عمار علي حسن يكتب: «ميثاق العمل الإسلامي».. كراسة السجن التي صارت دستور «الجماعة الإسلامية»

ذات مصر

لم يحظ كتاب في مصر على مدار ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين بالاهتمام أكثر من ذلك الذي ألفه عدد من قيادات "الجماعة الإسلامية" التي قويت شوكتها في صعيد مصر، ودخلت في قتال ضد السلطة السياسية والمجتمع صنع تسع سنوات من الدم. وكان للكتاب، الذي بددته مراجعات مؤلفيه فيما بعد، أثر في تنظيمات متطرفة خارج مصر، رغم أنه كان يوزع سرا وفي طباعة رخيصة، بعد أن صدر عام 1984 تحت عنوان لافت هو "ميثاق العمل الإسلامي".

 لا تنبع أهمية هذا الكتاب مما ورد فيه، إذ إن  أصحابه قاموا بدحضه في عدة كتيبات بعيد إطلاق مبادرة وقف العنف مع السلطة في مصر، لكن يكاد يكون هو وكتاب "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج و"إدارة التوحش" المنسوب للداعشي أبو بكر ناجي، من أكثر الكتب التي اختصرت المسافة جدا بين التفكير والتدبير، فأتباع الجماعة الإسلامية امتلؤوا بـ "الميثاق" لأنه من تأليف  ثلاثة من قادتها هم ناجح إبراهيم وعصام دربالة وعاصم عبد الماجد، ومراجعة الزعيم الروحي لها عمر عبد الرحمن، وكان الحصول عليه أشبه بمغامرة، أعطت مطالعته سرا لذة تفوق كثيرا تلك التي يتحصل عليها من يقرأ، في العلن، كتابا صادرا من دار نشر، لاسيما أنه كتاب صاحبت تأليفه حالة غير طبيعية، إذ كتبه هؤلاء القادة في سجنهم المؤبد، وتم تهريبه إلى خارج الأسوار، فقرأه عبد الرحمن وأقره، وصدر سرا، وتوالت طبعاته، وتناقلته الأيدي من مكان إلى آخر، حتى صار مقتنى عند كثيرين، وكان يُنظر إليه باعتباره وثيقة اتهام لمن يقتنيه، إن لم يكن باحثا دارسا لـ "الحركة الإسلامية المسيسة" في تلك الآونة.

 يضع المؤلفون في مقدمة الكتاب الفكرة المركزية له، وما يدفع إلى تبنيها، والعمل من أجلها. فهم مضوا خلف ما اعتقدوا في أنه وعد إلهي لهم بالنصر والتمكين، ورددوا ما هو سائد من أن التخلف أصاب الأمة لبعدها عن الإسلام ردحا طويلا من الزمن، وقالوا إنها الآن: "تسقط وتتمزق خلافتها إلى دويلات، منها ما اقتطعه النصارى، ومنها ما اقتنصه اليهود ومنها ما استولى عليه الملاحدة وعبدة الأوثان، وأما ما بقي منها يحمل اسم الإسلام فقد علاه حكام علمانيون". ثم يرون أن العالم كله يتآمر على المسلمين ويعاديهم فيقولون: "تكالب علينا الأعداء، مدارس ومذاهب، نظريات وفلسفات هيئات ومؤسسات، أمم وممالك تجتمع كلها على حرب الإسلام أهله، منها ما يؤزه حقد دفين، ومنها ما يدفعه عداء قديم".

كانت الجماعة قد تأسست تحت عين السلطة وبيدها لضرب اليسار المصري في أيام حكم أنور السادات، لكنها لم تلبث أن تمردت على صانعيها، وسعت في الوقت نفسه إلى مضاهاة، بل إزاحة، "جماعة الإخوان المسلمين"، خاصة من صعيد مصر. ولذا كان عليها ابتداء أن تصنع شعارا واسعا بديلا. فالإخوان شعارهم الذي أطلقه مؤسس الجماعة حسن البنا هو: "الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا". أما الجماعة الإسلامية فقد فصلت منطلقاتها الأساسية على النحو التالي:

"ـ غايتنا: رضا الله تعالى بتجريد الإخلاص له سبحانه وتحقيق المتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم.

