العملية كيسنجر.. صفقة توفيق بك خطاب مع الحياة (الحلقة الثانية)

أحداث هذه الرواية من خيال مؤلفها وأي تشابه بينها وبين واقع أشخاص أو أحداث هو من قبيل المصادفة الفنية غير المقصودة

غزوة "المناشي"

لم أكن أعرف سبب هذا الاستدعاء المباغت

غادرت الإدارة في ساعة متأخرة من الليل، وفوجئت باتصال من المدير بالعودة فورا.. حاولت الاستفسار عن السبب فجاءني الرد حاسما:

  • أحمد يا مصري! لا وقت للفلسفة.. احضر فورا يا حضرة الضابط!

كنتُ قد منّيت نفسي بليلة ناعمة، كون اليوم التالي إجازة، وربما كانت الإجازة الوحيدة التي نجحتُ في الظفْر بها من شهور مضت.

وقبل أن أغادر سيارتي، التي كنتُ للتو قد وضعتها في جراج العمارة التي أسكنها. عدتُ وأغلقت بابها عليَّ، وناديت البواب لحمل بعض ما كنت جلبته لهذه الليلة، وأمرته بأن يصعد بها لزوجتي، ويخبرها بأنني اضطررت للعودة إلى العمل لأمر طارئ.

  • من الأفضل أن تتلقى الصدمة من البواب وليس مني. 

يمكنك أن تواجه غضب العالم كله، إلا غضب امرأة وعدتَها فصدَقَتْ، وأكدت عليها الوعد فخطَطَت، وعشَّمْتَها فانتظرَت واستعدَت، ثم رأت من تنتظره قادما من بعيد، يقترب ويقترب، حتى يصبح قاب قوسين، فتفتح الباب ولا تجد غير ظل مستدير في الاتجاه المعاكس.

في الطريق وبين عشرات الرنَّات الغاضبة من زوجتي، التي كنتُ حريصا على تجنب الرد عليها مؤقتا حتى أستجمع شجاعتي الكافية، نَفذ المدير باتصال آخر ليؤكد أن الحضور بمكتب السيد اللواء مساعد الوزير مدير أمن القاهرة.

تضاعف عندى الأدرينالين بفعل غضب زوجتي، الذي صبَّته عليَّ، وبفعل ضرب الأخماس بالأسداس لعلّي أجد لضربهما نتيجة:

لماذا مكتب مدير الأمن؟

هل الأمر متعلق بي؟

شكوى قُدمت فيَّ من أحد رؤسائي

بيان من منظمة حقوقية يتهمني بتعذيب متهم؟

أو ربما مات أحد المتهمين عندي في محبسه وادعى عليَّ ذووه أنني قتلتُه؟!

كان الأمل في ليلة ناعمة.. وها قد بدأتْ خشونتها تنهش عقلي.

لكن قليلا من الاطمئنان هدّأ رَوْعي بعد بضعة اتصالات سريعة مع زملائي تأكدتُ فيها من أوضاع المحبوسين في القضايا التي أعمل عليها، وأن جميعهم كرامتهم محفوظة، ولا تجاوز قانونيا في حقوقهم، وزاد هذا الاطمئنان مكالمة عتاب رقيقة مع زوجتي بعد أن أفرغَتْ طاقة غضبها كلها في البواب والأكياس والتليفون وكاسات النيش والأطباق والشموع، التي كانت أعدَّتها على مائدة العشاء.

عاد الأدرينالين واستقر عند معدله العادي، وانتظمت ضربات القلب في حركتها الطبيعية بمجرد أن قال مدير الأمن:

  • جمعناكم هنا لتنفيذ مهمة على درجة عالية من الخطورة والأهمية؟

هي مهمة جديدة إذن، وليست تقييما لمهمة حالية أو قديمة.. والمهمة في غاية البساطة، حتى أنني تعجبتُ من حشد كل هؤلاء الضباط من إدارات مختلفة والتنسيق مع مديريتي أمن ومع الأمن الوطني وقوات مكافحة الشغب والأمن المركزي والمسطحات المائية وغيرها، لمجرد تنفيذ أمر ضبط وإحضار مواطن يُدعى (توفيق خطاب).

  • مَن توفيق خطاب؟ 

سألت ببراءة، وكنتُ فعلا لا أعرفه، فجاء الرد مقتضبا:

  • رجل أعمال عليه اتهامات عديدة بالفساد والتربح والاستيلاء على الأراضي والتهرب الضريبي والإثراء غير المشروع.

