عمار علي حسن يكتب: الديمقراطية والرأسمالية.. خطوط التلاقي والتوازي

ذات مصر

هل يصنع الاقتصاد السياسة؟ هل تتبادل الديمقراطية المنافع مع التنمية؟ 

تتوزع الإجابة في اتجاهين: الأول يؤمن أصحابه  بالتلازم بين النمو الاقتصادي والديمقراطية، والثاني يؤكد أتباعه عدم توافر أي ارتباط بين النمو الاقتصادي ونوع الحكم أو النظام في الدولة، حيث لا توجد حتميات في هذا الشأن وليس هناك أقدار مسبقة، أو طريق مرسوم سلفاً لتطور طبيعي نحو الديمقراطية في البلدان التي طالها التحديث أو نزعة إلى الاستبداد في البلدان التي لم تحقق مستويات تنمية كبيرة.

 في المقابل فإن كانت الديمقراطيات تعني توافر مجتمعات منفتحة سياسياً، فإن هذا لا يقود بالضرورة إلى إيجاد اقتصاد مفتوح قائم على حرية التجارة وليس الحمائية أو التخطيط المركزي، ولا يعني أن الديمقراطيات ذات كفاءة اقتصادية أكثر من النظم غير الديمقراطية، خصوصا خلال فترة التحول الاجتماعي الذاتي نحو الديمقراطية. 

وإذا كان من الممكن القول إنه ليست هناك ديمقراطية دون اقتصاد سوق، فتوجد بلدان عديدة ذات اقتصاد سوقي لكنها ليست ديمقراطية. ومن السهولة بمكان دحض المقولات التي تربط النمو الاقتصادي بوجود الديمقراطية من خلال تجارب عملية واضحة جهارا نهارا. 

فالهند مثلا، لم يؤد تراجع نموها الاقتصادي إلى تردي وضعها الديمقراطي. وفي المقابل فإن دولة مثل سنغافورة لم يجلب لها انتعاش حالتها الاقتصادية نظام حكم ديمقراطياً. والصين رغم أنها حققت خلال الفترة من 1965 حتى 1994 تقدماً في معدل النمو الاقتصادي فاق ضعف وأحيانا ثلاثة أمثال ما حققته الهند، فإن الأولى لم تقدم على انفتاح سياسي.

وإذا كان ليس هناك ارتباط لا يقبل الدحض بين التنمية والديمقراطية، ولا يمكن القطع بأن الرخاء الاقتصادي يؤدي إلى الانفتاح السياسي أو العكس، فعلى الجانب الآخر نجد أن عدم الاستقرار الاقتصادي لا يقود بالضرورة إلى تغيير سياسي ينزع نحو الديمقراطية. 

فمن الممكن أن تقود أزمة اقتصادية طاحنة مجتمعا إلى حل سياسي ديمقراطي أملا في تغيير الأحوال المتردية، لكن الأزمة نفسها من الممكن أن ترتد بنظم ديمقراطية إلى الاستبداد، بدعوى الحيلولة دون تهديد سلامة المجتمع، وقد تجعل أنظمة ديمقراطية تسقط وتحل محلها نظم دكتاتورية. فالأزمة الاقتصادية تنال من شرعية الحكومات سواء كانت ديمقراطية أم استبدادية، وتؤثر سلباً على الاستقرار السياسي في أي منهما.

 وتقدم الخبرة الأوروبية ذاتها مثالاً واضحاً على هذا، فعدم الاستقرار الاقتصادي الذي شهدته أوروبا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتحديداً في الفترة من 1919 إلى 1945، هدد الأنظمة الديمقراطية، لأنه وضع صعوبات جمة أمامها في تحديد الأولويات الاجتماعية والاقتصادية، التي تعد المهمة الرئيسية للحكومات، ومن ثم أثر سلبياً على شرعيتها. 

ونلمس حالياً غياب هذا الارتباط في ضآلة تأثير الاختلافات في إدارة العملية الاقتصادية بين الدول التي تنتج صناعات "هاي تيك"، وهي الولايات المتحدة واليابان والبلدان الأوروبية، على مخرجات أنظمتها السياسية الديمقراطية. 

فهذه البلدان احتفظت بنظم ديمقراطية تقوم على إجراءات متشابهة وحزمة من القيم متطابقة، إلى حد كبير، رغم أن النظام الإداري الأوروبي والياباني يقوم على إعطاء صلاحيات أكبر للمديرين البيروقراطيين ويميل إلى المساواة النسبية في توزيع الثروة، بينما يقوم نظام الولايات المتحدة على إعطاء فرص أوسع للممولين وليس للمديرين ويجنح إلى التوزيع غير المتكافئ للثروة. 

