الداء والدواء .. مشكلات الصحة فى مصر.. دراسة لـ "عمار على حسن"

ذات مصر

هناك عبارة ترددها ألسنة المصريين كثيرًا، لاسيما في الوقت الراهن، تقول: "أنا لا أخاف الموت، بل أخاف المرض". طبيعي أن يخشى أي إنسان الألم والعجز، ويضنيه العبء الثقيل الذي يزيحه على كاهل كل من حوله. أما إذا كان المرض مزمنًا، فالمرء يخشى من قضاء بقية عمره في معاناة قاسية، خاصة مع القلق العارم المصاحب لانتظار النهاية المحتومة. 
تلك حالة عامة بين البشر أجمعين، لكنها تزداد سوءًا لدى المصريين بفعل سبعة أسباب لافتة، يمكن تبيانها على النحو التالي: 


1ـ  عدم القدرة على الالتزام بقاعدة "غذاؤك دواؤك" لضيق ذات يد أغلبية السكان، بما يحرمهم من الحصول على الأطعمة التي تعزز قوة الجسم ومناعته، وتلبي احتياجاته الطبيعية إلى مختلف العناصر اللازمة لبنيانه ولياقته، بما لا يجعله فريسة سهلة للمرض.
في الوقت نفسه فإن فرص أغلب المصريين ضعيفة في الحفاظ على لياقة أبدانهم، فنسبة بسيطة من المواطنين مشتركة في أندية رياضية، وأقل منها يذهب إلى صالات التريض وتقوية الأبدان. أما الأغلبية فمحرومة حتى من وجود مكان ممتد ممهد للتريض، مشيًا أو بركوب الدراجات. ويتفاقم الأمر مع هجوم التلوث المركب للماء والهواء والتربة على صحة الناس.


2 ـ تراجع إمكانية إنفاق الفرد على العلاج حال حدوث المرض، في ظل تدني نفقات الدولة على الصحة، وغياب نظام التأمين الصحي الشامل في الواقع، حتى إن تم ذكره نظريًا في قوانين وخطط صحية حكومية، لاسيما مع انتقاله في طوره الجديد من مراعاة البعد الاجتماعي إلى النزوع التجاري البحت، حيث يتعزز الربح على حساب السلامة. 


3 ـ  الخوف من الوقوع في أيدي أطباء عديمي الكفاءة أو مغالين في أجورهم، أو يضخمون المرض لابتزاز المريض واقتناص أي مال منه، أو للنقص المستمر في عدد الأطباء قياسًا إلى تزايد حجم السكان. وتنصب بعض المستشفيات الخاصة فخاخًا للمرضى، لتطيل أمد بقائهم تحت الملاحظة والعلاج طالما أن هذا يدر عليها عائدًا طائلًا. وهناك أطباء متعاقدون مع معامل تحاليل أو صيدليات، فيبالغون في طلب الفحوصات، ووصف الأدوية، أو يكتفون بصرف دواء يعرفون بوجوده أو تكدسه في هذه الصيدليات، حتى لو لم يكن هو العلاج الأفضل لمرضاهم. وفي جراحات التجميل حدث ولا حرج. ويمكن للناس أن يقعوا أيضًا ضحايا في أيدي من يدفعونهم إلى ما يسمى "الطب البديل" أو "الطب الأخضر" الذي غلب فيها الأدعياء الأولياء.


4 ـ  المعاناة الشديدة التي يواجهها الفقراء في المستشفيات الحكومية وبعض المستوصفات، فهناك زحام شديد في ظل قلة غرف الفحص، وعدم وجود عدد كاف من الأطباء، ويقود هذا بالطبع إلى استسهال الفحص أو التسرع فيه، ما يعني تأخر الحصول على العلاج الناجع. وهناك معاناة أشد لمن يتقدمون للعلاج على نفقة الدولة، ففضلًا عن أن المبالغ المخصصة لهذا قليلة قياسًا إلى المطلوب، فإن تحصيلها الخدمة يتأخر جراء أن الفرصة المتاحة لها لا تناسب عدد المتقدمين إليها.  


