رؤية مصرية

حول نشيدنا الوطنى العظيم.. دعوة للتأمل

نشيد مصر الوطنى الذى لا يصح لنا غيره، وله من الحيثيات ما ليس لغيره:
1- فهو أولا من تراث فنان الشعب سيد درويش؛ صاحب الدور المركزى فى تمصير الفن، وصاحب المدرسة المتميزة التى خلقت لمصر تاريخا فنيا لم يستطعه أحد غيره، وهو بخلاف كل ذلك قد ارتبط بالنضال المصرى الخالص فى حقبة تاريخية مهمة من تاريخ الوطن، فاستدعاء سيد درويش من خلال لحنه هو فى حد ذاته واجب وطنى مثلما هو واجب فنى لأنه من رموز الفن الوطنيين الثائرين المخلصين لمصر وثورتها.
2- ولأن من كتبه هو الشاعر الثائر يونس القاضى؛ واستحضار هذا الرمز واجب وطنى، فقد شكل مع بديع خيرى قمة هرم الكتابة الوطنية فى ظل تشكيل هوية مصر الوطنية، فكيف لا يستحضر نشيدنا واحدا منهما، وهما اللذان قد شكلا وجدان مصر سياسيا ومجتمعيا... لا غرو فى ذلك فهما شاعرا الوفد والوطن والنضال والثورة.
3- ولأن مطلع النشيد قد أخذه كاتبه الشاعر يونس القاضى من خطبة تاريخية بالإسكندرية للزعيم مصطفى كامل الذى قال: «بلادى بلادى، لك حبى وفؤادى، لك حياتى ووجودى، لك دمى ونفسى، لك عقلى ولسانى، لك حبى وحياتى، فأنت أنت الحياة ولا حياة إلا بك يا مصر» وقد أصر يونس القاضى على إبقاء كلمة مصطفى كامل «بلادى بلادى» على الرغم من كون ذلك كسرا عروضيا واضحا لبحر القصيدة الأصلى التى كتبها على مجزوء الرمل، وعلى الرغم من سهولة جبره بقوله «يا بلادى يا بلادى» لكنه أراد المحافظة على نص كلامه ليقوم فنان الشعب بجبر الكسر موسيقيا بتكرار كلمة بلادى ثلاث مرات؛ وهكذا صار النشيد استحضارا لنضال زعيمين كريمين هما مصطفى كامل بكلماته الدافقة، وسعد زغلول بثورته وبشطر «واسعدى رغم الأعادى» فكلمة اسعدى تشير إلى زعيم الأمة على عادة الكتاب فى تلك الفترة بعد تجريم ذكر اسم سعد، وعلى الرغم من استبدال اسلمى باسعدى لكننا نستشعر روح سعد فيهما معا.
4- ولأن النشيد يستحضر لحظة فارقة من كفاح مصر، هى أهم لحظة فى تاريخنا الوسيط والمعاصر معا، لأنها تؤرخ للأمة المصرية العظيمة وقد صارت أمرا واقعا متحققا بنضالها الجسور فى ثورة 19 وبنضال زعيمها الذى سيظل يحسب له استحضار مفهومها فى كل ما واجهه من مواقف عصيبة.
5- ولأن النشيد يعبر عن الوطنية لا شريك لها، فلن تجد فيه ذكرا لأيدولوجيا معينة أو نظام حكم معين أو حالة سياسية معينة؛ فنشيد «والله زمان يا سلاحى» أو نشيد «الله أكبر فوق كيد المعتدى» يجسدان حالة الحرب كما أن نداء «الله أكبر» مع جلاله هو نداء الأذان الإسلامى والنشيد نشيد أمتنا كلها يخاطب وطنية أفرادها بلا حزازات من أى نوع؛ أما بلادى بلادى فهو يجسد مصر وحدها بغض النظر عن الحرب أو غير الحرب، بل إنه لا يقتصر فى التعبير عن الحالة الثورية التى قيل فيها، ليظل معبرا عن الوطنية بصفة عامة، ونشيد «كنت فى صمتك مرغم» هو نشيد يعبر عن وجه وحيد لمصر وسط صراع طبقى تتفاوت فيه وجهات النظر، أما نشيد بلادى فيعبر عن مصر وحدها وعن حالتها المتفردة، بل إن الشوفينية نفسها التى نراها كثيرا فى أناشيد أخرى نجدها قد اختفت فى هذا النشيد فصارت همسا خافتا جميلا فى بيته المحذوف «مصر يا أرض النعيم/ سدت بالمجد القديم» النشيد يعبر عن الوطنية التى تتحرر من كل صور التبعية داخليا وخارجيا «يا بلادى عيشى حرة» الوطنية التى تنشد وحدتها لا فرق بين أديان أصحابها فكلهم عباد رب واحد يشربون من نيل واحد، ويأكلون من زرع رواه نيل واحد، فلا جرم أن يكون به الكل فى واحد «وعلى كل العباد/ كم لنيلك من أيادى» إنها الوحدة الوطنية التى لا بديل عنها «سوف تحظى بالمرام/باتحادهم واتحادى» لقد لخص النشيد ثالوث الوطنية المصرية الذى بثه سعد فى المصريين باستقلال يخلو من التبعية وحرية تستلزم دستورا يعبر عن الأمة ووحدة وطنية بديهية واجبة، وكل ذلك تجده منثورا وسط أفكار نشيد كتبه شاعر وفدى آمن بثورة 19 ومبادئها.
