علي الصاوي يكتب: على أعتاب الحب

ذات مصر

اجتمعا ولم يكن بينهما اتصال بأي سبب من أسباب العاطفة، كان المشترك بينهما هو عتمة الليل الذى أرخى سدوله وأفسح لهما غرف أحاديثه الخاصة بمكر ودهاء؛ وفتح صندوق أسراره لينهلا من سحر بيانه وقصص عشقه التي لا تنضب، وكأن الليل كان صيادا ماهرا نصب لهما فخ الحب ليقعا في شراكه معا، وتبدأ رحلة عشق في طريق مجهول بدأ بليل فهل انتهى بتفجّر شمس الأمل وختم الأبد؟

لم يقصدا الحب ولا تعمده قلباهما، لكن معناه كان يطوف فوق رأسيهما، هو قلبه منهكا وعزمه واهنا من كثرة اضطراب العاطفة وثقل الحب، تائه في عالم رأسه، وهى تعيش بين إعياء الماضي وذكرياته الموجعة، وعزلة حاضر أفقدها بهجة الحياة، إلى أن تكاشفا واطمئنا فباحت له بذات صدرها وباح لها بمكنون قلبه، فأحبته عقلا جميلا وبيانا ناصعا ولسانا بليغا، كانت نبرات صوتها تُخفي وراءها جمال طفلة بريئة، لا تعرف خبث العواطف ولا تنميق الكلام ولا تلفيق الحب، شخصيتها كالمرآة الصافية لا تستر أدني غبار.

فتاة لم يسالمها الدهر؛ لم يترك نفسها لنفسها ترسمها كما تحب، بل تآمر عليها مع كثيرين ممن لهم من ناحيتها غرض، ناوشتها الأيام وأحاطت بها الآلام، يحوم حولها قطيع من الأصدقاء يخطبون ودّها ويزدلفون إليها بالكلام رغبة الذئب من فريسته، يريدها لحما ودما لا روحا وقلبا، كان شعوره نحوها جارفا يُحس ولا ينطق، شعورا صامتا معبرا، لا متسلطا متكبرا، راح يصوغ  فلسفة خاصة لفهم مشاعرها لكنها كانت عصية على الفهم، أحيانا تكون حالمة وأخرى متوهمة، خيالها رحب وهواها متقلب، لكنها في جميع أحوالها صادقة نقية، وفي حمى تيه العاطفة والبحث عن مفاتيح شخصيتها، وجد أنها بحاجة إلى صديق محب يستمع إلى شكواها من الأيام فتستريح إليه روحا ومعنى، وليس الصديق المحب الذي تسمع منه كلمات الزلفى واصطناع الهوى وقصص الغرام.

كانت لها نفس شاعرة وقدرة بارعة في تحليل الأحداث تضاعف أحزانها فتجعل لها من كل هم همين ولكل عبارة فهمين، أراد أن يمسح على قلبها لتزول أحزانها، فقال: إن للحب أوجها متعددة أرفعها ذلك الحب المولع بالخوف على من تحب وإن كان فيه هلاك نفسك، فقالت: وما دليل ذلك؟ قال: الأيام، وحدها قادرة أن تكشف لك علامات كثيرة وليس علامة واحدة، لكنك تُحبين العاجلة، فالقلوب لا تبوح بأسرارها إلا إذا فاضت على جنبيها، فهلا صبرت قليلا ليختمر الحب؟وهل يكون الخبز طازجا إلا بعد عجن واختمار وتسوية؟

مشاعر مضطربة تأويها بين أضلعها، وأحاسيس تعتلج في نفسها لم تتذوق بعد سخونة الحب، اتصلت به اتصال الروح بالروح قبل اتصال الجسم بالجسم، فنزلت من آفاق نفسها السامية إلى محراب روحه الشفيفة فكانت مستقرا لها ومستودعا، لكن منذ متى استقر طيف عابر ونسمة رقيقة في مكان واحد؟

كان اسمها وحده غزل، فأراح قلمه من جهد التعبير وسبك المعاني ونظم القوافي، وخلع أوصافا بديعة على عذوبة جمالها وسحنتها الملائكية، كانت قطعة بيانية من الشعر تمشي على الأرض، منسوجة بمغزل سماوي ومرسومة بريشة إلهية، فكتب إليها: أنت ملهمة المعنى ولبنة المبنى، أنت تراتيل الصباح وأنشودة المساء، أنت البيان والتبيين، وجهك مثل سطح بحر هادئ بلا أمواج هادرة، أنت صفحة أزلية في سفر الخلود وواجدة كل موجود، أنت سؤال حائر في مقرر الحب بلا جواب، يتوه في عينيك كل من ينظر إليهما، فيظل أسير النظرة مسحورا بها مكبلا على ناصية جفنيك ينتظر الدخول بين أروقتها ليكتشف سر جمالهما.