ـ عقيدتنا: عقيدة السلف الصالح جملة وتفصيلا.

ـ فهمنا: نفهم الإسلام بشموله كما فهمه علماء الأمة الثقات المتبعون لسنة وسنة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم.

ـ هدفنا: تعبيد الناس لربهم، وإقامة خلافة على منهاج النبوة.

ـ طريقنا: الدعوة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الجهاد في سبيل الله من خلال جماعة منضبطة حركتها بالشرع الحنيف، تأبى المداهنة أو الركون، وتستوعب ما سبقها من تجارب.

ـ زادنا: تقوى وعلم، يقين وتوكل، شكر وصبر، زهد في الدنيا، وإيثار الآخرة.

ـ اجتماعنا: لغاية واحدة، بعقيدة واحدة، تحت راية فكرية واحدة.

ـ ولاؤنا: لله ورسوله وللمؤمنين، وعداؤنا للظالمين".

والناظر سريعا إلى هذه المنطلقات قد يرى أنها تعبر عن كثير من عقيدة المسلمين ومواقفهم وتاريخهم، فينجذب إليها، معتقدا أنه قد لاذ بأولئك السائرين في طريق الله، دون شك. فمن ذا الذي يؤمن بالإسلام، ويختلف مع هذا الهدف والطريق والزاد والاجتماع، ويرفض هذا الولاء. لكن ما إن يمعن، هذا الذي انجذب نظره، في التفاصيل التي وردت في ذلك الكتاب، الذي فيه ريب، حتى يجد نفسه متسائلا، إن كان واعيا: أي شياطين تسكن في التفاصيل حول معنى "الإيمان" و"الظلم" و"الخلافة"، ومن يحدد مسار التقوى، ويعين ما يدخل في باب الاعتقاد أو يقع خارجه؟ وكيف سيتم تطبيق هذه الشعارات في الواقع المعيش؟ ومن سيعني بتطبيقها؟ ومن يتابع؟ وهل يمكن قبول الاختلاف حول تعريف هذه المفاهيم أو تعدد الفهم حولها، وتنوع استنباط الإجراءات والأدوات التي تترتب عليها؟

الإجابة حملها الكتاب في تفاصيله، وبينتها التجربة القاسية التي جعلت من السلاح وسيلة أساسية للوصول إلى تحقق هذه الشعارات في رحاب المجتمع، فلم تجن الجماعة بحمله سوى الخسران المبين، بل إنها قادت في النهاية إلى حدوث النقيض تماما مما كانت تصبو إليه، فقد دخلت إلى غمار العنف وهي تظن أنه السبيل إلى إسقاط نظام الحكم القائم، فأطالت عمره، لأنها أكسبته شرعية قوية في وجه معارضيه استنادا إلى محاربته التطرف والإرهاب، وجعلت الخارج أيضا يخفف الضغوط عليه للسبب نفسه.

في التفاصيل يتحدث الكتاب عن قضايا عديدة مثل إقامة الخلافة والجهاد والحسبة، وحكم قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام، وكل من يعاونها من رجال الجيش والشرطة، حتى لو كانوا مجبرين، من وجهة نظر هؤلاء المتطرفين. ويعتبر المؤلفون أنه لا سبيل للمواجهة سوى بقوة السلاح، مهما كان العدد والعدة لدى أتباع الجماعة، وأن الوسائل السلمية مثل الخطابة والكتابة والتربية العلمية وتكوين الأحزاب السياسية، لا جدوى منها، وأن إيثار السلامة والسكينة أو الهجرة هو نوع من الجبن والتخاذل، وأن الجهاد يجب أن يعلن في اتجاهين "العدو القريب" وهم الحكام، و"العدو البعيد" وهي القوى الخارجية، التي لا يجب انتظار مداهمتها لديار المسلمين، والاستيلاء على أرضهم، إنما لوقوفها في وجه الدعوة، وهناك الذين يقعون في مساحة بينية، ليست بدار إسلام ولا دار حرب، وهم عموم المسلمين، الذين يرى الكتاب أنهم مرغمون على ما هم فيه، والذين يعامل كل منهم بما يستحق، ويكون المعيار ما إذا كان خارجا على شريعة الإسلام أم لا.