ولعل الناظر إلى أماكن الانتظار أمام العيادات، أو في مكان الاستقبال، يكتشف كيف يتعرض كثيرون لأشكال من الإهانة والتسويف والنبذ. فيما يتعرض المجبورون على دخول أقسام الطوارئ إلى سوء معاملة، وبعضهم ترفض المستشفيات استقباله، حتى لو كانت حالته خطرة، إلا بعد إيداع مبالغ محددة في خزينة المستشفى، بعضها لا يكون متوفرًا في التو والحال لدى أهل المريض أو المصاب. 


5 ـ اتساع الهوة في "الطاقة الصحية" بين منطقة وأخرى، إما بسبب التفاوت في كفاءة الأطباء، أو في الإمكانات اللوجستية للمستشفيات، ما يجبر كثيرًا من المواطنين على السفر الطويل إلى المراكز الطبية المتميزة نسبيًا لتلقي العلاج، مثل القاهرة وأسيوط والمنصورة والإسكندرية، وفي هذا إرهاق جسدي ونفسي، وعبء مادي للمريض وأهله.


6 ـ ضعف الرقابة على المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة، لضمان جودتها أولًا، ثم ضمان أن تكون أسعارها في متناول أغلب المواطنين، أي لا تُغالي في تحقيق أرباح طائلة على حساب صحة الناس، وبما لا يتناسب مع متوسط الدخول في مصر.


7 ـ حالة الفوضى التي تسود سوق الدواء، ثم تراجع فرصة الحصول عليه، إن توفر ثمن شرائه، جراء ضعف الاستيراد في الفترة الأخيرة، بسبب نقص العملة الصعبة، وهي مسألة يضج مصريون بالشكوى منها، لاسيما أصحاب الأمراض المزمنة.


إنه الواقع الأليم الذي لا تترجمه النصوص التي تحكم الرعاية الصحية في مصر. فدستور  2014 وتعديلاته عام 2019 في مادته رقم (18) على أن "لكل مواطن الحق فى الصحة وفى الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التى تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الأنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، وينظم القانون أسهام المواطنين فى اشتراكاته أو أعفاءهم منها طبقاً لمعدلات دخولهم. ويحرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة. وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين فى القطاع الصحى وتخضع جميع المنشئات الصحية، والمنتجات والمواد، ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة، وتشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلى فى خدمات الرعاية الصحية وفقاً للقانون."


هي مادة جيدة على المستوى النظري، وإن كانت هذه النسبة المخصصة للصحة أقل مما هي مطبقة عربيًا وعالميًا. رغم هذا جاء الواقع ليزيد الطين بلة، إذ يمضي الإنفاق في اتجاه آخر. فالدولة لم تلتزم بالنسبة المقررة دستوريًا بل تدنت بها إلى 1.2% فقط زادت إلى 1.4 أيام اجتياح وباء كورونا، ثم لم تلبث أن عادت إلى ما كانت عليه. 


لقد كان المطلوب لتمويل الصحة، وفق الدستور، 355 مليار جنيه، من بين 11.8 تريليون جنيه تمثل الناتج المحلي لمصر 2023 / 2024، لكن لم ينفق على هذا المجال سوى 148 مليار فقط، وفق دراسة للباحث إلهامي الميرغني، يساهم المواطنون بنحو ثلثيها، وفق دراسة لمعهد التخطيط القومي، التي تؤكد أن نسبة ما يدفعه المصريون من جيوبهم لإجمالي التأمين الصحي هي الأعلى في العالم قاطبة. 


