الخطاب الدينى.. تجديد لا تغيير.. د. خالد البوهي

ذات مصر

(١) لا شك فى أن الدين يمثل ركنا مهما من أركان الهوية المصرية، ولا شك فى أنه يشكل بحضوره فى العقلية الجماعية جزءا من مقومات بناء الإنسان المصرى. ويستطيع الدارس للشأن المصرى أن يلحظ منزلة الدين فى قلوب المصريين؛ فهو إرث تاريخى، وحاضر وجدانى، ورسوخ روحى جعل من مصر قبلة ثانية للإسلام والمسلمين، بما للأزهر من مكانة محورية مثلت جزءا من قوة مصر الناعمة لو أحسنا استغلالها. ويستطيع الدارس أيضا أن يلحظ اختلاط الدينى الإلهى بالدنيوى الحياتى، بحيث صارت عادات المصريين ممتزجة بتشريعات دينهم، فاكتسبت قدسية دينية مكذوبة، لتصبح محاولات تقويم سلوكهم الدنيوى بتعديل عاداتهم الشائنة ضربا من محاربة الدين نفسه، مما سبب للمصلحين حرجا بالغا. ولن ننسى الأثر السىء لخلجنة الدين وسلفنته بعد نزوح عدد كبير من المصريين إلى دول البترودولار فترات طويلة، لينشأ أبناؤهم فى ظل عادات صحراوية مختلطة بالدين، ويعود الأبناء بعد ذلك وقد اختلط حابلهم بنابلهم، بفقدان أفكار الإصلاح النبيلة أو اهتزاز صورتها، وفى مقدمتها مواطنتهم ووحدتهم الوطنية. ولن ننسى الأثر السىء لتيار الإسلام السياسى، الذى حمل الدين مسئوليات صعبة وضعته فى امتحان مرير، بعد أن جعل ممثلوه من أنفسهم المتحدث الحصرى عن الدين، فأساؤوا إليه بهذا التوصيف، لأنهم وضعوه فى موضع المساءلة.
(٢) إذا أردت أن تجدد شيئا فلا بد أن تنطلق من مرتكزاته التى يعتمد عليها، أما إن انطلقت من مرتكزات مغايرة فهذا وإن كان من حقك الذى نسلم لك به، لكننا لن نجاريك أبدا فى كونك مجددا، لأن ما أنت عليه تغيير لا تجديد. على أن ديننا فى حاجة إلى مجددين مصلحين، لا مغيرين أو مبدلين. وهذا ما وجدناه فى الإمام محمد عبده الذى انطلق من داخل الصف لا من خارجه، لأنه يؤمن بحضارة الدين وصلاحيته الزمانية والمكانية بما فيه من عموم ومرونة، ولأنه قد علم أن خروجه من الصف لن يفيد الإصلاح بوجه من الوجوه. وهو ما فعله على عبد الرازق فى الإسلام وأصول الحكم، وخالد محمد خالد فى من هنا نبدأ، ود.فرج فودة الذى لوث الجهلاء اسمه تكفيرا وتشنيعا، برغم انطلاقه من مرتكزات الدين نفسه، يناقش ويفسر ويرجح ويسأل ويعترض، بعد يقينه أن المشكلة ليست فى الدين نفسه، وإنما فى فهم من أطروه، وجعلوه جامدا لا يعكس إلا وجهة نظر من جعلوه قميص عثمان! فلم يعبأ بسفاسف الأمور التى لا تقيم نقاشا ولا تخلق غاية إلا ما نجده فى نزاعات الميديا، وعلم أن القضية ليست فى الطعن فى حجية السنة الثابتة من أجل حديث ضعيف أو موضوع أو مقيد بسببه أو مما تركوا العمل به، لأن ما يجده فى السنة قد يجده فى آيات هى أشد وطأة على مجتمعنا لو فهمت على غير وجهها، كآية {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} فالأمر كله فى حسن الفهم، الذى جعله يستلهم من السنة والسيرة والتاريخ ما يرجح نبل غايته من إعلاء قيم التسامح وقبول الآخر.
