حوار نادر وألبوم صور فريد

محمد حافظ رجب: وجودى خلقته الكتابة.. حوار: منير عتيبة

الطريق إليه مثل قصصه، وعر ومخوف، لكن المفاجأة تنتظرك دائما فى النهاية. أقرب مكان إلى البيت رقم 32 ش الشيخ إسماعيل بالمتراس.. هو صينية الورديان، تبعد عنه حوالى ربع ساعة مشيا أو بسيارة، يمكن أن تستغرق وقتا أطول بالسيارة، الصينية الواسعة على حوافها جرار بلدية "بلاليص" جميلة، لكنها مهملة، الترام يحوطها من كل جانب، رائحة سوق السمك القريبة تزكم الأنف، الزحام يجعل لا موطئ لقدم أو عجلة سيارة، من الصينية لابد أن يصحبك أحد، مرشد يعرف المنطقة جيدا، يسير بك فى شوارع متداخلة، تصل إلى ترعة النوبارية، ثم تصعد درجات سلم لرصيف مرتفع، لتدخل فى بيوت قديمة، قالوا لى إنه فى الدور الأول من بيت قديم يطل على ترعة النوبارية، السلالم عالية، مظلمة، كدت أنكفئ على وجهى عدة مرات، لا أرى جرسا على الباب، طرقت الباب بيد وجلة وأنا أفكر فى العودة.. هذا اللقاء كان يجب أن يحدث منذ سنوات لكننى أؤجله دائما، الصورة التى رسخت فى عقلى لمحمد حافظ رجب لا تشجعنى على لقياه، الثائر، الفوضوى، العصبى، الشتام، المهاجم لأى سبب، أو بلا سبب، صيحته الشهيرة، أو الصيحة التى نسبت إليه، نحن جيل بلا أساتذة، تؤطر هذه الصورة، عندما صدرت مجموعته القصصية "رقصات مرحة لبغال البلدية" كنت المسئول عن نشرها، لكننى احتفظت بها عدة أشهر دون قراءة، حتى أصدقاءه المتحمسين له أعطونى فكرة نفرتنى من قراءته، هو صعب جدا، لن يفهمه أحد بسهولة، أحيانا هو لا يفهم ما يكتبه، لكنه عبقرى ذكره معجم أكسفورد الأدبى كأهم مجدد فى القصة القصيرة العربية فى النصف الثانى من القرن العشرين. أخبرته أننى عندما تشجعت أخيرا وقرأت المجموعة استمتعت بها جدا، ولم تكن منغلقة بالقدر المأساوى الذى صوروه لى. 

