وائل الخطيب يكتب: «أداجيو».. إبراهيم عبد المجيد ومعزوفة السرد

ذات مصر

من المرات القليلة التي تصادفني في رواية فكرة (التماهي) بين المكان وبين الشخصيات الدرامية.

في رواية (أداجيو) للروائي الكبير (إبراهيم عبد المجيد) يبدو هذا التماهي واضحا جليا من الصفحات الأولى في الرواية، تماهي بين تفاصيل المكان وبين شخصيات المشهد السردي، بين (الإسعاف والمسعفين وحالة المكان، حي العجمي، وفي الخلفية الإسكندرية بوجه عام المدينة التاريخية الساحرة التي ينتمي لها الكاتب وحزنه عليها وعلى حالها في تغريداته على منصات التواصل.

* سائق الإسعاف من القاهرة كما تقول الشخصية عن نفسها، هو زائر للمكان وإن كان في مهمة عمل، وهكذا يكون الحزن أشد لأن الحكي عن حالة المكان يأتي على لسان هذا (الغريب) وكما لو أن ساكني حي العجمي اكتفوا بهجرهم له ولم يحاولوا إصلاحه أو ترميمه.

*لجأ الكاتب على لسان الراوي إلى حشد تفاصيل المكان - المريض - (طرق متربة، مطبات، فلل مهجورة، شوارع لا تتسع لأربعة أمتار، ملتوية ... الخ) ص5 و ص 6.

*من المفارقات في بداية الرواية هو ذلك الشعور الذي يغزو القارئ المتمرس بأن الموت ينبع من المكان وتفاصيله (الخارجية وحالته)، في مقابل الشعور بأن الحياة تنبع من تفاصيل أخرى موجودة في ذات المكان، لكنها مرتبطة بالإنسان والطير. العصفور الذي ينقر في طحالب سور المبنى والهدد ثم الإنسان (سامر) صاحب الفيلا، الزوج المكلوم بمرض زوجته العضال.

تنبع الحياة من عند (سامر) صاحب مصنع أو ورشة كبيرة تنتج إبداعا من نوع ما، تنتج فناً، ثم صور الفنانين والمبدعين وأسماءهم وأخيرا الصور التي تحمل الذكريات الجميلة.

"مئات الصور حوله الآن من كل الدنيا. كلها تتحرك. إنها تخرج من الصورة وتمشي أمامه" ص13.

من هنا وبالتحديد من كلمة (الصورة) في المقتبس السابق، يشعر القارئ المتمرس أن هناك خلفية Back Ground في الصورة السردية .. تفاصيل غير مرئية، يبوح بها لسان الراوي، دون أن يصرح بتفاصيلها، تستدعي التساؤل النقدي، لماذا هذه الكلمة؟ لماذا هذا البوح؟

"مصري؟ أجل. يهتف الشاب المغربي الفقير الذي يتوسط الفرقة الموسيقية الشعبية حين يراهما أمامه. يعزف لهما ويغني (كتاب حياتي يا عين ما شفت زيه كتاب. الفرح فيه ساعتين والباقي كله عذاب) يرتبك. لكنها تضحك. يضحك. هي التي طلبت منه أن يأتي بها إلى طنجة." ص13.

*خلفية الصورة هنا تبدأ من كلمة (الفقير)،التي لو تم حذفها لما فقدت الصورة السردية أيا من قيمتها الفنية، وهنا التساؤل النقدي، لماذا هذه الكلمة؟. وقبل هذا تساؤل آخر عن أن هذا المغني استطاع تمييز جنسية (سامر) - مصري - دون أن يتحدث (سامر) فيعرفه على الأقل من لهجته. ثم من بين مئات الأغاني الشعبية اختار الراوي أغنية بعينها (كتاب حياتي) ليغنيها ويعزف لحنها لتبدو انعكاسا في مرآة عن حالة (سامر) النفسية بسبب مرض زوجته. ثم هذا الاختيار لمدينة (طنجة) وهي مدينة مغربية ساحلية تتماهى مع (الإسكندرية) معشوقة الكاتب لكن بسحر مختلف.

وهذا يعيدنا إلى حشد صور المبدعين وأسماء الفنانين في بداية دخولنا مع الراوي للفيلا لنتأكد أن هذا ما هو إلا انعكاس آخر للإسكندرية التي يراها الكاتب موئلا للفنون والثقافة، وعاش جزءا من تاريخها الفني وفتنته بما لم يعشه من تاريخها. هذا الاتصال الذي تمنته زوجة (سامر) بين الإسكندرية وطنجة وهو ما لم يبح به الراوي صراحة:

"قالت له: أريد أن أقف على المحيط الأطلنطي وهو يتصل بالبحر المتوسط. أريد أن أكون بين عالمين قبل أن أموت. لن تموتي يا حبيبتي." ص14.

