أسماء الله الحسنى رؤية جديدة

الأسماء الحسنى قراءة نسقية في الإيمان والحضارة (1)

ذات مصر

(1)

ميزتان وغاية مبتكرة

   ميزتان يتميز بهما بحث عن آخر: الأولى الغاية التي يتغياها، والثانية المنهج الذي يتبعه للوصول إلى هذه الغاية، أما الغاية فغايتان كبريان: غاية فردية، وغاية أممية حضارية، أما الغاية الفردية فاتخاذ معرفة الله طريقة للتعبد، ومنهاجاً للتربية، ومسلكاً للتزكية، وأما الغاية الأممية الحضارية، فالارتكاز على فقه الأسماء الحسنى لاستنباط قيم حضارية تحفز الإنسان المسلم للاستئناف الحضاري، وتحصنه ضد مستلبي هويته، ومميعي عقيدته، وبذلك تتسع دائرة الفهم لأسماء الله الحسنى، فلا يقتصر فهمنا لأسماء ربنا – سبحانه – على ما يكون بين العبد وربه، وإنما نستنبط قيماً حضارية تكتسب جلالها، وقدسيتها، وثباتها من انتسابها لأسماء الله الحسنى. 

    إنه من التقصير أن تظل معرفتنا عن أسماء ربنا وصفاته محصورة في دائرة التزكية الفردية، وإنه من الكسل أن يظل دور الباحث مقصوراً على جمع وترتيب ما قاله الأفذاذ السابقون، أو اجترار القضايا التي طحنوها بحثاً، وأوقدوا عليها نار الدرس؛ فنضجت حتى احترقت، ثم نرى من يقنع نفسه باستقامة منهجه مدعياً أن السابق لم يترك للاحق شيئاً، ولو أنصف لقال: إن الكتاب الذي لا يضيف جديداً لا يستحق أن يُخط فيه حرف، والكتاب الجيد هو الكتاب الذي يهضم ما قاله السابقون، ثم يضيف ما يصلح به واقعاً متجدداً، وهو كتاب له شخصيته، وتميزه، فلا يغني عنه غيره، وتجد فيه إضافات لا تجدها في سواه.

     إن العلماء السابقين لو عاشوا ما نعيشه الآن من تحديات تكاد تعصف بثوابت أمتنا لأبدعوا إبداعاً غير ما أبدعوه، وفوق ما أبدعوه، فالعالم الحق مهموم بواقع أمته، يستخرج من الوحيين ما يواجه به تحديات هذا الواقع، والواقع يتغير، والتحديات تتجدد، والوحيان لا يزالان بكراً أمام العقول الفتية التي تُجهد نفسها في البحث، وتتأنى لتتأمل التفاصيل؛ فإن البراعة تسكن في التفاصيل، إنها عقول تحتسب الأجر إذا أجهدها البحث، واستنفدت طاقتها هموم الدنيا التي لابد منها، لكن يدفعها الهم، وصاحب الهم يتحرك لا يستريح، ولا يستكين إلا أن يقوم بحق ما يحمل همه، وتسمو بها إرادة التميز عن النقل المجرد، ويبعدها عن السفول النفور من التقليد. 

(2)  

مدخل جديد ومفاهيم

     الدخول إلى دراسة الأسماء الحسنى من باب التزكية الإيمانية مسلك مألوف، والقراءة الحضارية لأسماء الله الحسنى مسلك مغفول عنه؛ ولهذا فإنه من اللازم أن أحدد عدة مفاهيم ليكون القارئ على بينة مما أقول، فتحديد المفاهيم وتحرير المصطلحات واجب على الباحث، وملزم له، وأنا أحدد معنى المصطلح – أحيانا –  بناء على قناعات استقرت لديّ بناء على استقراء تاريخي للحوادث، وأحياناً أخرى بناء على تحليل جزئيات الموضوع، ثم تركيبها مرة أخرى في تعريف معبر، وقد يكون تحديد المصطلح توصيفاً لواقع أوجزه في صياغة مختصرة، وسوف يتضح ذلك في رحلة البحث.

   إن أُولى هذه المفاهيم وأولاها بالتحديد مفهوم القيم الحضارية، ويتبعها عدة مصطلحات تزيد الأمر وضوحاً وتحديداً كالتحضر، والفكر، والمرجعية، والعقيدة. 

  • مفهوم القيم الحضارية.