 السيدة العجوز ذات الملامح الطيبة التى فتحت لى باب الشقة الوحيدة فى الدور الأول من البيت القديم المطل على ترعة النوبارية أخبرتنى أن شقة الأستاذ محمد حافظ فى الدور الثانى، من أولها معلومات خاطئة.. ربنا يستر!. واصلت طريقى فى ظلام السلالم، فى هذه المرة، وعلى ضوء شاشة الموبايل، كان يوجد زر جرس بجوار الباب، ضغطته، أضاء مصباح كهربائى أمام باب الشقة، سمعت أصواتا قادمة، فتحت لى الباب سيدة فى منتصف العمر، تضع بسرعة طرحتها على رأسها، حتى لا تتركنى مدة طويلة منتظراً، ابتسمت السيدة، شعرت بالراحة، تفضل، الحاج يتوضأ ليصلى المغرب ثم سيلتقى بك. دخلت؛ الشقة ثلاث حجرات وصالة صغيرة، حمام ومطبخ، عندما جلست فى حجرة الضيوف شعرت أننى انتقلت فجأة من العالم الخارجى الموجود به البيت إلى عالم آخر مستقل، أكثر هدوءً ورقيا وثقافة. شعرت بخطواته قادمة، شعرت بوجل، جاء وحده، شعره غير منسق بشكل كامل، ولحيته تأخذ راحتها على وجهه النحيل، ملابسه فضفاضه، وجسده أيضا تحتها نحيل، وهو مثلى أقرب إلى قصر القامة، لم تأت معه ابنته؛ معلومة أخرى خاطئة: ابنته ستكون معه طوال الوقت لأنها تقوم بعبء الحوار كله تقريبا ولا تتركه أبدا، جاءت معه ابتسامته العريضة، التى أظهرت بخلاف الأسنان غير الموجودة والأسنان البنية أو الصفراء، نفسا حصلت؛ تقريبا، على كل ما ترغبه من صفاء ومصالحة داخلية. رحب بى كصديق قديم، أخبرته عن الملف الذى يعده شاب أكيد لا تعرفه لكنه "مجنون بمحمد حافظ رجب" خصوصا أن أول بحث فى أول مؤتمر يشارك فيه كان عن محمد حافظ رجب، وقف، تركنى لحظات، عاد يحمل كتابا عليه تاريخ الطبع، 2002م، فتح صفحة يعرفها، كان مقال هيثم الحاج على عنه. معلومة ثالثة خاطئة: هو كثير النسيان ولا يركز!. أخبرته أننى حصلت منذ عامين على جائزة إحسان عبد القدوس عن قصة مستوحاة من فكرة قصته "البطل"، وأننى أهديت قصتى إلى "محمد حافظ رجب صاحب البطل"، فلامنى لأننى لم أحضر له نسخة منها، ولمت نفسى. أحضر لى بعض المجلات التى نشرت ملفات عنه أو أجرت حوارات، بعضها قرأتها من قبل، بعضها أراه لأول مرة، تركنى أتصفح وأقرأ ما أريد دون أن يقاطعنى. عندما أخبرته بقصة ترددى فى قراءة كتاب نشرته له، اتفقنا أنه مثل العقاد الذى لا يقرؤه الناس لأن البعض قال أنه صعب. بدأ يحدثنى عن نفسه، عن تجربته الحياتية، مغامراته وحكاياته وخلافاته. قاطعته لنتفق على إطار حوارنا، لا أريد حوارا به حكايات طريفة أو مثيرة قيلت من قبل فى حوارات أخرى، وإلا كنت أخذتها من هذه الحوارات، أريد حوارا عن الكتابة نفسها، كيف اكتشفها، وكيف كشفت ما بداخله، علاقته بالكلمة، بالشخصية التى يراها فى الواقع ويقرر تحويلها إلى شخصية فى قصة، ما الذى مثلته له الكتابة طوال تاريخة، فى محراب الكتابة، والكتابة فقط كنت أريد لحوارنا أن يكون، كان يفلت منى من وقت لآخر، يدخل فى سكك فرعية، يقول لى هذه السكك ستوصلك لما تريد، أو يقول لى "معلش بعدتك عما تريد"، وعندما يتوقف فى منتصف جملة، يصمت طويلا، يسرح بعينيه العجوزتين اللامعتين فى تفاصيل السجادة، أظن أن ما قالوه صحيحا، هو يسرح ويتوه منه خيط الكلام فلابد أن تعيده إليك، لكننى لا آخذ بالنصيحة، أنتظره حتى يعود هو بنفسه، يلتفت لى، يبتسم لى، لم أسرح منك، لكن بعض المواقف، الحكايات، الكلمات، تثير فى النفس "شغلانات جوانية" "أشغال داخلية"، فكن صبورا معى، أبتسم بدورى، معك أنا بلا شروط فلا تقلق.

الكتابة حياة ووجود

* الكتابة حياة ووجود. كنت فى أجمل مكان بالإسكندرية، محطة الرمل، أمامى قلعة قايتباى. من وجودى فى موقعى كبائع وتأثرى بالمكان وجمال المكان أو جمال البشر فى المكان؛ كان تحركى من عالم الركود إلى عالم الإضافة، إضافة الجمال إلى الجمال. من البداية إلى النهاية علاقتى بالكتابة هى علاقة دم ولحم، ففى البداية تحركت لكى أكون، وبدأت الرحلة بما كان وما سيكون. الكتابة هى سبب وجودى. اكتشفت الإنسان من مكانى كبائع مراقب، واكتشفت الكتابة من نفس المكان، فأضيفت للبائع إضافة هى النظرة المتحفزة للأشياء.