في حضرتها ما كان يشعر بمشقة أو ثقل، وكم رامت نفسه مصاحبتها دوما ليخلع عنه ثوب الوحدة ويتخذ من دفء قُربها وطنا، فقد أعياه برد الغربة ولا مناص إلا أن تتعانق أرواحهما ويخفق قلباهما، ذاك العناق الذي كان عنوان تعارفهما منذ التقيا بغير ميعاد في ليلة ظلماء كانت هى قمرها، تواطأت معها ملائكة الليل وحفظت تلك اللحظة الشاعرية في ذاكرة العشق، ورسمت صورتها السماوية على جدار قلبه، كانت لحظة كاشفة عزف فيها قلبه على وتر جمالها لحن عشق، فسكن إليها فكان الود، وسكنت إليه فكان الحب.

كانت بكرا في كل شيء، في كلامها وحركاتها، حتى نظراتها كانت بكرا، أما عن خجلها فتجد مثله في كتب التراث والأساطير القديمة، بحث عن عيب فيها فوجد أن عيبها لا يُعاب، فعاد مبتهجا وقال في نفسه: "يبدو أن تأويل رؤيا قلبي حقا، كم كنت بارعة في اصطيادي، باغت قلبك قلبي سهوة، فوقع في شِراك الهوى وتعلق بك.

كان ظلّها كظل شجرة طيّبة، مترامية الأفرع وممتدة الجذور من مسّها برفق تعلّق بها واشتهى ثمارها، ومن أحسن سقياها دانت له أغصانها تلتف حوله فتنفث عبيرها بين ثنايا قلبه، فتطرح ثمرة حب تسمو بها روحه وتُشرق، ويتدفق من بين أصابعه ينبوع البيان، عازفا على أغصانها لحن حب، أيا شجرة لا فِكاك من أسرك..متى أطلع على جمال سِرّك؟

بقيت هكذا عدة أشهر حتى تغيرت فجأة وأصيب حبها بتقلبات ومِحن على شاكلة نفسها المضطربة، فأمطرت غيوم قلبها عليه حجارة من غضب، وكادت أن تبتلعه عواصفها، فآثر الصمت على الكلام ولملم مشاعر قلبه ورحل متواريا عن الأنظار، مُبقيا على خيط ذكرى جميل نسجه من سمو حبه وكرامة نفسه وأصالة عشقه.

ما كانت تلك غايته منذ أن التقاها وحرّك القدر ما في نفسه من هواها، حين التقت الأرواح  وتعانقت وتناسمت، غَلبه الحب على نفسه وما غَلبه على خُلقه وكبرياءه، بعد ذهابها صارت له نفسان تتصارعان إن أقدمت الأولى أحجمت الثانية وإن أقبلت الثانية نفرت الأولى نفورا يحوي ألفة وحنين من هوى السنين، حتى استقام المَنسم وهداه قلبه إلى الصواب واجتاز بعزم عُباب الحب وانقشعت غمامته رغم ما تركه في نفسه من أثر.

بعد أن تفرقا عبثت الأفكار برأسها وتنازعت فرآها تجلس على ضفة في ناحية تغزل شعرا وتكتب نثرا تبُث فيه شكواها وتناجي هواها بكلمات تُفحم ولا تُقحم وتفزع ولا تنزع، فأشفق عليها وأرسل إليها يقول: كوني من شئت أو ما شئت خلقا آخر مما يكبر في صدرك، ما كنت كما تكتبين ولم أكن...فمن هُنت عليه يَهن.
طفولة الحب
عاد يجتر أحزانه وراءه، وجلس ذات مساء، يُقلّب في بريد الذكريات، ما يُغذّي حنينه ويسكت أنين روحه العالقة بين عالمها وعالمه، ثم قال لنفسه: ويل للمحب من عتمة آخر الليل، تلك الساعة التي يتنزل فيها وحى الذكريات فيبعث الحب من مرقده، فتتقلب النفس بين شوق الحنين ومرارة الفراق، ذكريات تترك الروح هائمة على طريق الهجر كأنها منتزعة، نزع بلا تمزق وهجر بلا جفاء.

وبعد أن غربت شمسه وأفل قمرها الجميل، جلس يكتب عن إحساس أول خفقة قلب حين التقيا وتآلفت الأرواح بلا اجتماع، حينها شعر أنها تناديه قائلة: هيت لك، وقتها كانت مشاعره شابة وقلبه مُصانا في عذريته، ذكريات جميلة عاش على فتاتها المختزن في جوف قلبه وبين مدارك عقله، يتغزّل في اللون الأخضر التى كانت مولعة به، فبدأ يسرد تفاصيل الذكرى.

