إبداعات ذات مصر

البريء.. قصة قصيرة.. محمد أبو العينين

محمد أبو العينين
محمد أبو العينين

 تسللت في هدوء شديد لممارسة عملي المعتاد .... 

وجدته جالسا في حالة يرثى لها... حانقا على من حوله... وما حوله... ناقما على تلك الظروف التي تعترض دوما طريقه... وتحول بينه وبين إدراك اسباب النجاح..
عندما نظرت إليه هذه المرة لا أعلم لماذا انتابني الشعور أنه لن يفشل تلك المرة ولن يجعلني اجر اذيال الخيبة التي طالما احسست بآلامها في محاولاتي الدؤوبة معه التي باءت بالفشل معه مرارا... بسبب تلك الذريعة التي يتذرع بها الضعاف أمثاله... الضمير... تلك الكلمة التي طالما ازعجتني وارقتني مع ذلك الصنف من البشر وإن قررت ألا اتدخل ككل مرة بعد أن اعيتني كل الحيل معه وأن اكتفي بدور المتابع من بعيد . 
رن جرس الهاتف فانتفض إثره وانتزعه من خياله الجامح... ما ان تناول سماعة الهاتف بيده المرتعشة... ورد على المتصل بكلمات مقتضبة... حتى أدركت أنني في سبيلي لإدراك الهدف دون أدنى تدخل مني!

ما ان وضع سماعة الهاتف... حتى وقف ساهما شاخصا ببصره إلى حتى شككت انه يراني... اخذ نفسا عميقا يلملم به اشلاء افكاره المبعثرة... اخذت اتفحصه محاولا إدراك ما يدور في رأسه... حتى اقوم بدوري واعينه فيما هو مقدم عليه... فتسللت وراءه مثيرا جوا خانقا حوله... مد يده على اثرها مخففا من احكام ربطة عنقه... واخرج منديلا من القماش جفف به عرقه المتصبب على جبهته 

 

تناول ملفا موضوعا على مكتبه وغادر الغرفة وأنا وراءه كظل لا يفارقه... تجاوز الردهة الفاصلة إلى غرفة طرق بابها ثم ادار المقبض ودخل في هدوء يتناقض مع ما يدور في رأسه من افكار وما ينتابه من تقلصات تنتاب جسده... وقلب يدق بعنف 

استقبله الجالس على رأس المكتب المواجه لباب الغرفة ... مكتظ الوجه... يرتدي ثيابا فاخرة ويضع عطرا تفوح رائحته في ارجاء الغرفة... بود وترحاب مصطنعين لم يعتدهما منه... مما اثار المزيد من توتره... 

 

- أهلا أهلا... فينك يا راجل... مبتجيش تشرب معايا القهوة ونقعد شوية ليه؟ 

- معلش بقي يا أفندم.. انا عارف ان حضرتك دايما مشغول... كان الله في عون سيادتك... 

- يا ريت كل الناس عندها تقديرك ده يا محترم... الواحد بيدخل من باب الوزارة من صباحية ربنا ومبيخرجش منه والله غير اخر الليل... واهو كله عشان الناس.. مش الحديث بيقول " ان لله عبادا خلقهم لحوائج الناس "... مش كده والا ايه!؟ 

- طبعا طبعا يا أفندم... ربنا يكرمك ويدي سيادتك على قد تعبك... ونيتك 

خلتني اري وجهه ممتقعا وهو يتمتم بكلمات يرد بها لم أتبينها... واحسست وكأنه تلقي لطمة يحاول أن يلملم شتات نفسه إثرها...

- طيب نتكلم في الشغل بقي... جبت الملف المطلوب؟ 

أشار بالإيجاب مناولا إياه ملفا به بعض الأوراق... تناولها منه ثم نظر إلى الأوراق الموضوعة فيه...  ثم استدرك قائلا رافعا حاجبيه... 

- امال فين امضاءك يا راجل يا طيب... هو مش سكرتير مكتبي فهمك المطلوب؟ 

- رد بارتباك رغم مؤازرتي له وتذكيره بأنه الآن في الموقف الأقوى ... اه يا أفندم فهمني... وفهمني اني هامضي هنا على صحة الأوراق في مكتب حضرتك 

- قهقه الرجل ضاحكا... ده انت طلعت حويط اوي... انت مش مستأمني والا ايه؟ 

- العفو يا أفندم ... بس انا التزمت باللي اتقالي سيادتك 

- مفهوم مفهوم

ووضع يده في جيب سترته الداخلي مخرجا مظروفا متخما بالنقود وناولها اياه... 

 

- اتفضل... دي حاجة بسيطة كده مقابل مجهودك في الشغل... انا عارف انك موظف كفء بس انت عارف الجهاز الإداري للدولة بقي... مثقل بالاعباء... ودي حاجة بنحاول بيها نعوض شوية من حقك يا راجل طيب 

- شكرا سيادتك

- ما تبطل سيادتك دي بقي... ده احنا دفعة واحدة يا راجل وداخلين الوزارة سوا... صحيح انك كنت محبكها حبتين وبتعز الروتين واللوائح... بس كويس انك عرفت الصح واحنا بنفتح صفحة جديدة اهو.... وننسي بقي اللي فات... وبعدين اللي حصل بيننا زمان خلاص بقي... كان عناد شباب... مش كده والا ايه... وربنا يعينك على الحياة الصعبة اللي احنا فيها؟ 

- كده طبعا ... كان الله في العون... استأذنك بقي عشان ماعطلش سيادتك. 

 

خرج متوجها إلى خارج مبني الوزارة وهو يتحسس جيوبه إلى منزله مباشرة وأنا أتابعه...

شعرت زوجته فيه بتغيير.. حارت في سببه ... فلم يفتح التلفاز على البرامج الحوارية كعادته التي يبث فيها جام غضبه على الفساد والفسدة وأحوال البلاد والعباد ... بل اخذ يشاهد قنوات الأفلام على غير عادته... لم يتبادل الحديث كعادته معها او مع اولاده... 

واقعها ليلتها كما لم يواقعها من سنين... 

وللمرة الاولي يسمع فيها الآذان ولا يبادر إلى الذهاب للمسجد... بادرته قائلة... مالك النهاردة... فيك ايه متغير مش عادتك؟ 

- مالي.. انا زي البمب اهو بس مكسل شوية ... وبعدين سبحان الذي يغير ولا يتغير... بس زهقت من الكلام على البلد وأحوالها... وبيني وبينك احنا لازم نتغير ونرضي... مش كده والا ايه؟ 

- كده يا أخويا... ربنا يرزقك الرضا... ونفسيتك تبقي كويسة... وضميرك مرتاح.

- يا رب... قالها في خفوت وهو يشيح بوجهه بعيدا عن الاية القرآنية المعلقة على الحائط... 

خرجت من بيته بلا رجعة... وعلي وجهي ابتسامة الرضا... والنجاح...