الانشقاق..!!

* فى البداية واجهت الانشقاق بين عالم الخواجات، عالم رائع الجمال، وبين كونى فى نفس الوقت عبد اللحظة، عبد المكان، أنتظر فى أول الشهر عسكرى البوليس ليأخذنى كبائع بلا رخصة بجوار سينما ستراند. من هنا حدث ما جعلنى أثور؛ أعطونى الجمال ولكن لم يعطونى الحرية. كنت أصفق عندما تقوم مظاهرة للطلبة ويسرع الخواجات إلى وضع خيش فوق العبارات الأجنبية فوق المحلات. الخواجات؛ أحبهم وأكرههم فى نفس الوقت. أحبهم للمعاملة النظيفة التى يتعاملون بها، وأكرههم لأنهم الاستعمار الحقيقى. من هنا حدث الانشقاق، من هنا بدأت أكتب سلسلة مقالات بعنوان "كتاب وثوار" عن إميل زولا، ديستوفسكى، فيكتور هوجو، الشيخ محمد عبده، جمال الدين الأفغانى، كانت هذه المقالات تنشر أسبوعيا فى مجلة الفن بالقاهرة سنة 1954، وفى نفس الوقت بدأت أكتب قصة كل شهر فى مجلة القصة القاهرية أيضا والتى كان صاحبها ياسين سراج الدين، كانت هذه القصص عن زنوج أمريكا وزنوج كينيا وعن بشرية الحفاة فى الإسكندرية. هذه الكتابة كانت هى التعويض الذى أسد به النقص الذى أشعر به، غربتى بين أجنبى يشترى منى ويبتسم لى ويضع يده فوق كتفى كصديق حميم، وأنا أبادله تلك المشاعر بإخلاص، لكن داخلى يبكى لأننى بائع معرض للبوليس وأننى تابع لسينما ستراند وتابع لرغبات مدير السينما وصاحب السينما وصاحب محل "على كيفك"، بالكتابة وجدت سلام الروح بين هذين الشعورين.

الكتابة الواقعية.. وأمريكا الحمقاء المطاعة!!

* سنة 1950، بائع التسالى بمحطة الرمل، يقرأ مجلة "أمريكا"، يكتشف أن أمريكا تؤيد فرنسا، وفرنسا تستعمر المغرب، يقرر أن أمريكا هى المسئول الأول إذن، يكتب رسالة إلى المجلة، ينهيها بجملة "وداعا يا أمريكا أيتها الحمقاء المطاعة". يأخذنى البوليس إلى نقطة شريف (بجوار مركز الإسكندرية للإبداع الذى كان قصر ثقافة الحرية الذى كان نادى محمد على)، يهددوننى، يطلبون منى تغيير مكان عملى، وأنا خارج يقول لى الضابط إن مصر يجب أن تفتخر بى!!!. رغم هذا الجنون كانت كتابتى فى هذه الفترة واقعية متأثرا بالكتاب الثوار الذين كنت أقرأ لهم وأكتب عنهم. كانت الفكرة تأتينى كأنها انبثاق من واقع حياتى، ما أقرؤه، ما أراه، ما أشاهده فى السينما، تأثرت بمعاناة زنوج أمريكا وكتبت قصة "الأنشوطة"، كتبت عن زنوج أفريقيا، عن جوموكياناتا، كنت متأثرا جدا بالسينما، الموسيقى، الحوارات، الكاميرا، التمثيل، شحنة أسبوعية أخرج بها إلى "الفرش" حيث أبيع التسالى (اللب والسودانى والحمص والبندق واللوز والفسدق)، أتابع ما يكتب فى الصحف التى أستعيرها من أصدقائى باعة الصحف بالمحطة، تتفاعل الأشياء والمصادر والمثيرات والمؤثرات كلها مع رغباتى فى الجمال واحتوائه، تكون النتيجة إخراج قصة جديدة أو مقال جديد.