 القيمة الحضارية هي كل فكرة أنتجت طريقة للتعايش المنتظم، هذه القيم تنتجها النخب انطلاقاً من مرجعية تؤمن بها، ويحملها المجتمع، وينفذها الحاكم الذي يمثله. هذا التعريف يثير الكثير من الأسئلة التوضيحية منها:

  • ما الأساس الذي انبنى عليه هذا التعريف؟
  • وما معنى الفكر؟
  • ومن القادر على إنتاج الأفكار؟ وما مرجعيته في ذلك؟
  • ومتى تكون الفكرة منتجة لتعايش منتظم؟
  • ومن الذي ينفذ الأفكار فيحولها من حبر على ورق إلى واقع معيش؟

         فيما يخص السؤال الأول، فإن الناظر إلى المراحل الفاصلة في حياة الأمم التي تنتقل بها من البداوة إلى الحضارة، أو الانتقال من عصر ضعف إلى عصر قوة، يجد أن عملية الانتقال سبقها وضع شديد السوء على المستوى الفكري، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، هذا الوضع السيئ ينتج أمرين: مفكراً يعرض نسقاً فكرياً إصلاحياً، وشعباً قابلاً لاستقبال هذا الفكر الجديد تخلصاً من ذل الوضع القائم وظلامه.

    ثم إن الفكر الجديد يعود إلى مرجعيتين كبيرتين: مرجعية دينية مصدرها وحي إلهي يجتهد الناس في فهمه واستنباط أحكامه لمواجهة النوازل، ومرجعية بشرية وضعها بشر، منهم من اعتمد العقل مصدراً للمعرفة، ومنهم من اعتبر الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة، ومنهم اتخذهما معاً مصدراً للمعرفة، ومنهم من أضاف الحدس وجعله مصدراً من مصادر المعرفة.

(3)

الفكر والتحضر

  • التحضر.

    أما التحضر فهو قدرة جماعة من البشر في زمان ومكان محددين على بناء أمة متماسكة ودولة قوية ارتكازاً على قيم حضارية وماديات البيئة ثم الانطلاق لنشر قيمها على من تستطيع من البشر. 

    فكأن القيم الحضارية هي عماد التحضر، وهي همزة الوصل بين الفكر، والتحضر، فالفكر معانٍ يؤمن بها الناس، والتحضر تحويل هذه الأفكار إلى واقع عملي، فالأرض وإن اتسعت، والناس وإن كثروا، لا يقيمون حضارة بغير قيم حضارية تنظم حياتهم، وتستثمر جهودهم. 

    والناس في علاقتهم بالبناء الحضاري نوعان: نوع من الناس عاشوا على بقعة من هذه الأرض في محيطهم المحدود يأكلون ويشربون ويعملون ويتناسلون ثم يموتون فلا يُذكرون إذ لا أثر لهم من بعدهم يخبر عنهم: فلا علم، ولا فكر، ولا تاريخ، وإنما حياة ساذجة بسيطة تُنسى جملةً بموت صاحبها. و نوع آخر تهيأت لديهم ظروف مكانية وزمانية وعقدية وثقافية ارتقت بهم فوق توصيفهم جزءاً من حركة الحياة ظهرت، ثم اختفت، وماتت فلا ذكرى لهم إلى كونهم أمة مستعلية بعلمها، وفكرها، وبشرها، وأرضها، فصنعت حضارة ميزتها عن غيرها من الناس، وانمازت بها عن شبهة التشابه بحياة الحيوان والنبات.

  • العقيدة.

   أما العقيدة فهي كل ما علمه العقل تحقيقاً وانعقد عليه القلب تصديقاً ثم صار في النفس يقيناً يظهر أثره في التفكير والسلوك. ومن هذا نعلم أن العقيدة ليست مجرد علم استوعبه العقل، ولكن لابد للقلب أن يؤمن بهذا العلم وأن ينعقد عليه فيثبت ويتوثق ويقوى فيصبح في النفس أمراً يقينياً جازماً حاكماً على غيره من الأفكار قبولاً، أو رفضاً، أو ترجيحاً، ثم تأتي الخطوة التالية وهي تحول هذه العقائد إلى ممارسات عملية ومعاملات حياتية . 

  • المرجعية. 

     أما المرجعية فهي نقطة الثبات العقدي التي تحدد للمفكر مجال فكره، وهي المعيار الذي نحدد به مدى قبول، أو رفض ما توصل المفكر إليه، فمنها يبدأ ليضبط الانطلاق، وإليها يعود ليقيم ويقوم ما أنتجه.