6- النشيد نفسه يعبر عن كل المصريين، يفهمه الأمى والمتعلم والمثقف على وجه واحد، سهل الحفظ سلس التركيب، كلماته لا تتفاصح على المستمع، ولحنه لا يستعصى على الإنشاد من غير المتخصص لأن أبعاده الغنائية - كما ذكر الدكتور الفنان أسامة عفيفى - لم تتعد الدرجات الخمس الأولى من السلم الموسيقى، ولا يفوتنا أن ألفاظه قد جمعت بين الفصيح السهل والعامى لأنه يسجل هوية مصر شديدة الخصوصية بروافدها التى ميزت عروبتها بخصائص تاريخية ووجدانية، فأنت لا تشك فى مصرية كاتب هذا النشيد بخلاف «اسلمى يا مصر» للرافعى الرائع، فنشيد اسلمى يا مصر برغم جماله قد يكتبه غير المصرى، وفضلا عن ذلك فهو يستحضر الرافعى المثقف البعيد عن عوام الأمة والبعيد أيضا عن أتون الكفاح إذا ما قارناه بيونس القاضى أو بديع خيرى، وهو أيضا يستبعد سيد درويش وما كان لأمة فيها مثله أن تستبعده.
7- النشيد أيضا بتوزيعه الجديد استحضر الموسيقار محمد عبد الوهاب وهو رائد من رواد مصر الحديثة لا يشكك أحدنا فى ذلك، وقد وضع بصمة خافتة حافظت تماما على أصل اللحن، فكان أن استبدل مقام العجم بمقام الجركا الذى كان لحن النشيد الأصلى، لكنه تغيير طفيف لأن الجركا كما يذكر نقاد الموسيقى هو مقام متوسط بين مقامى العجم والرست.
8- ونعلم أن قرار السادات بتغيير النشيد الوطنى كان بسبب اتفاقية كامب ديفيد، مما حمل نشيدنا الرائع ما لا يحتمل، لأنه لا يعبر عن الحرب أو السلام، لكنه يعبر عن حالة وطنية عامة، ولم أتحقق ممن أضاف إلى النشيد شطرا سياسيا لا لزوم له «نحن حرب وسلام» التى استدعت اتفاقية كامب ديفيد بكل ما ترتب عليها، وهذه الجملة - فيما أرى - جيدة لا ضير منها لولا سياق وضعها الذى أكسب النشيد الجليل الرائع خصومة من معارضى كامب ديفيد. رحل السادات لكن النشيد العظيم  - حتى بما حدث فيه من تعديل - سيظل نشيدا وطنيا جليلا يعبر عن مصر كلها مؤيدين ومعارضين بعد انتهاء سياقات كامب ديفيد. 
9- وأخيرا فتعديلات بعض الكلمات لم يكن ضروريا أبدا، لأن تعبير (ست البلاد) خير من (أم البلاد) لأن النشيد يستحضر حالة رومانسية حالمة بين الشعب ووطنهم (ست الستات) ولكن يبدو أن ذكورية مجتمع ما بعد يوليو 52 - الذى كان يستحضر الرجولة مرادفا للشجاعة - كان مختلفا جدا عن تحرر مجتمع ثورة 19، وكلمة (اسعدى) خير من (واسلمى) لأنها تذكرنا بالزعيم سعد زغلول.
فلنرددها بقوة وحب 
بلادى بلادى بلادى ... لك حبى وفؤادى