أول قصة.. وإضراب رجال البوليس

* كنت فى التاسعة عشرة من عمرى عندما كتبت أول قصة ونشرتها فى مجلة القصة سنة 1954، اسمها "الجلباب" عن عامل تعارك مع آخر وقطع له جلبابه، كانت أسعد فترات حياة البائع الصغير، إذ أضرب رجال البوليس عن العمل لضعف المرتبات لعدة أيام كانت هى أيامى السعيدة، تركت الفرش أخذت أتجول خلف محطة الرمل عند الغرفة التجارية، كنت أشعر أننى ملك، غير خائف، الصراعات بداخلى كانت تهدأ، والانقسام الموجود بالنفس يروح.

عرفت بالثورة قبل الإعلان عنها

* كانت مصر تغلى، وكان لى صديق ضابط مباحث اسمه يوسف فوزى، جاءنى ليقول لى "فيه حاجة حصلت" قلت له "فيه إيه؟" "دلوقتى ح يعلنوها" "فيه إيه؟" "الملك تنازل عن العرش"، وأعلنوها بعد دقائق، قيام الثورة وتنازل الملك عن العرش. أنشأت الثورة إذاعة الإسكندرية، كان حافظ عبد الوهاب مديرا لها، تركت له قصصى فلم يهتم بها أحد، ذهبت إليه شخصيا، لمته بشدة، لماذا لا تذيعون قصصى وأنا أتعامل مع صحف القاهرة؟! كنت عنيفا جدا معه، وتركته ومشيت، فأذاعت لى الإذاعة قصة ذات نزعة وجودية اسمها "رسالة إلى الله"، أذيعت أيضا فى القاهرة من مختارات إذاعة الإسكندرية، وأذيعت من إذاعة المشرق الأدنى، كانت هذه القصة هى السبب فى محاولة البحث عن أسلوب جديد للكتابة.

"رسالة إلى الله".. من سرق من؟

* بعد إذاعة القصة ونجاحها، ادعى الدكتور يوسف عز الدين عيسى أنه صاحبها وأننى سرقتها منه، وكتبت صحفية اسمها ناهد الجزيزى فى جريدة الجمهورية إن قصتى وقصة الدكتور يوسف منقولتان عن الروسية حتى لا تغضبه ولا تنصرنى عليه، حدثت تفاصيل كثيرة فى هذا الموضوع، تدخل حافظ محمود نقيب الصحفيين لنصرة الدكتور يوسف، ثم تراجع عن موقفه عندما هددته نقابة بائعى الصحف بالإسكندرية بالتوقف عن توزيع جريدته "القاهرة"، لكن الأهم من كل ذلك ما أثرته هذه التجربة على روحى الإبداعية، كان السؤال المضنى: كيف يمكن أن أكتب ما لا يدعى أحد أننى سرقته منه، أو نقلته عن الروسية؟!!

الفارس.. أولى قصصى الجديدة المنسية!!