وهناك جزء لافت في الكتاب يتحدث عن عوامل الهدم والبناء، من وجهة نظر الجماعة، فيستعيرون بعض أشياء من هندسة الإنشاء، ويرون أن البناء يقوم على أرض صالحة صلبة، وأساس متين، وأركان صحيحة منضبطة التنفيذ والأبعاد، واستواء السقف واتساقه، ومادة لاصقة قوية. أما الهدم فيكون على أرض رخوة، وأساس ضعيف، وأركان متزعزعة، وسقف غير مستوي، ولبنات تخلت عن مكانها، ومادة لاصقة فاسدة لا تؤدي دورها. 

وتحسب هنا أن المؤلفين يتماهون مع تصور قدمه مالك بن بني عن شروط النهضة، محددا إياها في الإنسان والأرض والوقت، لكن سرعان ما تكتشف أن ما مضى كان مجرد استعارة من عالم التشييد لبناء لوحة فارغة يقف أمام المتعجلون في تطلع ولهفة، وسرعان ما يأتي مؤلفو الكتاب بريشتهم وألوانهم ليرسموا فيها ما شاءوا، ليجعلوا من الأرض "الإيمان والتقوى" و"الأساس هو "الاعتصام بحبل الله" والأركان هي "وحدة العقيدة والغاية والهدف والطريق والفهم"، أما السقف فهو "الإخوة والثقة والإيثار"، واللبنات التي تصنع المداميك هم "الرجال أو الجنود"، وتكون المادة اللاصقة في نظرهم هي "القواعد والقوانين التي تضبط الحركة". 

ويبدو هذا التصور متساويا، ويحمل قدرا من البريق لا يمكن إنكاره، لكن حين يبدأ ملء الهيكل الذي يمثله هذا البناء، أو اللوحة المعلقة على الجدار، تبدأ المشكلة، حيث يظهر مدى العوار الذي يصيب التصور الذي يبديه الكتاب حول مفهوم الإيمان والتقوى، أو تصورهم لشروط تحقيق الاعتصام بحبل الله، أو تحديدهم للهدف والغاية، وتبيانهم لمعنى وحدة العقيدة أو من ينضوون تحت لواء الأخوة، ويكونون محل ثقة، وكذلك رسم ملامح وسمات وصفات الرجال المبتغى جذبهم ليحملوا الفكرة إلى الواقع، أو سنهم للقوانين والقواعد الضابطة. 

وهذا العوار مرده إلى أمرين، الأول هو عدم ملائمة الأفكار للواقع والقفز عليه، ثم السعي لتأميمه لحساب مشروع، ليس هو بالضرورة الذي ينهض به. والثاني هو مخالفة ما ورد من آراء لجوهر الشريعة الإسلامية نفسها، وكثير من نصوصها الواضحة، خاصة أن المؤلفين يحددون ما يرومونه أولا، ثم يبحثون في النصوص والمقولات والأمثولات والروايات ما يبرره ويعززه. وهي مسألة بينها في حينه الكثير من علماء الأزهر.

