عمار علي حسن يكتب: الصوم السياسي.. إجبار الناس على الصمت والانسحاب

ذات مصر

يصوم الناس عن السياسة أحيانا، إما لملل وصد عنها، أو خوف من ممارستها، أو رغبة في نيل استراحة منها، لبعض الوقت، يستغرقونه في تقييم تجاربهم السالفة، والاستعداد لتجارب جديدة، قد يتجاوزون فيها إخفاقاتهم وخيباتهم، وإما لاكتئاب يصب نفس الفرد، وقد يتحول إلى حالة عامة تصيب المجتمع.

فالملل قد يحل بعد أن يمر الناس بمرحلة فيضان سياسي، تجعلهم يثرثرون ويتحركون في كل اتجاه، ويطلقون الأفكار من عقالها فتتضارب وتتزاحم في الرؤوس، وهم يتطلعون إلى أن تأخذهم إلى ما يسهم في تحسين شروط الحياة، لكنها قد ترتد بهم إلى الخلف، وتلقي بهم في صحاري التيه والضياع، فيبقى بين القول والفعل حاجزا عاليا سميكا أصم، يجعل الكلمات تتناحر، فيفني بعضها بعضا، أو تتصادم فتندفع إلى الدوران في مكانها بلا هدى، وقد تهبط إلى أعماق ليس لها قرار، وتأخذ معها الراحة والاستقرار.

أما الخوف فيأتي مع الاستبداد السياسي، الذي يجعل للكلام في السياسة ثمنا باهظا، فالمستبدون يفضلون لمحكوميهم أن ينصرفوا عن التفكير في أحوالهم، وإن فكروا فيحتفظوا بما يدور في رؤوسهم لأنفسهم، فلا بوح، ولا تبادل للآراء، ولا نقاش أو جدال، قد يسهم في فضح ما يجري، أو يولد رغبة في مساءلة المستبد أو محاسبته، وهو من يزعم طيلة الوقت أنه يعرف صالح الناس أكثر منهم، وعليهم أن يسلموا بهذا دون نقاش أو حراك. 

والاستراحة من السياسة قد تكون اختيارية لدى البعض، وإجبارية لدى آخرين. فهناك من الناس الذين يميلون بطبعهم، وبحكم أحوالهم وخلفياتهم التعليمية، إلى عدم الخوض في غمار السياسة، قولا أو فعلا، ومنهم من لا يدرك انعكاس السياسة على تفاصيل حياته الصغيرة والبسيطة والضيقة والذاتية، فيكف عن الحديث فيها، أو العمل بها، أو السعي إلى التفاعل مع محترفيها، من الحزبيين وقادة الحركات الاجتماعية والنشطاء السياسيين.

وهناك من يدركون هذا الارتباط، لكنهم يفضلون أن ينصرفوا مؤقتا لتحسين أحوالهم الشخصية، مؤمنين أن أي استقلال مادي يحققه الفرد، يسهم في صناعة اقتداره السياسي، ويجعل عوده أكثر صلابة في مواجهة عسف السلطة ومكرها، أيا كان نوعها أو لونها أو حجمها، أو أوان وجودها، ومدى هيمنتها.

والصوم السياسي يتم التعبير عنه، بمفهوم المخالفة، في استطلاعات الرأي والدراسات التي تنشغل بقياس حجم "المشاركة السياسية" باعتبارها ركنا مكينا في الممارسة الديمقراطية. فمثل هذه الاستطلاعات والدراسات تحدثنا عن عزوف الناس أو امتناعهم عن الممارسة السياسية بمختلف درجاتها، بدءا من المشاركة في اختيار الاتحادات الطلابية، ومجالس إدارات العمارات السكنية، وأعضاء اللجان النقابية، وصولا إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومتابعة الأحداث السياسية العالمية، واتخاذ موقف إيجابي منها. 