كعادتي انسحبتُ من لساني وتساءلت عن جدوى هذا الحشد الكبير من الضباط والإدارات وقلتُ بجرأة يحسدني عليها زملائي ويحذرونني منها في آنٍ:

  • يا فندم.. جواب استدعاء من النيابة على عنوانه يكفي..

وقع الصمت على جميع السادة الضباط حاضري الاجتماع، وتعلقتْ أنظارُهم جميعا بملامح مدير الأمن، الذي وجّه إليَّ نظرة شعرت كأنها تخترق صدري وتكاد تخلع منه القلب، وقبل أن يُنهي زملائي قراءة الفاتحة على عمري الوظيفي، كان السيد مدير الأمن يفك هذه الرهبة ويصفق، مُبديا الإعجاب بما قلتُ قبل أن يتندَّر عليه ويعلق ساخرا:

  • تفكير خارج الصندوق من حضرة الرائد.. ممكن كمان نبعت له "فويس نوت على واتس آب"..

انفجر الاجتماع ضحكا.. واعتبرتُ ذلك أقل الأضرار، ومع استعادة الهدوء شرح اللواء أهمية ضبطه وتفتيش مقاره في وقت متزامن، وتحريز أي مستندات، والتعامل معه بالشدة والحزم اللازمين.

صدرت الأوامر وتحركت 3 فرق من القوات، الأولى إلى مكتبه المُطل على النيل في قلب جزيرة الزمالك، لصيقا بفندق ماريوت، والثانية إلى منزل زوجته الشابة على كورنيش المعادي قبل حدود سجن طرة، والثالثة إلى قصره الريفي الذي يعيش فيه مع زوجته الأولى وبناته، والقابع في إحدى توابع قرية المناشي، أقصي شمال الجيزة، التي تقع على امتداد الجانب الغربي للنيل، قريبا جدا من نقطة تفرعه إلى شرياني دمياط ورشيد.

كان لافتا أن نقاط تمركزه الأساسية كلها نقاط نيلية تكاد تكون على خط ملاحي واحد.

علمتُ بعدها أنه قصد ذلك واعتاد التنقل بين هذه المحطات الأساسية الثلاث عبر يخت مجهز، يجعل المسافة بين أم بناته في المناشي وزوجته الشابة في المعادي، بضع دقائق لا أكثر، لو قطعها بسيارة لاستغرق الطريق في زحام القاهرة ساعات من الصعب تقديرها.

اتجهت القوات باتجاهين في كل نقطة.. الاتجاه النيلي بقوات من المسطحات المائية.. والاتجاه البري بقوات استهدفت محيط كل نقطة مداهمة.

تحركتُ مع الفريق الثالث باتجاه شمال الجيزة، كنتُ وسط قوات المسطحات المائية في لانش شرطي باتجاه منشأة القناطر، وصولا إلى المناشي، فيما تحركت قوات من مركز إمبابة ومديرية أمن الجيزة باتجاه قصره المنيف من ناحية البر.

كان المتفق عليه أن تتم المداهمة في توقيت واحد في النقاط الثلاث، وكنت ما زلتُ لا أرى مبررا لذلك كله، ما دفعني لبدء البحث عن اسم (توفيق خطاب) بينما الأسطول الذي أقوده يسابق نفسه فوق الماء، كاسرا سكون النيل وصمته إلا من بضعة أماكن ساهرة على ضفافه.

قال Google عنه الكثير..

 قادني رابط إلى آخر، وقصة إلى أخرى..

هو تاجر ومطوِّر عقاري وصاحب توكيلات سيارات وصاحب منتجعات وسلاسل سوبر ماركت ومزارع، والأهم أن البعض يعتبره ملك الشيكولاتة، حيث يملك حقوق استيراد وتوزيع غالبية الماركات المعروفة من الشيكولاتة الفرنسية والسويسرية واللاتينية.

قليلة هي المدائح، التي أسهبت في الحديث عن مناقبه، وغالبيتها من أشخاص يصفونه دائمًا بـ"الصديق"، كأنها شهادة الصاحب لصاحبه، وأحيانا شهادة المرؤوس لرئيسه، حيث امتلك محطة إذاعية لها بوابتها الإلكترونية واسعة الانتشار.

ونادرة هي التقييمات الموضوعية، التي تبحث خلف أثر مشاريعه وجدواها وأهميتها على الخريطة الاقتصادية في مصر، لا توجد محطات يمكن اعتبارها محل فخر على مستوى وطني، لا مصنع عملاق، ولا علامة تجارية معروفة ومنافسة في أسواق التصدير، لكن نشاطا اقتصاديا معتمدا على الاستيراد والتوكيلات والشراكات مع الأجانب، بوصف مصر سوقا استهلاكية لا إنتاجية، ومحفظة استثمارية معتمدة في تمويلها على الاقتراض، وريع مزارع ومنتجعات وكمباواندات.