لا تخالف الدولة، أو بمعنى أدق السلطة السياسية، الدستور فقط، بل تنتهك أيضًا حُكمًا تاريخيًا أصدرته المحكمة الإدارية العليا في 4 سبتمبر 2008 بناء على دعوى قضائية رفعتها "لجنة الدفاع عن الحق في الصحة" ضد إنشاء شركة قابضة للشؤون الصحية، ويقول نصًا: "الرعاية الصحية ليست مجالًا للاستثمار والمساومة والاحتكار .. والاتجاه للاقتصاد الحر لا ينبغى  أن يسلب حق المواطن الرعاية الصحية عن طريق الدولة، ومن القواعد ألا تتخلى الدولة عن دورها فى الخدمات الاجتماعية أو الصحية أو تعهد بها إلى وحدات اقتصادية، حتى ولو كانت تابعة لها لأنها تهدف إلى الربح."


إن قانون التأمين الصحى الجديد رقم 2 لسنة 2018 خصخص كاملًا ما تقدمه وزارة الصحة، محولًا إياها من تقديم الخدمة بالتكلفة إلي هيكل استثمارى يضع عينيه أولا على الربح. فهناك لجنة تحدد سعر شراء الخدمة من المستشفيات الخاصة والحكومية والجامعية، وقُطعت خطوات على درب خصخصة المستشفيات الجامعية بواسطة القانون رقم 19 لسنة 2018 الذى نزعها من يد الجامعات، ليلحقها ماليًا وإداريًا وفنيًا بكيان حكومى مركزى جديد يسمى "مجلس إدارة المستشفيات الجامعية"، وهي خطوة نفذتها الحكومة بناء على نصائح مؤسسة "ماكينزى" بغية تحقيق ربح من هذه المستشفيات دون النظر إلى ما يرتبه هذا من أعباء التأمين الصحي، وفق بيان أصدرته "لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة" في شهر يونيو من 2020.


ورغم أن هناك دراسات عدة ربطت النمو الاقتصادي بالرعاية الصحية للمجتمع، وأخرى تحدثت عن التأثير السلبي للاعتلال الجسدي على قوة الشباب بما يخلق مشكلة في تجنيدهم بالجيش، أو التحاقهم بالعمل، فإن السلطة الحالية التي تؤمن بقاعدة "المال مقابل الخدمة"، استمرت في سياسات لا تؤدي إلى تحسين صحة المصريين، وغضت الطرف أحيانًا عن تلاعب الشركات الخاص العاملة في مجالات عدة بصحة موظفيها وعامليها.


لا ننكر في هذا المقام أن الدولة تبنت إجراءت رأسية للتعامل مع الأمراض الشائعة، مثل تطبيق مشروع 100 مليون صحة للأمراض المزمنة، مثل الضغط والسكري والسمنة، وعلاج فيروس الالتهاب الكبدي سي، ومشروع الكشف المبكر عن التقزم والسمنة والأنيميا بين طلاب المدارس، واكتشاف وعلاج أورام الثدي لدى السيدات وغيرها. لكن هذا المشروع الرأسي الانتقائي لا يغني عن تطبيق "التأمين الصحي الشامل" أو "الرعاية الصحية المتكاملة"، التي تشمل كل الأفراد، وتسعى لعلاج كل الأمراض، وهذا من الضروريات وليس من التحسينيات أو الكماليات.


إن الإحصاءات الرسمية تبين تراجع عام في مؤشرات الصحة وأرقامها، ففيما يتدني نصيب الفرد من النفقات الحكومية المخصصة للصحة بتقدم السنوات، نجد أن المنشآت الصحية الحكومية التي تحوي أسّرة للمرضى آخذة في التناقص، مفسحة الطريق للقطاع الخاص الذي أصبح يسيطر على ثلثي المتشفيات في ربوع مصر. وعدد الأطباء، وفق تقديرات 2020، بلغ 116314 طبيبًا بشريًا، يقوم بالعمل بالفعل منهم 91454، وهذا معناه أن ما يربو على 21% من خريجي كليات الطب غير قائمين بالعمل، وهو أمر ينطبق أيضًا على أطباء الأسنان والصيادلة. وفي مصر 205 ألف ممرض وممرضة، بمعدل 8 أطباء و15 ممرضة لكل 10 ألاف شخص، وهو رقم متدني عربيًا، سواء بالنسبة للأطباء أو الممرضات، بل هو أقل من الحد المقبول عالميا وهو طبيب على الأقل لكل ألف شخص
وما يفاقم المشكلة أن ظاهرة ترك الأطباء للمستشفيات الحكومية لضآلة رواتبهم التي  تهبط لتكون الأدني بين نظرائهم في العالم كله، وصعوبة عملهم مع نقص الأجهزة والأدوية، قد زادت بشكل ملحوظ، إذ استقال 12 ألف طبيب في السنوات المتراوحة بين 2019 و 2022. وتفيد نقابة الأطباء أن 11 طبيبًا يستقيلون يوميُا من المستشفيات الحكومية، وهي مسألة مرشحة للتزايد في قابل السنوات، في ظل السياسات الصحية الراهنة، بما يقود إلى تآكل وجود الأطباء، لاسيما أن 60% من بين تسعة آلاف طبيب مصري يتخرجون في كليات الطب سنويًا يفضلون الهجرة إلى خارج البلاد.  