هذه الزوجة المريضة بمرض عضال كانت سببا وراء كل هذه الرحلات إلى الرباط وروما وفرانكفورت والنمسا وباريس وموسكو، ومن الممكن إيجاد رابط بين هذه الأمكنة أو المدن التي ترتبط إلى حد كبير جدا بنوع ما من الفنون، موسيقى ومسرح وفن تشكيلي..الخ، لتكون خلفية الصورة السردية هنا من خلال الزوجة عامرة بالفن والجمال.

إلى الصفحة الخامسة عشر ولم يعرف القارئ عن زوجة (سامر) اسمها، ولم يعرف ما إذا كانا أنجبا أم لا. لذلك يبدو أن سببا ما جعل الكاتب يستدعى من الذاكرة مشهد (محل الأسماك) في مدينة الرباط المغربية، هذا الاستدعاء الذي يظهر وكأنه انحراف درامي هادئ، وبتقنية سرد مختلفة، لأن الكاتب ارتأى أن تكون قصة صاحب محل الأسماك على لسانه - صاحب المحل - وليس بواسطة الراوي. هذا المشهد وإن ارتآه القارئ غريبا في سياق التنامي الدرامي للرواية، إلا أنه يقع ضمن تقنية الـ Background للصورة الروائية التي يعتمدها الكاتب أسلوبا لبناء روايته، هذه الخلفية التي تخبر القارئ بأشياء لازال يجهلها بدون أن يرويها الراوي، فالمشهد ينتهي بأن تناول الطعام في هذا المطعم له سر يتعلق بالخصوبة، فهل نكتشف بعدها أن (سامر) وزوجته - المجهولة الاسم للآن - لم ينجبا رغم أنهما زارا هذا المطعم وتناولا الطعام به مرتين؟

فعلى لسان صاحب المطعم :

"قررت بعدها أن أقلع عن السرقة، وأفتح مطعماً للسمك. النساء اللاتي يأكلن هنا يعرفن أن في المكان سر الخصوبة" ص14.

وبنهاية المشهد، يتدخل الراوي ليضيف إلى المكان مشاعره تجاهه، فالزوجة لم تأتها نوبة الصرع طوال وجودهما في الرباط، لتبدو الخلفية غامضة بعلاقة خفية بين الرباط وبين أكل السمك وبين صاحب المطعم وبين أدوات الأكل الخشبية والتفاصيل المنتمية للطبيعة. كل هذا يفسره الراوي لنفسه ولقارئه سببا لغياب نوبات الصرع، ولهذا كان من الطبيعي أن ينتقل كل هذا السحر وكل هذا الغموض مع انتقال (سامر) وزوجته للعاصمة الفرنسية باريس، ليربط الراوي دون إفصاح بين سحر الرباط وبين سحر آخر سيأتي في باريس، فكان طبيعيا أن نتعرف أكثر بالزوجة الفنانة الموسيقية وعملها في دار الأوبرا، سحر الموسيقى وعنفوان تأثير اسم المكان (دار الأوبرا). هنا يقف القارئ على دلالات اختيار اسم (سامر) وما يوحيه الاسم من عشق للحكي والسمر واللعب والبهجة والاستماع للموسيقى والحكايات الشعبية بل والمسرح أيضا، فإن كل ذلك ينضاف إليه فجأة  تفاصيل خاصة بالزوجة  فهي ليست المحبة فقط للموسيقى والفن ولا هي فقط عازفة للبيانو، بل تعمل أيضا في دار الأوبرا، وبمشهد مشابه في استدعائه لمشهد محل السمك، يكشف الراوي عن اسم الزوجة،(ريم) ولكن هذه المرة في صورة أو بتقنية حوار بين (غادة) عازفة البيانو التي حلت محل زوجة (سامر) في العمل، لتتأكد فكرة الخلفية التي لا تفصح ولا تبوح ولكنها تقوم بعملية ربط درامي غير مرئي بين الفجوات السردية في الحكاية.

