الهروب الياباني الكبير

ذات مصر

مر أرخبيل اليابان على ممر تاريخه بفترات انعزالية وشبه مفتوحة وتوسعية. وكانت صناعة الفخار ذي الزخرفة الحبلية هي الصناعة الأولى في الألفية الأولى ما قبل الميلاد، هذا بجانب الفترات التاريخية الكلاسيكية التي مرت على اليابان، وهي «فترة أسوكا» واعتناق الدين البوذي، وانتقاله إلى اليابان من مملكة باكتشي الكورية، لذلك نجد أن تاريخ الحضارة اليابانية مسرحية لم تكتمل بعد، فصلها الأول هو اليابان البوذية الكلاسيكية التي دخلتها المدنية فجأة على أيدي الصين وكوريا، والتي هذبها الدين وصقلها؛ والفصل الثاني من المسرحية هو اليابان الإقطاعية الآمنة التي اعتزلت العالم، لا تريد لنفسها شيئاً من اتساع الرقعة، ولا تنشد تبادلاً تجارياً مع الخارج، قانعة بالزراعة، منصرفة إلى الفن والفلسفة؛ أما الفصل الثالث فهو اليابان الحديثة التي كشف عنها الستار أسطول أميركي سنة 1853، والتي اضطرتها العوامل الداخلية والخارجية إلى أن تضرب بسهام في التجارة والصناعة، وأن تبحث عن خامات من الخارج، وتقاتل قتالاً مستميتاً في سبيل التوسع، محاكية في ذلك بلاد الغرب في نزعتها الاستعمارية، مهددة بذلك سيادة الجنس الأبيض وسلام العالم وقتها.

ولكن لا بد من أن أتوقف أمام العادات اليابانية، وهي كثيرة، شكلتها مراحل تاريخية مختلفة مرت على أرخبيل اليابان، فاليابانيون كالصينيين والفرنسيين، يعتبرون إجادة الطهي علامة جوهرية للحضارة اليابانية، حتى صارت آداب المائدة عندهم تعادل أهمية الدين، حتى أنهم اعتبروا شراب «الساكي» الشهير هو الحل الوحيد لحل المشكلات الاجتماعية، والذي يشبه عندنا شاي دوار العمدة في الصعيد.

حتى جاءت الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تكسرت على أبوابها ونزاعاتها العسكرية طموحات الشعب الياباني الذي كان إضافة قوية ومهمة لسكان المعمورة، عندما غزت المنتخبات اليابانية المطابخ والمنازل الأوروبية قبل العربية، وكان على أثرها أن صُنف الاقتصاد الياباني من أهم اقتصادات العالم في تسعينات القرن الماضي.

لذلك نجد نحو 77% من الشركات اليابانية العاملة في أوروبا قد تضررت بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، نتيجة لارتفاع تكاليف الطاقة والغذاء، ولهذا أسرعت الحكومة بدعم الاقتصاد الياباني بـ206 مليارات دولار، لمواجهة انخفاض الين الياباني وارتفاع سعر الواردات.

ولكن تبقى الآثار الاجتماعية للحرب هي الأعنف على الشعب الياباني، ومنها حدوث هجرة جماعية للشباب الياباني، بعد فشل محاولات الحكومة اليابانية امتصاص صدامات الحرب الروسية الأوكرانية.

حسبما أكدت المصادر الخارجية واليابانية، فقد وقع اختيار الشباب الياباني على الهجرة إلى كندا وأستراليا، نظراً لارتفاع رواتبهم ثلاثة أضعاف عما يحصلون عليه في اليابان، هذا بجانب أسباب اجتماعية لا بد من رفع النقاب عنها، تتعلق بطبيعة الحياة داخل اليابان، وهي أن الشاب الياباني العامل ملزم بدفع رواتب ثلاثة من المتقاعدين أصحاب المعاشات، هذا بجانب أن فكرة استقبال اليابان عمالة أجنبية فكرة فاشلة؛ نظراً للطبيعة الاجتماعية اليابانية التي تختلف عن العالم، بالإضافة إلى أن الشباب الياباني ضعيف الإنجاب. 

وهنا يبقى السؤال: هل ستندثر الحضارة اليابانية العظيمة بعد خمسين عاماً من الآن؟ في ظل هجرة يابانية أوجدتها الحرب الروسية الأوكرانية؟