فهناك مشكلة تخص أهل الطب أنفسهم، سواء في التعليم أو في الأوضاع الاجتماعية. فالأطباء العاملون في المستشفيات الحكومية مرهقون، وبعضهم يعاني من تدبير تكاليف الدراسات العليا، اللازمة له كي ترسخ قدميه في مهنة تحتاج إلى التعلم الدائم. ويوجد من يصنع له التكليف مشكلات اجتماعية جمة، أقلها هو الابتعاد عن مسقط رأسه أو أسرته. 
وقبل عقود من الزمن كان الناس يعرفون ما يحلم به المتلحقون بكليات الطب ملخصين إياه فيما يسمى "5 ع" أي: "عيادة وعربية وعروسة وعمارة وعزبة."، واليوم استبدلوها بخمسة أخرى هي: "عيان وعجلة وعازب وعشة وعذاب." أو بـ "5 م" حسبما يورد الكاتب الصحفي أسامة سلامة في مقال له يطالب فيه بإنقاذ الطب، هي:  "مفلس ومجرم ومهان ومحروم ومسافر."، وذلك تعبيرًا عن حال طبيب راهن على مؤهله العلمي في تحريكه اجتماعيًا إلى أعلى، ثم اكتشف الحقيقة المُرة، بسبب راتب متدن، وبدل عدوى مضحك، وساعات طويلة من العمل في ظروف غاية في القسوة. 


ومع نقص الإمكانيات، وقلة عدد الأطباء في المستشفيات الحكومية يحتد عليهم أهل المرضى أحيانًا، وقد يعتدون عليهم باليد، كما حدث غير مرة. والأقسى والأمَّر أن يتعرض الأطباء بين حين وآخر لتشويه الصورة، إما بتعميم مخالفات وأعمال مشينة أو حالة من الاستعلاء والنفور مع المرضى يرتكبها بعض الأطباء على كل الأطباء، أو بمحاولة تحميلهم هم فقط مسؤولية القصور الهيكلي الذي يعاني منه قطاع الصحة في مصر. 


أما بالنسبة لتعلم الأطباء، فإلى جانب حاجة أعضاء هيئة تدريس كليات الطب إلى تنمية مهاراتهم، ومراجعة أنشطتهم التعليمية والبحثية، كما يقول أحدهم وهو د. صلاح الغزالي حرب، فإن الطلاب أنفسهم يواجهون نوعًا من التمييز لم يكن سائدًا من قبل. 


فاليوم أصبح عدد الوافدين في كلية طب "قصر العيني" يماثل أو أكبر من عدد المصريين، رغم أن الوافد يمكنه الالتحاق بالطب بمجموع 75% فقط، مقابل دفع ستة آلاف دولار سنويًا، بينما المصري يحتاج إلى تحصيل ما يزيد عن 95%  في الثانوية العامة، وإلا كان عليه الاتجاه إلى الجامعات الخاصة والأهلية ذات المصروفات العالية.


