علي الصاوي يكتب: كُلهم بروتس

ذات مصر

قد يكون حُطامك النفسي مادة يُشيّد بها غيرك نجاحه، وقد يكون سقوطك في بئر الفشل سلم يصعد عليه من عَجز أن يصل بطرق مشروعة نحو القمة، كل طعنة غدر فيك قد تكون التئام جرح في جسد آخر، كالمرض لا ينتعش ويتمدد إلا بضعف الجسم ووهنه، وربما تحول سيف يمينك إلى خنجر تقتل به نفسك، ولنا في طعنة بروتس لصديقه يوليوس قيصر تعلما وعبرة، حين طعنه من الخلف مع الطاعنين وكان يظن القيصر أن صديق عمره جاء لينقذه من الطعنات، وعندما شارك بروتس في طعنه نظر إليه يوليوس قيصر وقال:"حتى أنت يا بروتس! الآن يموت القيصر" لم يمت بسبب قوة الطعنة بل بسبب حقيقة الطاعن، صديق عمره بروتس، مات فورا لأن الطعنة كانت معنوية أكثر منها جسدية، طعنة في ثقة أولاه بها، وحب غمره به، وبهجة حين رآه قادما نحوه وهو يتلقى الطعنات ظنا أنه سينقذه فكانت طعنته هى القاتلة، وكان قبل ذلك متماسكا يكافح الطعنات الأخرى بعزم الرجال.

فليس كل مُقرّب حبيب وليس كل عابر صديق، وقد يُحبك بعض الناس إلى أن تصبح منافسا لهم، حينئذ تنقلب محبتهم إلى عداوة، وربما أشفق عليك من يراك في مرتبة أقل منه فإن علا شأنك ورُفع ذكرك تحولت تلك الشفقة إلى حسد وصراع خفي لا تراه، يكشف عن حقيقة مشاعره وما يكنّه في قلبه تجاهك، ومع أول فرصة يغدر بك ضربا بالقاضية، وكنت كتبت في المقال السابق قصة بعنوان "ثنائي الغدر" وهى تحكي عن ثلاثة أشخاص كانوا رفقة لفترة زمنية إلى أن غدر اثنان منهما بصاحبهم الثالث ومن حسن الحظ أنى أعرفه شخصيا وعندما التقينا بعد مدة انقطاع قص علىّ قصتهم فألهمني فكرة المقال، ثم أفاض علىّ أكثر وقال سأحكي لك قصتي باختصار لتفهم حقيقة الناس جيدا، وبعد الانتهاء من سماعها تأثرت كثيرا وقلت له: ومن أنقذك بعد كل هذا؟ قال: "سلامة صدري"، القصة حفّزت بداخلى قريحة الإبداع لأكتب ما سمعت مع بعض الخيال من عندي، فجاء وحي الإلهام بالآتي:

عندما بدأ كان يسير بجوار البحر لا تستهويه صفحاته الهادئة وكثافة أمواجه المتعرجة بين حين وآخر، ولمعان زرقته على أشعة الشمس في النهار وبياضها على ضوء القمر في الليل، كان يشعر بنداء قوي يأتي من أعماق البحر ينادي عليه أن انزل بكلتا قدميك واسبح بأنفاس طويلة ولا تخشى الماء، فهناك حوريات كثيرة تنتظرك، سَرت في نفسه رغبة جامحة لخوض مغامرة لم يخضها من قبل، كان على وشك النزول لكنه خشى الغرق فلا مجاديف ولا قارب ولا حتى مدرب يُعلّمه كيف يسبح ويطاوع الأمواج العاتية بمهارة للوصول إلى عمق البحر والظفر بمرجانه وحورياته.

انتظر كثيرا أملا في أن يأتي أحدهم ويساعده فلم يجد، حتى قرر النزول بكل قوة في البحر وليكن ما هو كائن، لم يكن ماهرا في السباحة، تخبط بين الأمواج ولعبت به، ثم سمعها تضحك عليه وتقول: أنّى لهذا الضعيف أن يصل إلى عمق البحر وكلما سمع حديثهم اشتد عزمه، وهى تشتد حقدا عليه وحسدا لقوة إرادته، حاولت إغراقه فلم تفلح، حتى نجا منها وأكمل طريقه يسبح ويقاوم فرأى من بعيد حوتا كبيرا وسمكة قرش يبدوا أنهما تآمرا عليه، اتجها نحوه يخوفانه ويثبطان من عزيمته ليرجع لكنه أبى، وفجأة جاءت موجة عالية أرهقته والحوت وسمكة القرش يضحكان عليه ويقولان: أنت ضعيف يا هذا، عد إلى ما كنت عليه فلم يرد عليهما وتجاوز الموجة بروح صلبة، حاول الحوت والقرش أكله لكنه غطس بقوة وعزم فاصطدما ببعضهما وانقلب الحوت على سمكة القرش وتشاجرا فنجا منهما.

وبينما كان يسبح ويكافح الوصول إلى عمق البحر أصيب بشد عضلي أوقفه، فرأى قاربا قادما من بعيد فأشار لمن فيه يطلب النجدة فضحكوا عليه وتركوه ينازع الغرق وحده، وإذ بلطف الأقدار تنزل عليه برحماتها حين وجد لوح خشبي يطفو على سطح البحر وكأن الأقدار ساقته إليه وحده، تمسك به والتقط أنفاسه ثم أكمل السباحة نحو العمق فوجد في طريقه حوريات كثيرة حاولن عرقلته بعدما رأين فيه الشباب والهمة فلم يستجب لهن، واستمر إلى أن وصل لأعمق نقطة في البحر فوجد حورية واحدة تنتظره وبجوارها صندوق مليئ باللولؤ والمرجان، كانت أجملهم وأصدقهم وأنبلهم.

قالت له: أنا من كانت تناديك وأنت تقف على الشاطئ تخشى نزول البحر، قال لها: ولمَ أنا بالذات؟ فقالت: لأن بداخلك سباح ماهر لكنك لم تجد من يكتشفك، غطى غبار الإهمال على سجياك المدفونة، فقال: من هؤلاء؟ قالت: كل من منعك لتصل إلىّ، الأمواج والحوت وسمكة القرش والحوريات اللاتى حاولن خطفك، والقارب الذي استنجدت به وتركك، فقال: أتعرفينهم؟ قالت: نعم أعرفهم، فالأمواج هى الناس المحيطة بك من لا يحبون لك الخير ويتظاهرون به، والحوت وسمكة القرش هما شخصان مقربان إليك من الدرجة الأولى، هما أكثر من تعرفهم لؤما وغدرا ومع ذلك ثتق بهما، والحوريات مجموعة من المزيفات من يطلبن فيك ما يقضى حاجتهم حتى إذا انقضت تركوك وغادروا يبحثون عن غيرك، أما أصحاب القارب فهم أقاربك الذين كانوا ينتظرون غرقك ليشمتوا في موتك، ويشربون نخب التشفي في صحة فشلك، لذلك اصطفيتك من بين كل هؤلاء الناس وناديت عليك لأنك تستحق، قال لها: من أنتِ؟ فقالت: أنا الخير الذي يملأ قلبك.