في محبة شاعر كبير

الشهاوي شاعر البوح والتصوف.. حسام جايل

ذات مصر

حين نتكلم أو نكتب عن محمد الشهاوي لا نملك إلا نقول: إنه الشاعر الباحث عن الحب والتصوف والجمال، صاحب المرأة الاستثناء، وما هي إلا الصورة الاستثناء والمعنى الاستثناء والعبارة الاستثناء.. ومن ثم صار هو الشاعر الاستثناء.

نعم الشاعر الاستثناء في بساطة العبارة والمحافظة على الإيقاع الخليلي مع موسيقى شهاوية خالصة.

كيف أنساه وفد كنا ندعوه في تسعينيات القرن الماضي في دار العلوم وكنت مقررا لجماعة الشعر بها مع أستاذي وأخي وصديقي الدكتور أحمد عفيفي الذي كان مشرفا على النشاط الثقافي.

إنه الشهاوي شاعر متفرد في سمته وشعره وإلقائه؛ فحين تراه يلقي الشعر تشعر أنه يراقص الكلمات أو يطبطب عليها وتماهيان معا؛ إنه الشاعر الذي أخلص للشعر، ولأن الشعر ذو طبيعة ملكية فقد امتلك الشهاوي فامتلكه الشهاوي وأوصد كل الأبواب إلا باب الشعر؛ فكتب إلى مسافرة وتعددت دواوينه فهي: 

  • ثورة الشعر 1962م
  • قلت للشعر 1972م
  • مسافر في الطوفان 1985م
  • زهرة اللوتس ترفض أن تهاجر 1992م
  • إشراقات التوحد 2000م
  • أقاليم اللهب ومرايا القلب الأخضر 2001م
  • مكابدات المغني والوتر 2003م
  • قصائد مختارة " إصدارات دائرة الثقافة والإعلام – حكومة الشارقة 2005"
  • "المصطفيات" مختارات من عيون الشعر العربي 2012م
  • "الحب والسلام " ديوان شعر للأطفال – عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2013م

وقد تمت طباعة الأعمال الشعرية الكاملة في أربعة أجزاء عن الهيئة العامة لقصور الثقافة يونيو 2013م

 وهنا في عجالة لا نستطيع أن نوفي الرجل حقه ولكن نشير إشارات بسيطة وننثر كلمات المحبة وورود التقدير لجيل من الشعراء منهم محمد أبو إبراهيم أبو سنة وفؤاد طمان وحامد طاهر وآخرين، وليكن الشهاوي هو وردة الشعر في هذه الإطلالة.

فجميل أن نجد عند الشهاوي حكمة زهير ودقة الحطيئة وصوفية ابن الفارض ولكن الأجمل أن نجد عند الشهاوي الشهاوي نفسه؛ فهو رجل يختار القوافي العصية مثل: عطشا وغبشا وفشا ونشا من الشين وغيرها كالصاد والسين.

إنه شاعر مسافر في الطوفان: أي طوفان الشعر يتقلب مع أبحره وقوافيه ويرقص على موسيقاه؛ لذلك فهو شاعر وجداني بامتياز واقتدا، أو رومانسي واقعي وليس رومانسيا حالما؛ يهب الشعر روحه وعمره فمن لم يمت بالشعر مات بغيره فلم يستطع مفارقته يوما:

يا أ أحبابي

عندما سافرتمو

لم تتركوا قلبي لماذا.

لماذا؟

لماذا

عندما سافرتمو

لم تتركوا لي 

غير قائمة الجراح

بيروت جرح

والأسى جرح

وعصر يقتل الشعراءَ جرحٌ

وارتحال أحبتي جرح

إنني ما عدتُ أحتمل

الجراحْ

للصمت طعم الموت 

قلت لصاحبي

فأجابني

والبوح عصفور تطارده 

البنادق

قلت

يا..

من لم يمت بالشعر مات بغيره

فاشتاط غيظا

ولأنه وجداني كبير؛ فهو إنسان أكبر ممتلئ حزنا، وراصدا لآفات المدن ضجر بها ومنها، عائذ منها فقد خاب أمله في الأصدقاء والأولياء:

هنا القاهر

سلام على الأصدقاءْ 

هنا القاهرة

سلام على الأولياءْ

هنا القاهرة

هنا القاهرة

وليس لمثلك الرجوع

فما أنت غانية تستثير لعاب الرجال

ولا أنت شاعر كافور حتى تعود بنقد الدواء

هنا القاهرة

شوارع مزدانة بالصور

ومليون سيارة تنهب الأرض

ولا تحتفي بالبشر

إذن فلأعد

لكني أتفقد حال الولد

ولكنه الموت واللحظة الغادرة

هنا القاهر

هنا القاهرة

  وجرحان في القلب والذاكرة

إنه يخادعنا شعريا؛ فإذا قال إنه يقرأ بردية الأسرار وجدناه بعد قراءة متأنية ناقدة؛ وجدناه كاتب البردية وليس قارئها، وصاحب الرحلة صانعا أو صاعدا بنا معراجه الشعري،  ومن قبل مسافرا بنا مجنحا في إسرائه وكشفه وتساؤلاته:

من أنت يا طيفًا يجيء إليّ
عبر جوانح الظُّلَم
متسلقًا أسوار صمتى..
يستلُّنى من غِمد صومعتي
ويُركبنى بُراق الرحلة الكبرى؟
من أنت يا طمْث الحضور ونطفة التكوين؟
ها أنت تفتح فى دمائى قمقم التبيين
ها أنت تطعمنى الإباء
وكعكة الإصرار
وتبثّنى بردية الأسرار
ها أنت تطلق فى شراييني
خيل الجموح عوالك اللّجُم
من أنت يا طيفا يجيء إليّ
عبر جوانح الظلم

إنه يتلقى ألواح الشعر ويكتب أسفار تجربة روحية حزينة مترعة بالفقد، في مواقف  تجربة مغلفة بالتخلي والحلول والكشف الشعري:

أوقفتنى فى أول الصف
وملأتنى بالنور
من بعد ما ضمَّختنى بالورد والكافور
وأخذت من كَمّى لكيفي
أوقفتنى فى العروة الوثقى
وجعلتَ لى جبل المدى مَرْقَى
أوقفتنى فى ساحة الإفضاء
وأريتنى السر المخبأ
أسريت بي
حتى رأيت المنتهى والمنشأ
وفتحت لى سِفْر الرموز ومعجم الدهشة
وهمست فى أذنى: انطلق
واصدع
ونبّئ
نبئ بما يُفضى إليك فأنت..
مَن ليراعه بشئوننا نُفضي
واصعد جبال البوح حين تعود للأرض
إن قيل:
مسكين
فإن المجد لا يُشرى
أو قيل:
مجنون
فنحن بحال من نختاره أدرى.

ألم أخبركم بأنه مخادع فني كبير، محب عظيم للخير.

فها هو الشهاوي الباحث عن لغة جديدة، وعروض جديد ينتميان إليه لتصبح قصيدته شهاوية باقتدار تتغنى بها المزامير في مواقف التوق والسهد والعشق والوجد والشدو والشجو، وتصبح قصيدته لا يشابهها غيرها إن أردت التمثيلا:

 

لينهمرِ الشعرُ بالأغنيات الجديدة بين يديها

طويلاً..

طويلا.

ألا..

وليؤسس (على قدرها)

لغةً

وعروضًا جديدينِ

يستحدثانِ مقاييس أخرى..

وذائقة..

وعقولا.

هى امرأةٌ تشبه الشمسَ..

إلا أفولا.

على شاطئ الألق المترقرقِ..

مفعمةً بلهيب الوضاءةِ،

مترعةً بأريج الأنوثة..

تُسلم أعضاءَها ليد السحر،

ترسم فى جسمها الغضِّ..

أحلى الأساطيرِ.

ماذا يقول لسان المزاميرِ عنها

إذا ما أراد لنا أن يقولا؟

إنه ذلك الدرويش المتأمل المخاطر مع البحر، الجرئ صاحب المحاورات، المؤمن بعواقب التجربة، والمحب للمغامرة:

أوقفني في البحر 

وقال لي: لا يسلم من ركب.

وقال لي: خاطرَ من ألقى بنفسه ولم يركب

وقال لي: في المخاطرة جزء من النجاة.

ولأنه مغامر مبدع أو مبدع مغامر فهو دائما في حضرة الليل:

الليل صاحبك الأثير

تتلاقيان على بساط البوح 

منفلتين للأبهى المغاير

تترسمان معا خطى المجهول

في فرح طفولي

يا أيها الولد/ العرابة

الشعر زادك والصبابة

إننا حين نتأمل شعره وأعماله سنجد المغامرة والشعر، أو المغامرة الشعرية بكل ما تحمله من أبعاد شخصية خاصة، وإنسانية عامة؛ فهو السندباد المتأمل ذاته المصاحب لها المسافر في أنحائها باحثا عنها حتى يعثر عليها ويصالحها على مجتمع مليئ بالآفات.

أتأبطني

وأسافر في أنحائي فلكا يمخر كل مدى

أتقلد سيف تحدى وأرحل عبر أقاليمي بلدا بلدا

لا ألو- بحثا عني- سفرا في كل جهات خفاياي 

وتحوم خلاياي أبدا أبدا

لذلك فهو المتحد بالأرض رافضا أن يكونا اثنين، وهو المسافر أبدا المتماهي مع المعري والبياتي وخليل حاوي وفيروز وآخرين- صاحب الخلوات واللذات الشعرية- حلاج الشعر وصوفيه المطرب شجي الصوت المتوحد في بهو ولايته المشتعل على جهات غرابيته.

ولعل هذه بداية لإطلالة أكبر وسياحة كبرى في عالم الشهاوي الاستثنائي.