ويمكن لطالب مصري قادر الالتحاق بنظام تعليمى متقدم أو عالي الجودة، حسب وصف القائمين عليه والمتحمسين له، يسمى اختصارًا (أيبكا)، حيث يحظى بإشراف أكاديمى كامل، وتقييم أداء  مستمر، فضلًا عن مقررات دراسية تعد من يدرسها بشكل أفضل من الناحية العلمية والتطبيقية. وبمرور الوقت قد يصبح الأطباء الذين يعالجون الفقراء أقل كفاءة من زملائهم الذين يعالجون الأغنياء، ما يعزز التمييز بين الاثنين في تلقي الخدمة الصحية، حتى في الحالات الضرورية أو الحرجة، لاسيما مع اتجاه الدولة إلى بيع كثير من المستشفيات لجهات خارجية، سيشغلها بالدرجة الأولى تحقيق الربح.

وهناك مشكلة أخرى تتعلق بسوق الأدوية، التي يصمها فساد طالما أوجع أجساد المصريين وجيوبهم، بلا رحمة على مدار سنوات طويلة. فأصحاب الصيدليات توسعوا في الاستعانة بمن ليسوا مؤهلين للتعامل مع عالم الأدوية على تعقيده الشديد، لأنهم أقل أجورًا، وأكثر طاعة في مخالفة القوانين، ومن السهل التخلص منهم إذا لزم الأمر، لأنهم لا نقابة تحميهم، ولا معرفة حقيقية يبقيهم.
ولا تحظى هذه المشكلة باهتمام الجهات المعني،  فباستثناء طلب إحاطة تم تقديمه في البرلمان ووقع عليه 25 نائبا، نوقش الموضوع على صفحات الجرائد، وشاشات التلفاز، على استحياء، لا يتناسب مع خطورته، وعلاقته المباشرة باحتياجات الناس على اختلاف قدراتهم المادية.
يحدث هذا رغم أن تجريم ما يجري في الصيدليات واضحًا كشمس ظهيرة صيف قائظ، حيث أن قانون مزاولة مهنة الصيدلة 127 لسنة 1955 ينص  في مادته 78 على أنه "يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين وبغرامة لا تزيد علي مائتي جنية أو بأحدي هاتين العقوبتين كل من زاول منهة الصيدلة بدون ترخيص أو حصل علي ترخيص بفتح مؤسسة صيدلية بطريق التحاليل أوباستعارة اسم صيدلي . ويعاقب بنفس العقوبة الصيدلي الذي أعار اسمه لهذا الغرض ويحكم بإغلاق المؤسسة موضع المخالفة وإلغاء الترخيص الممنوح لها".


وتأتي المادة 79 لتكمل الطريق إذ تنص على أنه "يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في المادة السابقة كل شخص غير مرخص له في مزاولة المهنة يعلن عن نفسه بأي وسيلة من وسائل النشر إذا كان من شأن ذلك أن يحمل الجمهور علي الأعتقاد بأن له الحق في مزاولة مهنة الصيدلة وكذلك كل صيدلي يسمح لكل شخص غير مرخص له في مزاولة مهنة الصيدلة بمزاولتها بأسمه في أية مؤسسة صيدلية".


ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل إن القانون ينظم حتى أحوال العاملين داخل الصيدليات، وليس فقط الصيادلة الحقيقيون، فالمادة 25 تفرض على "العمال والعاملات الذين يشتغلون بالمؤسسات الصيدلية أو بتوصيل الأدوية أن يحصلوا علي ترخيص بذلك من وزارة الصحة العمومية بعد تقديم شهادة تحقيق شخصية وصحيفة عدم وجود سوابق علي ان يكونوا ملمين بالقراءة والكتابة كما يخضعون للقيود الصحية التي يقرها وزير الصحة العمومية".