هل يمكن اعتبار اختلاف تقديم الشخصيات الدرامية للقارئ تقنية سرد في هذه الرواية على الأقل للكاتب؟

لقد تم تقديم شخصيتين للقارئ هما (سامر) - الزوج - و (غادة) - زميلة عمل زوجة (سامر)، تم تقديمهما على لسان الراوي، أما الزوجة (ريم) والإبنة (نور) فتم تقديمهما خلال حوار، الأولى - الزوجة - (ريم) تعرفنا عليها من خلال حوار بينها وبين زميلة العمل (غادة)، ثم في حوار بين الزوجة والإبنة، تعرفنا على اسم الإبنة (نور). إذن من خلال تقنيتي سرد مختلفتين يتعرف القارئ على أسماء الزوج والزميلة - على لسان الراوي - واسمي الزوجة والإبنة بتقنية الحوار.

ستظل فكرة تأكيد هذه الملاحظة أو نفيها قائمة حتى الانتهاء من القراءة لكل الرواية، ومعها فكرة دلالات الأسماء التي بدأت بـ (سامر)، كما سبق الإشارة لهذه الدلالات، ودلالة اسم الزوجة (ريم) والإبنة (نور)، هذه الدلالات ستظل محل مراقبة من القارئ المتمرس طوال التنامي الدرامي للرواية، وإن كان من المفيد هنا الإشارة إلى دلالة إسم (ريم). هذا الإسم الذي ينتمي إلى منطقة أو دائرة دلالات خاصة بشبه الجزيرة العربية، فالاسم له دلالات أسطورية تتعلق بفترة ما قبل الإسلام، ثم بما رواه الراوي عن الزوجة كثيرة السفر والارتحال لكنها دائما تعود إلى موطنها، فدلالات (ريم) الاسم تنسجم مع هذا ،أما (نور) فيكفي معرفة القارئ العادية بدلالات الاسم لكي تتوغل داخل هذا القارئ مشاعر خاصة تجاه الإبنة. فهل من المصادفة أن يرتبط الـ (سامر) بـ الـ (نور) خاصة أنها ابنة تعزف البيانو وأيضا تعرف أغنيات مصرية، فالأم تطلب من ابنتها عزف (كل ده كان ليه) للموسيقار محمد عبد الوهاب. إذن الإبنة باسمها ومهاراتها واهتماماتها تنتمي لهذا الـ (سامر) بكل دلالاته.

"تجلس ريم مكانها أمام البيانو. تبتسم:

- سأعزف كلاسيك. لا داعي للطرب العربي الذي يسيل دموعنا بسرعة هكذا." ص 17.

البيانو، حاضرا مع نغماته في مشهدين حتى الآن، حتى صفحة (18)،الأول حضر البيانو مع نغماته بتبادل عزف ثم بمشاركة العزف عليه بين الزوج والزوجة – سامر و ريم – ثم حضر البيانو في مشهد جمع بين الأم والإبنة – ريم و نور – تبادلا العزف على البيانو، وبينما في المشهد الأول الغامر بالرومانسية النمطية جاء المشهد الثاني بعد تعرض الأم (ريم) لنوبة صرع فتبادلا العزف، الإبنة بدأت – بطلب من الأم – عزف أغنية مصرية تنتمي للطرب العربي – هكذا وصفتها الأم – ثم تعزف الأم الموسيقى الكلاسيك.

تقنية السرد في المشهدين تشير إلى حرص الكاتب على لسان الراوي أو في الحوار على تقديم الأغنيات والمقطوعات الموسيقية للقارئ. صفحة (13) في المشهد الأول تسال الزوجة:

" ماذا تريد يا حبيبي أن أعزف الليلة؟

 ماتشائين لفرانز ليست. سوناتا أو كونشيرتو للبيانو."

هيا نرقص التارانتيلا، أعظم ما خرج به ليست من رحلة إيطاليا. سنوات الحج كما أسماها"

يحيطها من الخلف وهي جالسة إلى البيانو تضحك. يضع يده على صدره يمسك بيدها التي وضعتها على صدره من الخلف الآن وهو يجلس إلى البيانو يضحك!. يعزف بيد واحدة. يبتسم. ينزل بيده حزينا يساعد الأخرى في العزف".

