وأبوك التوم.. منين تجيب الريحة الحلوة يا مشئوم" والمعنى هنا يتعلق بأن الأصل الوضيع يغلب على فعل الإنسان، وقالوا "يا داخل بين البصلة وقشرتها، ما ينوبك إلا ريحتها"  تحذيرا من التدخل في خلاف بين المقربين، وقالوا أيضا "صام صام وفطر على بصلة" عن من تأخر زواجه، ثم ارتبط بامرأة ليست جميلة، كما ضُرب المثل بالبصل في الرخص وقلة القيمة فقيل عن الشيء إذا بلغ رخصه حدا كبيرا لرداءته أو ضعف الطلب عليه إنه "مايسواش بصلة".

وقد ارتفع سعر البصل في الأسواق المصرية في الآونة الأخير ليصل سعر الكيلو لأكثر من 20 جنيها، فإذ كان وزن "البصلة" متوسطة الحجم يبلغ حوالي 80 جراما- فإن عدد البصلات في الكيلو الواحد يكون من 12 إلى 13 بصلة، ليتجاوز سعر البصلة الواحدة جنيها ونصف؛ ليصبح الجنيه المصري فعليا "مايسواش بصلة" وذلك بعد انهيار قيمته الشرائية وفقده لأكثر من نصف قيمته أمام الدولار، منذ مارس الماضي؛ لأسباب عديدة يحلو للبعض إرجاعها إلى ظروف دولية فقط- ليصل الجنيه المصري إلى أدنى مستوى منذ أول ظهور له عام 1836.

ارتفاع سعر البصل أرجعه البعض إلى زيادة حجم التصدير للخارج، وقلة المعروض في الأسواق المحلية، وانحسار المساحة المزروعة به مع زيادة الطلب عليه، ليشهد محصول البصل هذا العام تراجعا بلغت نسبته 50%، وفق بعض التقديرات.

وإذا كان يحلو للبعض المقارنة بين أحوال الناس في العهود المختلفة، فلا بد أن نشير إلى ما تمتع به الجنيه المصري من قيمة كبيرة في عقدي الخمسينات والستينات (عهد ثورة يوليو- الجمهورية الأولى) إذ كان الدولار الأمريكي يساوي 36 قرشا، زادت إلى 40 قرشا في الفترة من 1967، إلى ما بعد انقضاء عقد الستينات، في حين بلغ سعر جرام الذهب (عيار 21) 37 قرشا، ارتفعت بحلول علم 1970 إلى 176 قرشا.

وبالرغم من أن مصر كانت تخوض حربا ضروسا ضد قوى البغي والاستكبار في العالم، ورأس حربتها المتمثل في الكيان الصهيوني إلا أن ذلك لم يُضعف من القيمة الشرائية للجنيه، فلم يتجاوز سعر كيلو اللحوم البلدية بنهاية عقد الخمسينات الـ50 قرشا، وحافظ على ذات السعر طوال العِقد التالي؛ لتشهد أسعار اللحوم ارتفاعا كبيرا عام 1973، بوصول سعر الكيلو إلى 65 قرشا، ما صاعد من دعوات المقاطعة لهذه السلعة الباهظة الثمن.

كان البنك الدولي قد أعلن في تقرير له صدر برقم (870) أن مصر استطاعت تحقيق نسبة نمو في الفترة من عام 1957 – 1967، بلغت ما يقارب الـ 7 % سنويا،  وهو ما يماثل أربعة أضعاف التنمية التي شهدتها البلاد  الأربعين سنة السابقة من 1917-1957، وهي نسبة نمو لم تصل إليها أي دولة استقلت حديثا، وكذلك معظم الدول الأوروبية، إذ بلغت في إيطاليا نسبة النمو عن نفس الفترة 4.5 % فقط. 

وقد استطاعت مصر أن تحافظ على نسبة النمو الاقتصادي؛ حتى بعد الهزيمة العسكرية في 1967، بل أن هذه النسبة زادت في عامي 1969 و 1970 إذ بلغت 8 % سنويا.

مع نهاية عقد الستينات كان الاقتصاد المصري قد استطاع  تحقيق  فائض في الميزان التجاري لأول وأخر مرة في تاريخ مصر- بلغ قدره 46.9 مليون جنيه، أو ما يعادل 117 مليون دولار أمريكي.

في تلك الفترة انخفض معدل البطالة على نحو لم يتحقق من قبل ولا بعد ذلك أيضا، إذ بلغ 2.6 % وكان جميع خرّيجي الجامعات والمعاهد العليا والمدارس المتوسطة؛ قد جرى تعيينهم في الوظائف المختلفة في العام الذي توفي فيه الرئيس عبد الناصر، وكان راتب خرّيج الجامعة آنذاك حوالي 17 جنيها، وهو مبلغ كان يستطيع به شراء 68 كيلو جراما من اللحم في الريف أو نحو 50 كيلوجراما في الحضر، أو نحو 45 جراما من الذهب أو 425 كيلوجراما من الأرز.. حسب دراسة أجراها الباحث أحمد النجار عن الرواتب والأجور.

وقد بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي المصري بنهاية عام 1965، نحو 5.1  مليار دولار، في حين بلغ  في السعودية مثلا، في نفس العام نحو  2.3  مليار دولار فقط.

أما الحال الآن بالنسبة للجنيه الذي لم يعد يساوي بصلة، فقد أفادت تقارير بأنه قد فقد حوالي 300 % من قيمته مقابل الدولار منذ 2016، وتحتل مصر المرتبة الأولى عربيا والثانية عالميا في قائمة الدول الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي، بإجمالي ديون بلغت نحوا من 20 مليار دولار وبإجمالي ديون خارجية تجاوزت 160 مليار دولار، تستحق السداد على مدى السنوات الخمس المقبلة، بما في ذلك سندات بقيمة 3.3 مليار دولار تستحق في 2024، بينما بلغ حجم الدين الداخلي أكثر من 4 تريليون جنيه. 

لا تبدو بعض المقارنات عادلة، ربما بسبب الاختلاف البيّن بين طرفي المقارنة؛ لكن البعض يلجأ إلى المقارنة بدافع من المغالطة؛ التي ربما تخدع البعض، لكنها لا تصمد كثيرا أمام الحقائق الثابتة والأرقام والوقائع المُسلّم بها.. وما دام الإصرار قائما على إعزاء الأوضاع إلى غير أسبابها الحقيقية التي باتت واضحة لدى الكافة- فسيكون من الصعب توقع أي تحسن حقيقي في المسار الاقتصادي؛ ما سيؤدي حتما إلى تفاقم الأزمات القائمة واستحداث أزمات جديدة؛ للدرجة التي ربما يصبح الجنيه معها "مايسواش زيتونة".. وهو ما لا نرجو حدوثه بالقطع.