* كنت أعمل مساعدا لرئيس الأرشيف بالمجلس الأعلى للفنون والآداب بعد نقلى من سكرتير لجنة النثر إلى الأرشيف لعدم الرضاء عنى! وفى يوم اشتكى لى رئيس الأرشيف من اجتماع حضره مع المدير العام وبعض الموظفين الآخرين، وقد حملوه جميعا كل موبقات الوظيفة، كان لى زميل فى المجلس مقل فى كتاباته، كنت أهمس له ببعض أفكارى ليكتبها هو، هو اسم كبير جدا الآن، كتب هذا الزميل قصة رئيس الأرشيف، لكنى لم أشعر فيها بالنبض الذى أريد، فكتبت أنا قصة "الفارس" التى نشرها فؤاد دوارة فى مجلة الإذاعة، وعند عودة يوسف السباعى من أسره فى سوريا بعد الانقلاب على الوحدة أعطاه المدير قصتى، فسأل يوسف رئيس الأرشيف عن القصة (يضحك حافظ رجب بشدة، لكن بلا صوت مسموع، يشرح لى مرة ومرتين ثم مرة ثالثة ليؤكد لى أن رئيس الأرشيف "عملها على نفسه" حقيقة وليس مجازا، "عملها من الأمام والخلف" حقيقة وليس مجازا!!) ثم سألنى يوسف السباعى فقلت له إننى كاتب القصة، "وتقصد بيها إيه؟" "أقصد البيروقراطية!" سأل بشدة: "يعنى إيه بيروقراطية؟!" ثم بزهق "والا أقولك اكتب اللى أنت عاوزه.. روح!!". فى هذه القصة وجدت صوتى الخاص، أسلوبى الذى هو أنا، ما كنت أبحث عنه فى كل ما كتبت من قبل ولم أكن أعرف أننى أبحث عنه، ولم أكن أعرف أننى سأجده.. بطل القصة عنده ابن كسيح، يأتى إلى الاجتماع بابنه وابنته وقطته، يقول الرجل فى الاجتماع كل ما فى نفسه، وعندما يحاول أى موظف الاحتجاج عليه ينهره القط قائلا له "اقعد!"، وانتهت القصة بأن غادر الرجل وأسرته وقطه الاجتماع بعظمة وكبرياء. هذه القصة نشرت قبل قصة "الكرة ورأس الرجل" التى لفتت الانتباه إلى أسلوبى الجديد، الجديد بالنسبة لى وبالنسبة للقصة العربية عموما، لكنها لم تكن القصة الوحيدة قبل الكرة ورأس الرجل، كانت هناك قصص أخرى، أقول لك شيئا، أنا حزين لأن هذه القصص لا تأخذ ما تستحق من عناية نقدية، النقاد يكتفون بما هو مشهور ليتحدثوا عنه مرة ومرات، لا أحد يتعب نفسه للبحث عن المجهول أو قول جديد. فى مجلة "الرائد العربى" الكويتية نشرت قصة قالوا عنها: هل ستكون القصة العربية بهذا الشكل فى المستقبل؟ لا ندرى!. وفى "المساء" نشرت قصة "المدية" وقصة "جداران ونصف" عن رجل وامرأة يمارسان الجنس فى مكان ما ثم يشعران أن جدارين ونصف يحيطون بهما، وقصة "شغلانة" عن رجل لا يجد شغلا ويقابل رجلا أسود يلعب معه قمار، وقصة أخرى فى مجلة فى سوريا. كل هذه القصص قبل الكرة ورأس الرجل.