ثم في المشهد الثاني، بين الأم (ريم) والابنة (غادة) أثناء تعرض الأم لنوبة صرع تكابد آلامها وتكابد إخفائها عن الابنة، ص (18) :

"تضحك ريم فتخرج نور على مهل. تعزف وتغني "كل ده كان ليه لما شفت عنيه" يصل صوتها الحلو إلى ريم التي ما تلبث أن ترتعش كثيرا وتكاد تتخبط في الحائط المجاور للسرير. تنتهي النوبة وتنظر حولها. عيناها مفتوحتان مرفوعتان إلى أعلى في دهشة تكفي الناس جميعا، في سؤال لا يعرفه أحد إلا هي. لابد أين كنت ومن أين عدت الآن؟ ما هذا الذي رأيته ولماذا هو ليس حولي الآن؟ وفي أي زمن عرفت ما حولي أو رأيته من قبل؟ وفمها مزموم كأنما لا تستطيع أن تفتحه.

شيئا فشيئا تنفتح شفتاها تشعر بالراحة فتتنفس قائلة: "الحمد لله" على مهل تنهض تمشي غير مرتكنة على شيء. صوت نور الجميل يردد "حن قلبي إليه وانشغلت عليه.كل ده كان ليه" تنزل دمعتان من عيني ريم التي تشعر بها نور فتترك لها البيانو"

سيكون القارئ على حق في حال شعر بهذا الرابط بين وجود الموسيقى وبين مكابدة الأم (ريم) لآلامها، بل وبين نفس الموسيقى وبين تجاوز الأم لنوبة الصرع، فتلجأ (ريم) الأم التي عاينت جانبا من الموت إلى الموسيقى لتجاوز بقية مشاعر الألم:

" ــ سأعزف كلاسيك. لا داعي للطرب العربي الذي يسيل دوعنا بسرعة هكذا."

وكما في المشهد الأول الذي بدأه الراوي بجملة (صوت الموسيقى يملأ الحجرة الواسعة بملائكة تضحك)، ينتهي أيضا مشهد حضور البيانو والموسيقى مع وجود هذا الرابط بين حضور الموسيقى وبين مقاومة المرض.ص18:

تعزف موسيقى"ضوء القمر" لديبوسي ثم "ضوء القمر" أيضا لبيتهوفن ثم "إلى إليز Fure Elise " أيضا لبيتهوفن فتمتليء الحجرة بالملائكة يسْبَحون.

ـ الله يا ماما.

تهتف نور وتحتضنها ومن الخلف تقبلها. وريم سعيدة بقدرتها على المقاومة. ليس للمرض. لكن للحسرة"

إن حضور الموسيقى في المشهدين، بهكذا سرد يضع للقارئ المتمرس قيودا على قراءته تجعله - القارئ – مضطرا للعودة في صفحات الرواية للخلف لكي يلحظ الفارق بينهما، فالمشهد الأول تحضر فيه موسيقى (فرانز ليست) بحضور الزوج ومزاجه الموسيقي، أما في الثاني فيحضر (ديبوسي) و (بيتهوفن) بحضور الإبنة التي تلحظ آلام أمها والأم التي كابدت آلام النوبة، وكلٌّ لهم نفس التأثير عند الذات الساردة فقط؛(تمتلئ الحجرة بالملائكة يسبحون).

تعمد الذات الساردة على فرض سيطرتها على القارئ فتجعله مثلا يتساءل عن سر مفتتح الجملة التي بدأت بها الفقرة التي تلي المشهد الموسيقي الثاني:

" كل ذلك كان يعرفه ويشعر به في فيينا"

ماهية هذا (الكل) الذي كان يعرفه ليس ما دار من حديث أو عزف للموسيقى فهذا واقعيا لا يجوز ولا يتقبله منطق القارئ، لكن الذات الساردة قصدت أن هذا الكل هو قدرة زوجته على تجاوز النوبات المؤلمة، وربما معها قدرة الحضور الموسيقي مساعدا لها ولمن حولها، والأهم في هذا الكل هو قدرة (ريم) على مقاومة (الحسرة)، فتلجأ الذات الساردة في إحضار كل ما يستدعي للشعور بهذه "الحسرة" التي على (ريم) مقاومتها.

فمن بين آلاف الأماكن في العالم، تختار الذات الساردة (فيينا)،فالقارئ لازال تحت التأثير الموسيقي، وعلى الذات الساردة أن تمارس سطوتها عليه، فتجعله – القارئ – يستدعي لذاكرته (ليالي الأنس في فيينا) للمطربة أسمهان، هذا (الأنس) الذي غاب وتراجع مع أولا مرض الزوجة، ثم مع اكتشاف خطأ التشخيص.

"طال السفر كثيرا. سبعة أيام ويريد أن يعود إلى ريم التي خافت تلك المرة أن تسافر فتأتيها نوبة الصرع فتفسد عليه رحلته. فيينا جنة الموسيقى كيف يكون فوقها صرع. كادت تقول له ذلك. الصرع الذي لم تفلح الأدوية في إنهاء نوباته وتعرف أنها لن تنجح."