هذا العزوف أو الامتناع قد يكون نوعا من "الصوم السياسي"، لاسيما عند أولئك الذين يعتقدون أن الانشغال بالشأن العام ترف أو لغو أو اعتراض على المشيئة والقدر، وذلك عند من يتمسكون بقول المسيح عليه السلام: "اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" أو يؤمنون بقاعدة "طاعة ولي الأمر واجب" و"اطع السلطان وإن جلد ظهرك"، وحتى لدى من يغوصون في أعماق الأمور والأشياء فيرون أن القوة المحركة للفعل السياسي أكبر وأقوى من أن يؤثر فيها أولئك الذين يثرثرون ليل نهار في الشؤون العامة، متوهمين أن الحديث أو الحركات الفردية المتفرقة والمتنازعة بوسعها أن تغير موقفا أو اتجاها، وتصنع حدثا مؤثرا وفارقا في مسيرة الأمم.

ويبقى تعبير "الصوم السياسي" حاملا لمجاز واضح، يسحب ما يجري في طقوس الصوم وفروضه وشروطه، من امتناع وصبر وتحمل وتجنب وزهد، على الممارسة السياسية باعتبارها واحدة من الشهوات المحرمة أو الشرور الظاهرة، أو ما يجب أن تلاحقه اللعنات، مثلما عبر عن هذا العالم والفقيه المجدد الإمام محمد عبده ( 1849 ـ 1905) حين لعن السياسة وكل مشتقاتها اللفظية، لأنها في نظره ما دخلت شيئا إلا أفسدته، وذلك بعد أن طلق طريق أستاذه الثائر الأبدي جمال الدين الأفغاني، ولعق مرارة الخسران المبين عقب فشل الثورة العرابية، وهو يعاني في سجنه ومنفاه، وآمن أن هي الأهم، فقال: "إني أعجب لجعل نبهاء المسلمين وجرائدهم، كل همهم في السياسة، وإهمالهم أمر التربية، الذي هو كل شيء، عليه يبنى كل شيء".

وهذا المجاز لم تبلوره قواميس السياسة ومعاجمها وموسوعاتها، وإن كان يمكن لمسه في واقع الناس، الذي يشي بأن الصوم عن السياسة يمكن أن يقع لدى فرد أو جماعة بعض الوقت. لكنه، في كل الأحوال، مجاز هروبي وسلبي، لأن السياسة ذائبة في أعطاف الحياة وجنباتها، شئنا أم أبينا. 

وهناك من يقرب هذا المجاز ليطابقه مع الصيام بمعناه الديني والبيولوجي، حيث يحتاج السياسي إلى التقوى في التعامل مع الوظيفة، ومع المال العام، ومع خدمة الناس والتواصل معهم، والالتزام بالقانون، والكف عن النميمة السياسية.
وفي ظل هذا التقارب أو التطابق، هناك من يرى ضرورة أن تتحلى ممارسة السياسة مع الصيام بشروطه، فيكف أغلب الساسة عن الكذب والثرثرة والقدح في الخصوم أو المنافسين وهجائهم، والغش والتدليس وتضليل الناس. وبذا تصفد أدوات السياسة، وتكف عن الدوران، أو يلوذ أصحابها إلى خلوتهم، ويمارسون الطاعة الذاتية انتظارا للعيد، موعد الإفطار النهائي، حسبما يقول الكاتب حسن الرواشدة، ويتحول الصيام السياسي إلى فضيلة خاصة في أي بلد يعاني من فوضى السجالات والكلام المجاني والوعود العرقوبية، وأحيانا يكون نوعا من الهروب إلى الأمام، أو تعبيرا عن حالة الفقر التي تبرز أكثر في شهر رمضان، وأحيانا يكون إشهارا لمخاضات لم تحدد ولادتها بعد، أو لانسدادات لم تجد من القنوات ما يسمح لها بالانسياب.