أسلوبى الجنون.. من الفكرة إلى العضل

* فى تلك القصص وفى الكرة ورأس الرجل ظهر الجنون! الملامح الكاملة للأسلوب، تحويل الفكر إلى عضل، هذا الأسلوب بالنسبة لى هو اكتشاف وابتكار معا. كتابة القصة عندى بحث ونحت واستخراج ما فى الأعماق، استخراج ما فى أعماق اللحظة وكل اللحظات. أدهشنى فى هذه القصص وأنا أكتبها أنها تعطينى سرها، الشعور بالغبطة والتألق والانفجار، والرغبة فى إيضاحى للمتلقى وجذبه معى إلى أشيائى، فهو فى صميمى وأنا أكتب وأنا أجذبه إلىّ، أريده –القارئ- مفتوحا؛ غير محمل بأفكار مسبقة، كى ننساق إلى لحظة واحدة، أريده فى حالة من العذرية لا تقل عن حالة الكاتب/المكتشف نفسه. أنا ضد الغموض رغم الشهرة الغامضة التى أحاطت بعملى تدعى أنه غامض! كانت هذه الشبهة مغرضة بهدف إبعاد القارئ عنى، مثلما حدث مع العقاد، وصفه بالعظمة والسمو والغموض، ليبدو وكأنك تعظم الشخص، فى حين أنك تضعه وحيدا فوق قمة جبل عال لينساه العالم هناك، كانت هذه لعبة القط والفأر التى لعبها معى جيل كامل، جيل الستينيات، كانت بينى وبين هذا الجيل مطاردة مستمرة، كان هذا الجيل يقلدنى، ولا يستطيع أن يقلدنى، وأهرب من المقلدين بابتكار طرق ونقلات أخرى فى الكتابة فتكون النتيجة العمل على إحجامى عن الكتابة. أما الجيل السابق الذى تحدثت باسمه، صحت باسمه، طالبت بحقوقه، فقد تركنى أخوض المعركة وحدى، لم يقف معى أحد فكان لابد أن أخرج بكثير من الجراح والتدمير. أهم النقلات فى تاريخى الكتابى تفجير اللغة، أى تبوح لك الكلمة بإحاءاتها المتراكمة، والقارئ الذى يلهث يكون بسبب ضعفه هو، فيتركنى إلى من يقول أنه هو الأصلى، حيث يظن القارئ أن كتابات من قلدونى فيها جدة فى الأسلوب، وينسون أنها مجرد تقليد لى، لأن الأصل غاب أو غيب عنهم. شعرت بغربة شديدة فى ذلك الوقت، محمد عبد الحليم عبد الله قدم الكرة ورأس الرجل فى مجلة القصة، كتب مقدمة من أغرب المقدمات، يتقرب ويتراجع، يلهث ويقف جامدا، يحذرنى ثم يتلطف معى، وبعد أسبوع دخل غرفته السرية وكتب قصة اسمها "المسافر"، قصة الغموض كما دار فى مخيلته، ونشرها فعلا، وأشارت إليها مجلة الثقافة وقتها على أنها من أعماله الرائعة الجديدة، وهى من تأثير ما ظن أنه غموض فى قصتى التى لم يفهموها وقتها. نجيب محفوظ فى ثرثرته فوق النيل تجد أصابعى، وبعد توقف ثلاثين عاما عن كتابة القصة القصيرة يدخل خمارة القط الأسود وغيرها من الأعمال القصصية التى ترتدى قبعتى. هناك من تأثروا بى مع محاولة إخفاء هذا التأثر، فى عدد من مجلة القصة نشرت قصة ليوسف إدريس؛ بالحرف وبالجملة أخذ منى أشيائى!

النقد أيضا جنون.!!

* النقد جنون! يحيى حقى بعدما أسفرت المعركة عن ضحايا هم أنا كتب أننى أسبق زمانى بثلاثين سنة، وأننى خلصت القصة من السرد الرتيب، وكتب أن حافظ رجب قصصه معروف عنه أنه هو الذى يكتبها وأنها قصصه التى تأثر فيها بالسيريالية، وفى نفس المقال كتب لنترك هذا الكاتب لقدره إما أن يعيش أو يموت، وكنت قد عدت إلى الإسكندرية، وبعد عدة أيام جاءنى خطاب خاص منه يقول فيه أنا أريدك هرما فى المجلة، أريدك علما فى المجلة، لكن القارئ ابنى وغالى علىّ، فانا أراعى القارئ، ويهمنى القارئ، فأنا سأتركك ترسل قصتان أو ثلاث لنختار منها!! فى بداية حياتى الكتابية كان شبح الواقعية الاشتراكية "كرباج ملهلب"، وكان هذا سبب قولى أن جوركى أبى! حتى كتبت قصة "البطل" ونشرت فى مجموعة "عيش وملح"، وفيها بعثرت القيم التى مجدها أصحاب الواقعية الاشتراكية، وكتب فؤاد دوارة أنها أنضج من جوركى، فكتب محمود أمين العالم يهاجمنى "التعقيد المفتعل غربة عن الشعب والحقيقة"! وكتب سامى خشية "الكرة ورأس الرجل ضياع المنهج وضياع النتيجة" كان هذا سنة 1968، وفى سنة 1995 كتب سامى خشبة نفسه عنى مقالا بعنوان "الأستاذ".. سبحان الله! (طوال الحوار يردد جملة سبحان الله.. لم يعد يغضب بعنف أو يهاجم، أصبح يتعجب ضاربا كفا بكف بلطف وبدون صوت، متمتما بالجملة السحرية، فلم يعد يطمح إلى شئ، كل المعارك تفضى إلى نفس النتيجة، وما يريده ليس هنا، ليس عندنا، ليس عند الناقد ولا الناشر ولا القارئ ولا المؤرخ ولا مانح الجوائز.. إنه عند رب هؤلاء جميعا، وهو ما يطوى حافظ رجب نفسه عن الناس قدر الإمكان ليكون قريبا منه قدر الإمكان). شعرت بالانفصام عن المجتمع الأدبى، والحياة الامتداد أن تكتب بتغيير، لكنه تغيير غير مفتعل بل تطوير دائم للتجربة. 