ويريد شباب الصيادلة، المحرمون من الحماية بعد فرض الحراسة على نقابتهم، تعديل هذا القانون الذي تجاوز الزمن بعض مواده، لكنهم يخشون من هذا في ظل الوضع التشريعي المختل إلى حد كبير، وبذا يكتفون الآن بطلب تفعيل القانون الحالي، وإلزام أصحاب الصيدليات بعدم تشغيل من ليسوا خريجي كليات الصيدلية بدلًا من الصيادلة، ليس كعمال أو مساعدين، وهو أمر لا غضاضة فيه، لكن كصيادلة كاملين، رغم أنهم لم يؤهلوا لهذا أبدا.
سوق الدواء تصمها وتضنيها اختلالات عدة، منها غش الأدوية، ووجود بعض منها مجهولة المصدر، وتخزينها في أماكن غير ملائمة، وإعادة تدوير ما شارف منها على انتهاء صلاحيته، وعدم كفاءة المادة الفعالة في بعضها، وامتلاك بعض الصيادلة لأكثر من صيدليتين تحملان الاسم نفسه، وبيع بعض الأطباء للأدوية في عيادتهم الخاصة، وقيام بعضهم بتحويل مرضاهم إلى فئران تجارب لحساب شركات الأدوية في عمل غير قانوني وغير أخلاقي.


وقاد هذا إلى تفشي كثير من الأمراض المزمنة، حيث ترى بعض التقديرات أن السبب الحقيقي لإصابة نصف مرضى الفشل الكلوي في مصر يعود إلى سوء استخدام الأدوية. كما أظهر مسح عينة مكونة من سبعمائة مدمن في أحد المستشفيات إلى أن نصفهم تقريبًا سقطوًا في الإدمان عبر صيدليات لا يديرها صيادلة. واعترف بعض السائقين، خصوصا لعربات النقل الثقيل، عقب حوادث مروعة إلى أنهم حصلوا على "برشام" من صيدليات معينة.

يزيد على هذا ما يعيق المفتشين على الصيدليات من أداء مهمتهم على الوجه الأكمل، وهي مسألة قدم بشأنها شباب الصيادلة مذكرة إلى وزارة التنمية المحلية كي توجه المحافظين إلى تمكين هؤلاء المفتشين من العمل بالطاقة الواجبة، ومذكرة أخرى لهيئة الرقابة الإدارية بغية زيادة عدد المفتشين، والحرص على كفاءتهم، وضمان عدم تضارب المصالح  نظرا لامتلاك بعضهم صيدليات بالفعل، وثالثة إلى نقابة الصيادلة كي تقوم بدورها في حماية أعضائها من عسف أصحاب الصيدليات وهروبهم من تطبيق القانون  مقدمين ذرائع غير مقبولة، لكن كل هذا لم يؤخذ على محمل الجد، لاسيما في ظل ميل سوق الدواء إلى الاحتكار، ودخول ملاك جدد إليه، من الصعب مساءلتهم.


إن مطلب شباب الصيادلة لا يخصهم، إنما هو مطلب للمصريين جميعًا، فلا يوجد أحد منا لا يكون، طيلة حياته من المهد إلى اللحد، في معاملة ما مع الصيدليات، ومن ثم فإن تصحيح أحد أخطائها عبر الالتزام بتعيين خريجي كليات الصيادلة فيها، هو منفعة عامة، يجب ألا يفرط فيها عاقل، ولا تستهين بها حكومة، لاسيما مع تفاقهم الاختلالات في الواقع الدوائي، والتي هي في حاجة إلى جهد جهيد  كي تتوفر حماية المصريين من أحد الأبواب الواسعة التي تهدد حياتهم.


ولا تقف مشكلات المصريين حيال الطب عند هذا، فجراء الفقر تارة، وحالة الاستهواء التي تسيطر على مريض تأخر شفاؤه بعد أن سلك الطريق الطبيعية للعلاج تارة أخرى، يلجأ كثيرون إلى أشخاص غير مؤهلين بحثًا عن أي دواء لأسقامهم. 