وهنا يقول الكاتب حسن جوهر: "كتجربة متواضعة في العمل السياسي والنشاط الانتخابي تحديداً أدرك تماماً حجم توتر الأعصاب، والشغف من أجل كسب الأصوات ليس عبر طرح الأفكار والرؤى الخاصة للمرشح إنما بالقدح والذم والتقول على الآخرين، وقد تكون هذه طبيعة البشر، وهذه السلوكيات ثقافة مريضة استفحلت وتحولت إلى مرض عضال، ولكن لا خير فينا إن لم نتق شرور مثل هذه الآفات بحق بعضنا بعضاً، وبحق بلدنا الذي تحدق به كل الابتلاءات على الأقل في هذه الليالي المباركة من شهر رمضان المعظم أعاده الله على الجميع بالخير والسرور والأمن والأمان".
لكن الساسة المحترفين يرتابون في هذا المطابقة المجازية بين الصيام والسياسة، فها هو نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني يرد على دعوة من هذا القبيل قائلا: "الصوم عن الكلام السياسي في الموضوع المتعلق بالشأن الحكومي، لا يعني إطلاقا صوما عن الكلام أو صمتا حيال القضايا المطلبية والمعيشية للبنانيين عشية شهر رمضان المبارك، وعلى أبواب العام الدراسي الجديد .. كما أن الصوم عن الكلام لا يعني عدم قول الحقيقة في موضوع الإمعان في حرمان المتضررين جراء الحروب العدوانية الإسرائيلية، بعدم إعطائهم حقوقهم في التعويض عن الأضرار التي لحقت بمنازلهم، ومصادر رزقهم".

وهناك مجاز مقابل أو مضاد يحول "الصوم" إلى استراتيجية سياسية، أو على الأقل "تكتيك" سياسي، بمنحه معاني جديدة تربطه بالنضال في سبيل العدل والحرية، أو بجعله التصرف المقابل للتنافس والصراع السياسي الضاري الذي يظهر فيه السياسيون، كل أوجه البطر والرخاء والرفاهية التي ينظمها مرشحو الانتخابات مثلا، بغية الفوز، بشراء الأتباع والمناصرين والمؤلفة بطونهم. وهنا يرى د. حميد شهاب، أنه إذا كان الصوم من الناحية الفيسيولوجية والنفسية نوعا من التنظيف والتنقية، وبالتالي تجديد الجسم والروح وإعطائهما دفعة حيوية ونشاط للاستمرار، فإننا نجد الميكانيزم نفسه في الصوم السياسي، أي الإضراب عن الطعام.

وقد عرفت التجارب السياسية للأمم توظيف الصوم في النضال، فقد نظمت بعض الولايات الأمريكية صوما في معارك الاستقلال ابتداء من عام 1775، كان لها تأثير قوي على سلطة الاحتلال الإنجليزي، وصام المدافعون عن حق الانتخاب للمرأة في إنجلترا عام 1905.

ويبقى المثل الأشهر هو ما اتبعه المهاتما غاندي ابتداء من عام 1904 في نضاله بالصوم والزهد ضد الإنجليز أيضا. وفي هذه الحالات الثلاث تحول ضعف الصوم إلى قوة روحية ونفسية عارمة، فكلما شعر الإنسان بنفسه ضعيفا نفسيا، كلما طور ميكانيزمات داخلية تمكنه من تحميس وتنشيط ذاته، تماما كما يقوم بذلك الصائم عندما يشعر بالجوع والعطش ويقوي نفسه من الداخل إما بفرحته لمائدة الفطور أو سروره بأنه يؤدي واجبا دينيا أو توحدا روحيا بالله. 
وعند أصحاب هذا الاتجاه فإن الصيام ليس تعذيباً للنفس بل إعلاناً لولادة الإرادة ضد الغريزة، وقد يصوم الإنسان مختاراً متضامناً مع الجياع في وضع مناقض جدا لمواضعات الغريزة، وفي نقطة الصوم تلتحم الفلسفة مع الدين والسياسة مع البيولوجيا، وتتحول علة الصوم، وهي التقوى، إلى تحفيز أو تحريض لآليات الضبط الذاتي.