أما وأن الذات الساردة وضعت القارئ في هكذا عنفوان للمشاعر، فتبقى لها أن تحشد كل ما يجعل القارئ يشعر بتعاظم مشاعر (الحسرة)، ومن أجل ذلك يستغرق السرد مساحة كبيرة من الوصف والحكي ليعرض مشاهد للزوجة الفنانة عازفة البيانو، وخلال هذا الحكي يتم للمرة الثالثة استدعاء (الملائكة)،ولكن بشيء من الاختلاف مع بداية عزف (ريم):

"كانت ليلة مع القدر.أحس الحضور بأنهم يسبحون تحت السماء. الأوركسترا الألماني على خشبة المسرح الكبير وريم تجلس على البيانو تشاركهم. نادوا الملائكة تطير بين الحضور وهم يعزفون سوناتات وكونشيرتات وحركات مختلفة من سيمفونيات شهيرة."

هذ التقنية السردية التي تكافح في سبيل امتلاك القارئ عقلا ووجدانا، تعلم أن الاختفاء الدرامي للزوجة (ريم) بموتها يعني بكل بساطة انتهاء الحكاية، بعد أن قامت الذات الساردة بنقل هذه المشاعر نحو(ريم) الفنانة التي على وشك مفارقة زوج محب فنان هو الآخر ومتذوق للفن، ومفارقة ابنة فنانة أيضا، ورحلات للنزهة وللعمل، فبانتهاء كل هذا لا يبقى لاستكمال الحكي أي معنى.

لكن الذات الساردة لازالت تملك من تقنيات السرد ما يكفي ويزيد لفرض السيطرة على القارئ، لذلك تسعى في طريق نقل بؤرة السرد من (ريم) إلى (سامر) نفسه، وقد بدأت بالفعل منذ انتهاء مشهد (ريم) تعزف مع الأوركسترا الألماني والحضور الطاغي للبيانو والنغمات، والذي ينتهي بسقوط (ريم) الفنانة وبداية سقوط (ريم) الزوجة المريضة:

" ثم تسقط ريم على الأرض. تغلق الستار بسرعة والجمهور يقف صاخبا ينادي البعض باسمها وتنهمر الدموع من عيون النساء.

في المستشفى يجدون أن ورما استوحش في مخها وصار ستة سنتيمترات في خمسة سنتيمترات. لم يكن هناك صرع."

من هنا، من هذا السقوط يبدأ الصعود الدرامي للزوج (سامر) الذي سيواجه (هذا الذي استوحش في مخ زوجته)،مع اختفاء تام للإبنة (نور)، وهو اختفاء عبقري، فحضور الاسم – نور – سيأخذ من الصراع بين الزوج والورم، واختفائه. سيجعل أغلب المشاهد يغيب عنها هذا الـ (نور). فقد كان منطقيا لدى القارئ أن تحضر الإبنة في المشاهد التالية لترعى والدتها التي تحتاج لعناية خاصة يراها أغلب القراء منطقية، فالأم لازالت في الأربعينيات من عمرها ولكنها أصبحت أسيرة للمرض. لكن هذا الحضور سيسلب (سامر) – الزوج – كثيرا من سرديته وحكايته.

من هنا وبهذه السطوة الدرامية على القارئ يبدأ الجزء الذي يحمل رقم (3) وبداية مواجهة (سامر) أولا لمرض المكان (الفيلا) ثم لمواجهة احتياجات زوجة مريضة طريحة الفراش تنتابها نوبات إغماء تطول بعضها زمنيا، مع اختفاء الإبنة، لكنه كما حكى :

" ــ لا داعي لأي علاج. أيام معدودات وتفارق الدنيا.

     لكنه صمم أن يعالجها فقال الطبيب:

 ــ سنجرب عليها طريقة جديدة لكن لن يكون النجاح مضمونا.

 ــ ليكن.

قال ذلك في عزم."

لقد استطاعت الذات الساردة بتقنيات سردية مختلفة متداخلة أحيانا وكاشفة عن نفسها أحيانا أخرى أن تختبر قارئ الرواية وتنقله بين مستويات متعددة من المشاعر والأحاسيس، كما لو أنها ــ الرواية ــ تحولت إلى حركات موسيقية فتبدو كمعزوفة سردية تقتحم قلب القارئ وعقله.