عمار علي حسن يكتب: تكوين العرب وتأزمهم.. قراءة في مشروع محمد جابر الأنصاري

ذات مصر

ينطلق المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري من أن الثقافة العربية الحديثة هي ثقافة أيديولوجيا أكثر مما هي ثقافة معرفة وحضارة، باعتبار أن المعرفة، معرفة الذات والآخر والواقع بمعناه الأعمق والأشمل، هي الشرط الأساسي لتحقيق التقدم الحضاري، ويرى أن المعرفة السياسية عند العرب "تعاني من تضخم في جانبها الأيديولوجي والمثالي والطوباوي، ومن ضمور وفقر دم بالمقابل في جانبها الواقعي والعملي، والتحليل النقدي. ومن هذا الاختلال الأساسي في بنيتها العامة يتولد قسط لا يستهان به من الخلل والقصور في السلوك السياسي العربي الناجم عن ذلك الوعي المختل بحقيقة السياسة".

ولا يجافي الأنصاري الواقع في طرحه هذا، إذ أن الأيديولوجيات العربية على اختلافها، وطنية وقومية ودينية، لا تزال تفتقد في الأغلب إلى استراتيجيات وبرامج العمل السياسي الزمني المحدد. فهي تعتمد على التفكير بالتمنيات، وعلى اعتماد الأهداف الكبرى دون بحث عن وسائل ناجعة لتحقيقها على أرض الواقع.

 ويعزو الأنصاري ذلك، بطريقة غير مباشرة، إلى وجود خلل في بنية العقل العربي، حيث "الفجوة القاتلة بين الأهداف والغايات الكبرى المعلنة في الحياة العربية كالوحدة والحداثة ومواجهة الإمبريالية والصهيونية والجهاد وقيادة العالم وبين السلوك اليومي الملموس للجماهير العربية والنخب العربية في حياتها الواقعية .. إذ أنه بعيد كل البعد عن إمكانية التقدم نحو تلك الأهداف بأي شكل، في ظل المستوى المتدني لذلك السلوك نظاما وإنتاجا وعملا واحتراما للوقت وللواجبات اليومية الضرورية ولقيم المجتمع المدني في مختلف المجالات". علاوة على ذلك فالعقل العربي معتل، في نظر الأنصاري، بالميل إلى إغفال، بل إنكار الحقائق والوقائع التي لا توافق تصوراته ورغائبه، ويكابر في هذا الشأن حتى لو أدى ذلك إلى حدوث نكبات، والميل إلى العموميات والمطلقات، دون التوقف أمام الجزئيات والتفاصيل الدقيقة لأية فكرة أو قضية.

لكن هذا التصور العام، الذي يمثل الفضاء الفكري الذي يعمل من خلاله الأنصاري، لا يشكل الجزء الجوهري في رؤيته، إنما ما يلعب هذا الدور هو الجانب الذي يركز فيه على "السياسي" في الثقافة العربية، وذلك من خلال محاولته إعادة فهم الواقع العربي عبر تشريح تكوين العرب السياسي، ورصد أسباب تأزمهم السياسي، والحالة المزمنة التي وصلوا إليها في هذا الشأن.

ويبنى الأنصاري رؤيته على اقتناع بأن الأزمات السياسية المتلاحقة التي يعاني منها العرب ليست وليدة الحاضر الراهن وحده، وليست نتاج لحظاتها الآنية المنعزلة، وإنما هي أعراض لتراكم واقع موضوعي طويل الأمد، تداخلت فيه عوامل المكان والزمان والتكوين الجمعي، أي بكلمة أخرى، عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية العامة المتوارثة، والممتدة إلى عمق الحاضر المعاش في مختلف مظاهره وأعراضه التي يعانيها عرب اليوم

ويعتبر الأنصاري أن "السياسة هي كعب أخيل في الجسم العربي وفي بنيان الحضارة العربية ـ الإسلامية، الغنية بعطائها الروحي والعلمي والإنساني، في ما عدا عطاء السياسة واختياراتها ومحنها، وفي ما عدا الشأن السياسي والإنجاز السياسي الذي يبدو أضعف جوانبها على الإطلاق"، ويستخلص، بعد استعراض بعض خطى من المسيرة السياسية للأمة الإسلامية، أن مفهوم العمل السياسي تجمد عند العرب في مستوى الحماسة الوطنية والنضالية والتمرد والرفض، في استمرار لحالة الاستلاب والغربة، والتوزع بين خيارين فقط، هما العصيان والخضوع، وفي المقابل نجد أنه نادرا أن نجد الطابع العملي في السياسات العربية، بوصفه ممارسة يومية مستمرة وتعامل متبادل يقوم على الأخذ والرد والتوافق في إطار الممكن.

 ومن ثم نجد هناك أزمة سياسية تطال المجموع العربي برمته، رسميا وشعبيا، على مستوى الدولة والمجتمع المدني معا، سواء من حيث الأداء أو من زاوية الوعي السياسي. وهذه الأزمة، لا تعني غياب الكفاءات السياسية الفردية العربية بل العطب هو في العمل الجماعي. ونظرا لإهمال الاتجاهات السياسية والأيديولوجية العربية كافة طبيعة التركيب الاجتماعي العربي، الذي لن ينجح مشروع نهضوي إلا بعد الإلمام بتفاصيله وأخذ أوضاعه كافة في الحسبان، تظهر الأزمة السياسية بشتى جوانبها.

لكن كيف يمكن الخروج من نفق هذه الثقافة السياسية السلبية وذلك الوضع المتردي؟ ..

 في نظر الأنصاري فإن طوق النجاة يتمثل في "تجديد الإسلام"، فهاهو يقول: "في العصر الحديث جرب العرب حلولا من خارج الإسلام، وبمنافاة له .. فلم تتجذر هذه الحلول في الأرض العربية، ثم توجهوا في الآونة الأخيرة إلى صيغ تنسب إلى الإسلام وتتصف بالتطرف والتعصب ومعاداة العصر، وذلك في ردة فعل ضد التطرف العلماني السابق. ولا يبدو أن صيغ التعصب المنسوبة إلى الإسلام، والتي هي في الواقع من ترسبات التاريخ، قادرة على إحداث الخلاص المنتظر. وعليه فإن العرب اليوم لا خيار لهم غير أن ينجحوا في تحقيق الاتجاه الوحيد المتبقي أمامهم، وشقه إن أردوا الحياة، وهو تجديد الإسلام، مع الحفاظ على جوهره، ليستوعب روح العصر، في توافق تام مع أصالته العربية وتسامحه العربي .. إن كلمة السر هنا تتخلص في (الإسلام ـ العروبة ـ العصر) في مندمج عضوي واحد. وإذا سقطت أية كلمة من هذه الكلمات الثلاث سقطت الصيغة كلها".

ويطالب الأنصاري بتحويل هذا التوجه العام إلى "مشروع حضاري عربي ـ إسلامي" بمعالم واضحة وبرامج محددة وعملية، في ظل تبلور موقف عربي حيال مختلف القضايا والتحديات التي يفرضها العصر. وهنا يستلهم حركة "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية التي انتصرت للجانب الاجتماعي في المسيحية وأدخلتها إلى الحياة الإنسانية بصيغة مغايرة، تتسم بالإيجابية والديناميكية. وتبدو هذه الحركة بالنسبة له مثال مهم، فهي إن نجحت في تقديم بديل ثالث مستقل عن الرأسمالية والماركسية فإن هذا سيقدم دليلا جديدا على أن شعوب العالم الثلاث بمقدورها أن تسير بنهج حضاري مستمد من روحها وخصوصيتها.