تذكرها حين جمع بينهما القدر للحظات على حين غفلة من قلبه، وقالت له: أُحب اللون الأخضر لأنه يليق بي، فقال: وأنا أحبه أيضا لأنه يُثمر حبّا، ثم انقطع حبل الود، لكن روحهما كان بينهما حديث طويل في عالم الغيب، وبعد سنوات عادت ولها سحنة فكرية وعاطفية مختلفة، وكم تمنى أن تتمثّل له في حاضره جسدا حيا بين يديه بعد أن استوت وربت، ليبدع في وصف حسنها وتفاصيل قوامها الممشوق كزهرة ريحان تلتف أوراقها على عودها المشدود، وعينيها الخضراوين الممطرتين لؤلؤا منثورا، ويستدعي ذكريات ماض قديم ولّى وانقضى، قبل أن تنسخه الأيام في شكل آخر مرتديا ثوب الود يتأنق في زهو وسرور، ثم سرحت نفسه وعاد إلى الوراء قليلا عندما كانت تتحاشاه كلما ظهر أمامها مُظهرة تجاهله، وبداخلها كانت تنتظر.

عاشت بداخله طويلا قبل أن تفصل بينهما حواجز يسمونها في دستور الجهل أعرافا، ربما بالغت في كبريائها قليلا منذ أن جمعتهما الصدفة، رغم أنه كان يسكن خيالها ويعيش بين كلماتها، كانت تُقبل ثم تُدبر في صورة تُبيّن حيرة المرأة العاشقة، تنتقل من فن إلى فن ومن فكر إلى فكر ومن لون إلى لون، تلتمس لنفسها عذرا يقنعها لتبدأ معه، فخُيّل إليه بعد تفكير وتروي أنها قالت: وهل تَصل إلى السماء يد شلّاء؟ إلى أن تركها ومضى في طريقه يضرب في الأرض حتى نَسى ونسِيَت، وطوى الزمان القصة تحت قشرة القلب وحفظها في الذاكرة، إلى أن جاءه هاتف من بريد العشاق أن احضر حالا فهناك مظروف ينتظرك.

ذهب يستلم المظروف فوجد رسالة تفيض شوقا وحنينا بعنوان "جئت متأخرا" جاء فيها: أتذكر يوم أن التقينا في ذلك الفناء المليئ بأطفال يلعبون ونحن على مقربة منهم؟ يومها خفق لك قلبي وناديت سفير الإعجاب لأرسل لك باقة حب، حين غلبني الهوى وزلزل أركان فؤادي تحت أرض الكبرياء، لكننى تراجعت واكتفيت بالإشارة، حين تجاهلت وتعمدت ألا تنتبه، شعرت حينها أن قلبك متخما بالكبرياء مثلي، قبل أن تؤكد لي حاسة العاطفة أنك هائم لكنك خائف، فأغلقت قلبي على آخر نبض كان لك، وبينما عجلة الحياة تجري بنا وتعبث بحاضرنا وتُنسينا ذكرياتنا الجميلة، والأقدار تجلدنا بسوط المكتوب رغما عنا، رأيت في المنام من يحدثني عنك كثيرا، وتكرر الأمر كل يوم فأحببت النوم مبكرا لأتابع أخبارك في شغف وسرور فشعرت أنك صرت ملء السمع والبصر، وقد كنت قبل رجلا عاديا لا تملك من الأرض سوى قبض الريح، فهل كنت تتوقع أن تجمع بيننا الأقدار يوما؟

فكتب إليها يقول: نعم كنت أعلم أننا سنلتقي يوما، فزاد رحلتي حوى في جعبته بقية من ذكريات الماضي تركتها في الحافظة لحين تتهيأ الظروف لاستدعائها من جديد، وقد كان، وجئتِ اليوم تطرقين باب قلبي ففتحت لك بلا تردد، وكيف لا أفتح وأنت أول من سكنتيه، فهلّا أخذت المفتاح لألقى به في بئر الحنين كى لا يستبد بنا النوى مرة أخرى؟ فجاءه الرد بأن المفتاح في يد أخرى تحفظها بحكم العادة والتقاليد لا بحكم الاستحقاق والرغبة، فاصبر، فإن كان المفتاح في يد أخرى فإن شفرته بيد قلبي.

حاول أن يرد لكن كلماته وقفت على عتبات تنهيداتها مكبلة، لا تستطيع العبور ولا التعبير؛ يا حرارة أنفاسها الملتهبة ما زال في القلب متسع لتحمل لسعات الهوى، والصبر على شطط النوى، فلا هوى بعد هواها يهتوى.