أبى الذى أرعبنى فى الحياة والكتابة

* أبى هو الشخصية التى خشيتها طوال حياتى، وتمنيت أن أكتب عنه، لكن القلم لم يطاوعنى إلا بعد وفاته، كنت أشعر بخوف حقيقى وأنا أكتب عنه قصة "الأب حنوت" رغم يقينى أنه مات. أما الكتاب الذين أحببتهم فى حياتى العادية مثل برناردو شو وتشارلز ديكنز وديستوفسكى فقد ذكرت أسماءهم فى قصصى لمحبتى لهم. والقصة التى أقرؤها من وقت لآخر وأشعر بسعادة لأننى كتبتها هى قصة "عبور جسر الاختناق"، هى قصة رسام وشاعر معروف قابلته بعد صيحة "جيل بلا أساتذة" والشيوعيون يسخرون منى لأننى خرجت من الصف، لم يجد ما يقدمه لى هذا الفنان إلا مذكراته، قالوا لى هو مثلك من الجناح المتطرف، وهذه القصة من وحى مذكراته (بمناسبة الصيحة؛ أتعرف بمن كنت أفكر وهى تنفجر فى وجه الجمود، كنت أفكر فى "الرابطة الثقافية للأدباء فى القطر المصرى" كانت أول وآخر رابطة من نوعها، رابطة ثقافية كل أعضائها من الباعة والمستخدمين فى محلات محطة الرمل، كنت وقتها مازلت بائعا فى الإسكندرية، كان رئيس الرابطة صبى مصور أصبح فيما بعد مسئولا سياسيا بحزب كبير، ومعه بائع هريسة اسمه محمد صبحى، ومن محل "على كيفك" صبى اسمه إبراهيم الوردى، ومن الناحية الأخرى خادم فى لوكاندة يكتب شعرا، وعلى الرصيف معنا كناس أصبح فيما بعد من كتاب الأغنية المعروفين بالإسكندرية، هؤلاء هم المؤسسون للرابطة، كنت الوحيد بينهم الذى يكتب القصة، كلهم كانوا يكتبون الشعر والأغانى، وكنت سكرتير عام الرابطة، هؤلاء كانوا مددى فيما بعد، عندما قلت الصيحة كنت أعنيهم قبل غيرهم) . أنا أكتب فى أى مكان وفى أى وقت وبأى قلم وعلى أى ورق حتى ولو ورقة جرنال.

المرأة.. تفلت فى الوقت المناسب!

* المرأة عابثة! أنا فى حاجة دائمة إليها، لكنها كحلم، تفلت فى الوقت المناسب، وتظل بالداخل، فى المعترك، تعبث بمكوناتى!!