(٣) وكما ترى فإن من الواجب على المجددين أن ينطلقوا من داخل الصف، بدلا من إيهامنا بخلاف ذلك. ولا يصح لهم أن ينشغلوا بمعارضة النصوص المشتبهة، وإنما عليهم أن يقدموا لنا تفسيرا أو تأويلا طبقا لمقتضيات اللغة وقواعد الدين العامة. وعليهم أن يحترموا الشعور العام فى أثناء مخالفتهم للموروث من كتابات التراث، التى لم يقل أهلها بعصمتهم، بل قالوا إن قولهم صواب يحتمل الخطأ، فلا يليق بنا أن نتهكم عليهم، أو أن نتجاوز الأدب فى مخالفتهم، لأن هذا من البلطجة الفكرية التى تفقدنا أرضية الإصلاح بتنفير مستهدفيه. وعليهم أن يركزوا فى الجانب العملى من الإصلاح، بدلا من تشتيت جهودهم فى الحديث عما تلاشى من قضايا كقضية الرقيق. وعليهم أن يحترموا غيبيات الدين، كإسراء النبى ومعراجه عند المسلمين، وقيامة المسيح عند المسيحيين، ومناقشة مثل ذلك لا يليق بالمصلحين الذين يخسرون أرضيتهم المشتركة بينهم وبين جمهورهم، لأنهم يضعون أنفسهم فى موضع الاتهام عندما ينكر بعضهم شيئا منها. إننى أؤمن أن الحديث الدائم عن سؤال القبر وعذابه لن يفيد قضية الإصلاح، بل يضرها، لأنه يجعل إنكار الغيبيات دلالة على الاستنارة، وفى هذا إساءة بالغة لفكرة الاستنارة والتجديد. وإذا كان ذلك كذلك، فلا بد أن نفرق بين غيبيات الدين وخرافاته التى تؤخر تقدم المجتمع، فاحترام الغيبيات لا ينفى محاربة الدجل والخرافة، ومن ذلك مسألة الركون إلى كرامات مشاهد الأولياء وأضرحتهم، بدلا من اللجوء إلى أسباب الدنيا.
(٤) وإن من أوجب الواجبات على المجددين أن يعلموا الناس أن التراث منتج بشرى، نحترم من كتبوه مع إيماننا بعدم عصمتهم التى لم يزعموها، ولنا أن نسائلهم ونراجع تفسيرهم للنصوص المقدسة الثابتة من القرآن والسنة. وعليهم أيضا أن يعلموا الناس أن قواعد الدين وأسسه ليست حكرا على الخواص، وسيفهمها آحاد الناس، كقوله تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى} وكقول النبى «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وأن غير ذلك من النصوص يحتاج إلى فهم دلالات اللغة وسبب نزولها وعلة حكمها وفهم حكمة التشريع العامة، وهو ما جعل عمر بن الخطاب يوقف سهم المؤلفة قلوبهم ويوقف حد السرقة فى عام الرمادة، وهذا يرشدنا إلى عدم التسرع فى الأحكام الشرعية أخذا بظاهر حديث لا نعلم صحته من ضعفه.
(٥) وعليهم أن يطبقوا عمليا قواعد المصلحة المرسلة والعرف والضرورة، مع مراعاتهم علل الأحكام وتغير أحوال الزمان والمكان. وعليهم أيضا أن يشيعوا وجوب فتح باب الاجتهاد كاملا، مع الحذر الدائم من القول بالإجماع، ومن سد الذرائع الذى ضيق على الناس حياتهم.
(٦) ولا بد من إعلاء قيمة المسئولية الفردية بعيدا عن سلطة الفقهاء التى قد ينجو المرء منها بتدليسه، ولصالح سلطة الضمير، لأننا لا نريد مجتمعا منافقا مداهنا لغيره فى تحليله وتحريمه. أنت وحدك من تحقق «لا ضرر ولا ضرار» التى قد يدلس فيها بعضنا برغم الفتاوى والتشريعات، التى لن تكون بديلا عن سلطة الضمير. ولك أن تنظر إلى هذه التعاليم النبوية التى تحتاجها ضمائرنا «إنما الأعمال بالنيات» «استفت قلبك» «الإثم ما حاك فى نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس» «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «الحلال بين والحرام بين» «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
وهذا هو التجديد الحقيقى؛ أن نرتفع بالدين بعيدا عن سلطة الفقهاء، مقيدين بسلطة ضمائرنا التى سيحاسبنا الله عليها.