وبعض الذين يلوذ بهم الناس، لم يدرسوا الطب وحصلوا على دورة تدريبية في العلاج الطبيعي، أو الحقن بالإبر الصينية. ويوجد من يحدث الناس عن العلاج بالأعشاب أو الأغذية. ويتعدى هذا كثيرًا ما يطبق في بعض الدول المتقدمة من استخلاص مختصين أدوية طبيعية من الأعشاب ثم وضعها في كبسولات بعد تقديرها على نحو دقيق، وبلا أي تركيبات كيميائية، وبما يراعي تخفيف الأعراض الجانبية المترتبة على الإفراط في تناول هذا الصنف من الطب، والتي تساهم مع أخطاء صرف الأدوية الكيماوية نفسها، في تدوير الأمراض، أو تناسلها بلا توقف، إلى درجة أن هناك من يقول: "في مصر لا نموت من المرض فقط، إنما نموت من العلاج أيضًا." 


نعم لا يزال هناك كثيرون يألفون "الطب الشعبي"، ربما لكلفته الأقل، مثل الحجامة ولدغ النحل والألبان الحامضة، وأوراق بعض الأشجار، مثل الجوافة للسعال، والمشمش للزكام، ولبخات الخروع للقروح، والعاقول لأمراض الجهاز البولي، ولبن الجميز لعلاج الأمراض الجلدية، والصمغ لعلاج السكري .. الخ، لكن هذا كان سائدًا في قرون خلت، لم تكن في مصر كليات طب ومستشفيات، أو كانت قليلة مقتصرة على المدن، فلم يكون أمام أهل الريف سوى اللجوء بإفراط إلى طب أنتجته القريحة الشعبية، ولم يكن يخل من فائدة بالطبع.
وبعد تقدم الطب في مصر، لاسيما على مستوى كفاءة الأفراد، فإن إصرار فئة تتسع من الناس على "الطب الشعبي" هذا يبدو أمرًا مشينًا، يشكل خطرًا على صحة فئات اجتماعية عريضة، من بين الذين لا يتعاملون في المفاضلة بين الطب العصري أو العلمي والطب الشعبي على أساس القاعدة التي تلهج بها الألسنة في مصر، وهي: "إذا حضر الماء بطل التيمم"، إنما يتوهمون أن هذا يحل مكان ذاك بكل بساطة ويسر.


وهناك عطارون تحولوا إلى تشخيص الأمراض ووصف علاجها، دون الحصول على ترخيص، ويوجد من يحدثك عن العلاج بالقرآن والإنجيل وقراءة بعض التعاويذ والأدعية والرقية الشرعية، غير مقتصر على دور التدين في تهدئة النفوس المريضة باكتئاب أو قنوط، إنما يؤكد أن هذه الطريقة تشفي الأمراض العضوية أيضًا. وهناك وعاظ ودعاة يصفون أدوية، وبعضهم يزعم أنها مضمونة النتائج، ويزعم أنه قد سبق تجريبها، وحققت نجاحًا ملحوظًا. وتعرض قنوات فضائية إعلانات عن طب الأعشاب، فيتزاحم عليها من يقتنعون بالدعاية والاستعراض الرخيص. 


ومع ضيق العيش ينزع كثير من الناس إلى توفير أجر أطباء العيادات الخاصة ويذهبون مباشرة إلى الصيادلة، يشرحون لهم الأعراض التي يشعرون بها، أو يعانون منها، فيقوم هؤلاء بتحديد الأدوية لهم. وقد طمع بعض الصيادلة فخرجوا في الإعلام عبر برامج مدفوعة في التلفزيون أو اليوتيوب يصفون للناس العقاقير الطبية لكل الأمراض. 
إن المشكلات المعقدة التي تواجه الطب في مصر، وآثارها المزمنة على صحة المصريين، وغياب طرح حلول ناجعة لها، جعل المؤمنين، بل المهووسين، بنظرية المؤامرة يقولون بملء أفواههم إن السلطة تتعمد ترك الشعب للأمراض تنهشه، حتى يتراجع عدد السكان الذي تشكو من زيادته.


وحين يجد أصحاب هذه النظرية لهم مكان يقفون فيه، أو حجة يبرهنون عليها، فهذا معناه، بكل بساطة، أن المشكلات قد تفاقمت، وأن الثقة في قدرة أهل القرار على حلها، قد تلاشت أو تدنت إلى أسفل سافلين.