لكن عدم وجود ارتباط يصل إلى درجة "القانون العلمي" أو يقوم على قاعدة منطقية تؤدي مقدماتها إلى نتائج محددة بين الديمقراطية واقتصاد السوق، أو بين التنمية والديمقراطية، لا ينفي أمرين مهمين أثبتتهما الخبرة العملية، الأول هو أن الرأسمالية أثرت تاريخياً في أنظمة الحكم بما ساهم في ميلاد الديمقراطية، وأن النظم الديمقراطية تحمل مقومات أكثر من غيرها على تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وأن التحرر الاقتصادي قد لا يفضي بالضرورة إلى ليبرالية سياسية على المدى القريب لكنه قد يؤثر في ذلك المضمار على المدى البعيد، حال حياد العوامل الأخرى. 

والأمر الثاني هو أن الاقتصاد كبنية وعمليات وإجراءات وعلاقات يؤثر على الديمقراطية من زوايا عدة؛ أولها، تتعلق بتأثير الإنجاز الاقتصادي في العملية الانتخابية. فهناك اعتقاد شائع بين الساسة في العديد من الدول الديمقراطية، إن لم يكن في جميعها، مفاده أن التركيز على الإنجاز الاقتصادي يمثل جواز مرور الحزب الذي يتولى الحكم إلى الجماهير، لأنها تصوت لمصلحة مَن يحقق لها درجة أفضل من الرخاء الاقتصادي. 

والعكس صحيح، فالجماهير تعاقب الحزب الذي يخفق في هذه المهمة عبر صناديق الانتخابات، ومن ثم تعتمد قدرة أي حزب سياسي على الاستمرار في السلطة على ما يحققه من رفاه اجتماعي. 

والزاوية الثانية ترتبط بكون الاقتصاد يستخدم أداة لتشجيع الديمقراطية أو الحض عليها، إما بطريقة سلبية عن طريق تهديد الدول الديمقراطية الكبرى لنظيرتها غير الديمقراطية بقطع المعونات الاقتصادية أو فرض عقوبات أو تضييق الخناق عليها في المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض حتى تتخذ خطوات ديمقراطية، أو تعود إلى الديمقراطية إذا حدث ارتداد عليها، وإما إيجابيا عبر زيادة المعونات الاقتصادية والحصول على القروض والمنح. 

أما الزاوية الثالثة، فتتمثل في الدور الذي يعوِّله البعض على العولمة الاقتصادية في دفع مجتمعات ذات نظم حكم تسلطية أو شمولية إلى الديمقراطية. 

وقد اختبر باحثون أثر التجارة الدولية على التحالفات السياسية في بعض الدول، فألفوا أن التغير في معدل المكسب والخسارة الناجم عن حركة التجارة العالمية يؤثر على مصادر القوة للتحالفات الاجتماعية داخل الدول، ويوجد طبقة وسطى تجارية تكافح لتجذير قيم الديمقراطية، لأن هذا يحقق مصالحها، من خلال توفير مناخ من الاستقرار السياسي الذي يضمن لها مواصلة أعمالها وزيادة حجم أرباحها. 

وفي المقابل، تخص الزاوية الرابعة ترسب قيم وإجراءات الديمقراطية داخل البنى الاقتصادية ذاتها، بحيث تكون الديمقراطية هي العنصر الفاعل، والاقتصاد هو العنصر القابل أو المتلقي للفعل. 

وهنا يظهر مفهوم "الديمقراطية الصناعية" التي تعد من إفرازات التوجهات الفوضوية والحركة النقابية والنزعة الاشتراكية، حيث مشاركة العمال في اتخاذ القرارات الخاصة بشروط العمل، مع بقاء السيطرة الفعلية في يد صاحب العمل. وقد استفادت الحركة النقابية بالفعل في دول عديدة من التوجهات الديمقراطية، حيث توفرت لها وسائل للتعبير الحر عن نفسها، وتمكنت من إجراء الانتخابات الداخلية التي تدفع إلى الأمام عناصر تحقق مصالح العمال سواء في مواجهة أرباب العمل أو التصلب أمام أي قرارات تتخذها السلطات ويرى العمال أنها تؤثر سلباً على مواقعهم ومكتسباتهم. 

وفي الدول التي تحكمها أنظمة تسلطية أو شمولية وجدت الحركة النقابية نفسها تعاني آثار غياب الديمقراطية، حيث تدس الحكومة أنفها في الشأن النقابي لمنع وصول عناصر معارضة أو تدجين النضال النقابي، بما لا يسبب أي إزعاج للسلطة.