الابنة والحفيدة

السيدة التى فتحت لى باب بيت حافظ رجب كانت ابنته السيدة /سامية محمد حافظ رجب، وكانت معها ابنتها ريهام محمد حافظ (اسم الأب هو نفس اسم الجد.. كما أن اسم الأب هو نفس اسم الزوج- لعبة لغوية تليق بأسرة حافظ رجب!!). الابنة تعمل فى شركة استثمارية بالمنطقة الحرة (لها أخت وحيدة، السيدة/أمينة موجهة أولى تربية رياضية، ولديها ولدان عماد حمدى ومحمد حمدى) ، ريهام ابنة السيدة/سامية حاصلة على بكالريوس ترميم آثار (ولها أخ وحيد هو إسلام)، جلستا معنا (ريهام وأمها) عندما طلبت أنا ذلك، تمنيت أن أطلب منه ألا يكون موجودا، أن يتركهما على حريتهما، لكننى أحرجت أن أطلب ذلك. قالت الابنة هو أب طيب جدا فوق ما تتخيل، أحيانا سريع الغضب هو، لا يحب عدم فهم ما يقوله، أفنى حياته كأب لى ولأختى ثم لأحفاده، قرأت له كثيرا، أفهم ما يكتبه، لديه قدرة جميلة على تجسيد الأشياء، قراءته ممتعة وفيها إبداع كبير، ممكن الأطفال والكبار يحبونها، أحيانا يكون فيها بعض التعقيدات وبالذات الأعمال التى بالعامية. نعم أفخر بأبى أمام زملائى، وكثيرون منهم يعرفونه وقرأوا له. أما ريهام فهى تأخذ على جدها انطوائيته الشديدة، يعيش فى حالة وحدة دائمة، لابد أن يبذل الآخرون مجهودا للحديث معه لإخراجه منها أما هو فلن يبذل أى جهد ليفرط فى وحدته وعزلته، فى كتاباته خيال جامح تظن لأول وهلة أنه لا يمكن أن يحدث لكن مع التركيز فى القراءة تتأكد أنها واقعية جدا وتحدث فى الواقع لكنه كتبها بطريقة مغايرة، فيزيد استمتاعك بها. أبى/جدى.. هما معا تقولان إنه لم يأخذ حقه، حقه مهدور، حصل على شهرة، وحوارات، وملفات عنه، ودراسات عن أعماله، لكننا نريد أن يعرف الناس قيمته الحقيقية، لا نريد جوائز أو فلوس، إنه لم يحصل على جائزة كبرى العام الماضى لمجرد أن طريقته فى الكلام مع أحد منظمى ملتقى القصة لم تعجب سيادته، حتى لو أخطأ فى هذا إن كان قد أخطأ، ألا يجب أن نفصل بين هذا وبين قيمة العمل الأدبى والكاتب؟ نتمنى ألا يتم تجاهله لدفنه، وألا يتم التشهير به والهجوم عليه للحصول على الشهرة الكاذبة.

دعوة مفتوحة

بعد التقاط بعض الصور لم يتركنى الأستاذ أذهب هكذا، كنا قد صلينا المغرب معا، أنا الإمام، تذكرت أستاذى العظيم الراحل خالد محمد خالد عندما كان يجعلنى الإمام عندما نصلى معا فى الإسكندرية لأنه يقصر ويجمع، فصلينا العشاء أيضا، ثم أعطانى قصة "النبى.. بيافرا.. البوذية.. ملاجئ الحرب". "هل هذه قصة جديدة؟" "لا. لكنها لم تنشر من قبل" "هل تسمح بنشرها ضمن الملف؟" "افعل بها ما تشاء" "هل تسمح بأن أزورك مرة أخرى؟" "هل تستطيع أن تأتى مرة أخرى؟ عرفت المكان؟" "أنا ضعيف فى الجغرافيا لكن من أحضرنى اليوم يمكن أن يحضرنى فى المرة القادمة" "بيتى مفتوح دائما" "شكرا يا أستاذنا".

محمد حافظ رجب

001
001
002
002
003
003
004
004
005
005
006
006
007
007
008
008
009
009