      إن فهم المرجعية بهذا التحديد يمنع العقل من الدخول إلى مجالات لا طاقة له بها، ولن يصل فيها إلى يقين، إن المرجعية الإسلامية وجهت العقل لإفراغ طاقته الفكرية فيما يراه من مظاهر الطبيعة، وكفته مئوئة البحث فيما وراء الطبيعة، فنحن نعلم بالوحي من خلقنا؟، ولماذا خلقنا؟، وما مصيرنا بعد الموت؟، إلى غير ذلك من مباحث الوجود، وأمثالها التي أهدرت طاقة العقول الذكية في أمور لن يصل العقل فيها إلى أمر قطعي؛ لأنها فوق قدرته، ولهذا أبدع علماء الطبيعة حتى ارتادوا الفضاء، وما زال الباحثون فيما وراء الطبيعة يوغلون في العماء.

  إذن فالمرجعية تحدد للمفكر مجال إبداعه، فمنها تكون نقطة الإطلاق، وبعد الانطلاق نعود لنعرض عليها ما توصلنا إليه؛ لتقيمه، فإما أن ترفضه، وإما أن تقومه.

   إن ظهور الإسلام في جزيرة العرب غير اعتقادهم؛ ووضع لكل حركة من حركات الحياة أساساً نظرياً وإطاراً فكرياً ينظمها، بداية من علاقة الرجل بزوجته إلى العلاقات الدولية في السلم والحرب، فللزواج أحكام، وللجيران أحكام، وللحرب والسلم أحكامهما، وهكذا كل مظاهر الحياة. هذا الإطار التشريعي هو في حقيقته قيم حضارية؛ لأنه ينقل الناس من حياة الفرد إلى حياة المجتمع، ومن حياة الثبات إلى حياة النماء، وإذا أردت أن تعرف مدى تأثير تلك القيم فضع نقطة عند حال المجتمع قبل ظهور تلك القيم، ثم ضع نقطة أخرى عند المكان الذي وصل المجتمع إليه، فالفاصل الذي بين النقطتين هو تأثير القيم الحضارية، وهكذا كل حضارة في تاريخ البشر.

  • الفكر.

أما الفكر فهو إعمال العقل في الواقع بعلم ومرجعية. فالمفكر إنسان سليم العقل، والعقل هو مجموعة القوى الإدراكية التي تتمكن بطبيعتها من تلقي ما تستقبله الحواس، ثم تربط بينها، وتحللها، ثم صياغة هذا كله في جمل معبرة. والناس في هذا ليسوا سواء، وإنما يتفاوتون في ذلك أشد التفاوت، فمنهم من لا يدرك إلا ما يأكل ويشرب، ومنهم من يتفكر في الواقع، ومنهم من يتفلسف ويجرد القضايا، ومنهم من يبتكر، ويخترع.

والمفكر الحق لا يتفكر إلا بعلم اكتسبه، وذكاء منّ الله به عليه، ولا يتكلف ما لا يعلم، ثم إنه ملتصق بواقع الناس، يقف في بؤرته، ينظر إلى الماضي بعين الاعتبار، ولا يتغيب فيه، وينظر إلا المستقبل بعين الاستشراف، ولا يتجرأ عليه، وهو في ذلك كله يضبط تفكره على المرجعية الثابتة التي تمنع فكره من السيولة، والتناقض.

 وليس كل واحد يستطيع أن يكون منتجاً للفكرة، وإنما يقوم بذلك صفوة الناس ونخبتهم، وتظل الأفكار كلاماً، وتظل النخب فرادى إلى أن يحمل الشعب الفكرة، ويسعى لتطبيقها، وتعميمها، ويطالب قياداته بتقنينها، وتنفيذها. 

  • قراءة نسقية

    أقصد بالقراءة النسقية أن القارئ لن يصل إلى الفكرة مكتملة إلا بقراءة البحث كاملاً، فإذا قرأ جزءاً من البحث استفاد جزءاً من المقصود، إن قراءة الاسم منفرداً تعطيك فهماً جيداً للاسم، فإن قرأنا الاسم في سياقه أضيفت له معانٍ إضافية اكتسبها من السياق، والسياق سابق ولاحق، والتأمل فيه باب إلى تحصيل الأسرار.