ويصف المؤلفون كتابهم بأنه "تبيين وتوضيح وتذكير بأسس وأصول شرعية، ليست مستحدثة ولا مبتدعة بل هذه مسلمات ثابتة لا يسع مسلم أن يتجاهلها فضلا عن أن ينكرها" ثم هو "خلاصة للتجربة التي عاشتها (الجماعة الإسلامية) في ضوء المواجهة التي خاضت غمارها ضد أعداء ديننا في ذي الحجة/سنة 1401 هجري،  أكتوبر/سنة 1981، والتي قدمت فيها الكثير من أبنائها شهداء" ويقصدون هنا واقعة اعتداء أفراد مسلحين من الجماعة على قوات الأمن أمام مديرية أمن أسيوط بصعيد مصر عقب اغتيال الرئيس أنور السادات، وهي الواقعة التي قتل فيها نحو مائة من أفراد الشرطة. 

من هنا يكون الميثاق قد ولد من قلب العنف، فأصبحت سطوره أيديولوجية أو إطارا للقتال، ولا يغطي على هذا قول المؤلفين إن زاد جماعتهم هو: "تقوى وعلم، يقين وتوكل، شكر وصبر، صيام، ذكر ودعاء، زهد في الدنيا وإيثار للآخرة" كما سبق الذكر، فمن وضعوا الكتاب أنفسهم قاموا فيما بعد، وبعد واقعة دم أخرى تمثلت في قتل 58 سائحا أجنبيا في الأقصر، بالتفكير في نقد "الميثاق" وربما نقضه، سواء على مستوى التنظير بإصدار عدة كتيبات تمضي في طريق آخر، بعد إطلاق مبادرة وقف العنف وإبرام صلح مع السلطة السياسية، أو على مستوى التدبير حيث أسست الجماعة، عقب ثورة يناير 2011، حزبا سياسيا  أسمته "البناء والتنمية".

وقد كفت الجماعة منتقدي "الميثاق" مشقة بذل جهد وافر في مهمتهم، وراجعت هي الكثير من أفكاره، وهي إن كانت لم تقم بـ "قطيعة معرفية وحركية" مع الماضي تماما، ولم تقم بهذه الخطوة بمحض اختيارها لكن بعد هزيمتها في المعركة، فإنها على الأقل زعزعت الكثير من التصورات التي حملها كتابها الأساسي، وجاءت ممارسات قادتها التي لم تخاصم سلطة ما قبل ثورة يناير، بل بررت لها أحيانا، لتنقل "الجماعة الإسلامية" من "حتمية المواجهة" التي حملها كتابها إلى "ضرورة التفاهم" وهي مسالة حوتها كتيباتها التي حملت عنوانا عريضا هو "تصحيح المفاهيم" منطلقة فيها من نقد ذاتي تضمن اعترافا بالخطأ، ثم اعتذارا للشعب المصري، إلى نقد الآخرين لاسيما تنظيما القاعدة والجهاد.

وهنا يثار التساؤل: هل أصبح كتاب "ميثاق العمل الإسلامي" مجرد وثيقة سياسية تاريخية؟ أم لا تزال له وظيفة في صفوف أتباع ما يسمى "الإسلام السياسي" في مصر؟  

إن الإجابة يحددها ما جرى لـ "الجماعة الإسلامية" على مدار عقدين من الزمن تقريبا، تخللهما حدث كبير متمثلا في الثورة. فالمراجعات لم تحظ في بداية انطلاقها بموافقة كل أعضاء الجماعة، وإن لم تتوافر لهم أيامها قنوات التعبير عن آرائهم المخالفة. وجاءت الثورة لتأخذ ما تبقى منهم في طريق الممارسة السياسية السلمية، بعد أن تبين لهم أن التغيير صنعته الحناجر وليست البنادق، لكن بعضهم عاد إلى سابق إيمانه بالعنف بعد إسقاط حكم "جماعة الإخوان المسلمين"، وبذا بقي ما في "الميثاق" قابلا للتداول لديهم. أما من تمسكوا بنبذ العنف، رغم كل ما جرى، فإنهم تمسكوا بالمراجعات، وامتثلوا للمفاهيم التي صححوها.