لكن الأخبار السلبية أكثر غزارة.. 

تزخر المواقع الإلكترونية بالتقارير التي تكيل له الاتهامات المتعددة، منها الكسب غير المشروع، والاستيلاء على أراض من ممتلكات الدولة، ومخالفات التخصيص الرسمي بتحويل أراض زراعية إلى منتجعات وفيلات وملاعب جولف، وتبوير أراض زراعية، والمضاربة في الدولار والعملات الأجنبية بطرق غير مشروعة، والبناء دون ترخيص، والتهرب الضريبي، والتجارة في الأغذية الفاسدة، واحتكار السلع التموينية، والإخلال بالعقود، والتربح من الأزمات، والإضرار بالمال العام، وإقامة مراسٍ غير مرخصة على نهر النيل، والتعدي على جزر نيلية، وردم مساحات من نهر النيل.

لم أستسغ كل هذه الاتهامات لوهلة، وجفل منها عقلي..

ليس معقولا أن يكون هناك شخص ارتكب كل هذه المخالفات، وتُحيطه كل تلك الاتهامات، ولا تتدخل الدولة لردعه وإلزامه باحترام القانون، الأرجح أن هناك شيئا آخر.. أحقاد بين رجال الأعمال تدفع منافسيه لتمويل هذه التقارير السلبية عنه، وإلا تكون الدولة كلها مُقصرة في أنها تترك مثل هذا الرجل طليقا هكذا بلا رادع.

لكن أي أحقاد.. وأى تقصير؟

أنا هنا الآن مشارك في مهمة ضبط لم أرَ مثلها من قبل في حياتي العملية، ما ينفي أي تقصير، ونظرة واحدة إلى الأمام تكفي لأصدق على الأقل بعض هذه الاتهامات التي تُكال له، فعلى مرمى البصر، وبينما يمر اللانش بين عشش الصيادين، وسواقي الفلاحين، تظهر بيوت قرية المناشي وتوابعها، كأنها مكعبات متتالية من الطوب الأحمر، كلها في العمق فيما تمتد الزراعات على ضفاف النيل، يظهر قصر أبيض فخم تقتحم أسواره مجرى النيل، حتى تكاد تلتحم بإحدى الجزر في قلبه قبل أن يتفرع النهر إلى فرعي دمياط ورشيد.

كيف بُني إذن هذا القصر  في هذا الموقع ما لم تكن لائحة الاتهامات صحيحة، خصوصا فيما يتعلق بالتعدي على النيل وجزره وحرمه وجواره؟!

وكيف بنى الرجل هذا المرسَى؟!

ولماذا يظهر القصر كأنه ورَمٌ ضخم إلى الداخل في مجرى النيل المنتظم في أغلب الطريق كالمسطرة، إن لم يكن هناك ردم في تلك المساحة الضخمة، أو على الأقل استيلاء واسع على أراض شاسعة من طرح النهر؟!

أمام القصر، الذي بدا أمامي كشبه جزيرة، نشرتُ قوات المسطحات حوله، وانتظرتُ حتى تأتيني إشارة وصول قوات المداهمة، التي وصلت عند باب القصر من ناحية الطريق الرئيسي للقرية.

أضاء حراس القصر الكشافات فجأة حين شعروا بوجودنا، وأشهروا في وجوهنا ترسانة أسلحة خفيفة، قبل أن أتعامل معهم بالطلقات التحذيرية، وأكشف لهم عن شخصية القوات ومهمتها.

تحفظتُ على الحراس وأسلحتهم، ودلفت مع القوات من باب القصر من ناحية المرسى، وعبرت المساحات الخضراء الشاسعة حتى باب الفيلا الداخلي، وفي الطريق تحفَّظت على عشرات العاملات والعمال الآسيويين من خدَم القصر، وقام الضباط الفنيون بتشويش شبكة الاتصال الخلوية، حتى وصلتُ إلى الباب الأمامي، وفتحتُ للقوات الداخلة من اتجاه البر، وبعد السيطرة الكاملة على محيط القصر والطابق الأرضي بالكامل، بدأت مهمة التفتيش والبحث عن المتهم المطلوب (توفيق بك خطاب).

وللاطلاع على الحلقة الأولى.. اضغط هنا