عمار علي حسن يكتب: "كلاب تنبح خارج النافذة" .. رواية عن سنوات الغليان الثوري

ذات مصر

"تم تكليفكم بمراقبة هشام، ومن الآن تبدأ المهمة." بهذه العبارة تبدأ رواية الكاتب صبحي موسى "كلاب تنبح خارج النافذة"، في مسعى لجذب قارئها، أو اصطياده، منذ الوهلة الأولى، إذ تفتح أمامه أبواب الظنون والهواجس، وشيئاً من اللهفة والتطلع إلى ما يأتي. يحدث هذا رغم أن بطل الرواية نفسه، وهو كاتب وصحفي، لا يصدق هذا التكليف الذي قفز أمام عينيه فجأة على جهاز الحاسوب، إذ يقول: "في البدء تصورت أن الأمر مجرد مزحة أو فيروس أصاب الكمبيوتر، فأغلقته سريعاً، وذهبت إلى النوم، قائلاً لنفسي إنه ليس هناك ما يجعلني أصدق أياً من هذا الهراء."

هذه اللامبالاة المؤقتة التي تصيب بطل الرواية في سطورها الأولى، لا تنتقل بالطبع إلى القارئ، الذي يشركه مؤلف الرواية فيما بعد، ليس بوصفه متابعاً أو شاهداً فقط إنما مشارك أيضاً، بل ينتقل إليه شغف أكثر، معتقداً أنه أمام رواية بوليسية، أو بصدد رواية عن قضية العس والدس والمراقبة الأمنية، ليجد نفسه أمام رواية تعالج التحولات الاجتماعية والسياسية في المجتمع المصري خلال السنوات الأخيرة، والتي انعكست بشكل بارح على طرائق العيش، وأنماط السلوك، بل تغلغلت في النفوس إلى درجة مخيفة.

تنقسم الرواية إلى جزأين، الأول أخذ عنوان "أنجريتا"، وهو مكان عشوائي يعيش فيه الكاتب، والثاني "فئران بدينة" وهو صفة قد تنطبق على بعض شخصيات الرواية، والبدانة هنا قد لا تكون راجعة بالضرورة إلى النعمة بقدر ما هي تعبير عن الترنح والتثاقل والبطء، سواءفي فهم ما يجري، أو التفاعل معه.

ورغم وجود أماكن أخرى في الرواية خلافاً لهذا الحي العشوائي، تتمثل في وسط القاهرة حيث مكان العمل، ومصر الجديدة، حيث تقطن أسرة "هشام"، فإن المكان لا يمثل جوهر السرد وغايته رغم أن الكاتب أمعن في وصف معالمه، إنما انعكاس الحدث السياسي على البشر، وهي مسألة سبق لصبحي موسى أن عالجها في روايتيه "نقطة نظام"، و"نادي المحبين".

والحدث هنا هو ما جرى في مصر بين يناير 2011 ويونيو 2013، حيث نزل ملايين الناس إلى الشوراع مرات، دون أن يقبضوا على اليقين، أو يدركوا أول الطريق إلى الخروج من الضيق والإكراه والفقر، بل تصارعت الإرادات، وتضاربت المصالح، وتضادت المواقف وتناقضت، وانزلقت من الاختلاف إلى الخلاف، ثم الشقاق والاستقطاب الحاد، فاختلط الحابل بالنابل، وزاد الاضطراب الاجتماعي، وتساقطت أضراره على رؤوس الناس، لاسيما أولئك الذين تملكهم خوف من أن يفقدوا حتى القليل الذي ظل بين أيديهم سنوات، يرونه، على ضآلته، أفضل من خسارة كل شيء.

ربما لهذا بدت شخصيات الرواية في معاناة قاسية حيال علل جسدية، واضطرابات نفسية، وقصور عقلي، تضغط على أعصابها شديداً، حتى تدفعها إلى طريق اللامبالاة أو التيه، أو تجعلها تبدو بلهاء، لا تدرك الكثير مما يجري حولها، أو يحاك لها. لهذا جاء بطل الرواية "هشام" شاباً يعاني من إعاقة ذهنية بسيطة، ويعمل في هيئة حكومية قريبة من ميدان التحرير، لا يستطيع أن يكمل طريق أبيه وأمه، اللذين كانا عالمين في مجال الكيمياء، وتوفيا في حادث سير، وتتولى عمته رعايته، وهي امرأة متزوجة من محام ينتمي إلى "جماعة الإخوان المسلمين".

هكذا يتم تكليف الكاتب بمراقبة هشام، وهو أمر يرمز إلى انقلاب الأدوار وعبثيتها، فمن يعاني من قصور عقلي هو آخر شخص يمكن مراقبته على الطريقة المألوفة في عالم الأمن والسياسة، وهذه المراقبة دليل ما جرى بالفعل وهو توسيع دائرة الاشتباه، والكاتب يفترض أنه آخر من يصلح لأداء مهمة البصاص أو العساس أو المخبر "حسب الكلمة المتداولة حالياً.

إن كاتباً يعيش وسط البسطاء، كبطل هذه الرواية، من الأفضل أن يفكر في الأخذ بأيديهم، ليكون بمنزلة "المثقف العضوي" خاصة أنه يشاركهم أوقاتاً هانئة في بار بسيط، ينصت خلالها إإلى أوجاعهم، حين يثقل الخمر رؤوسهم فيبوحون أمامه بما تضن به نفوس اليقظين، والقابضين على الكذب والمداراة، والحريصين على التعمية والتورية. لكن الكاتب هنا يتماهى مع ما ينقص كل من حوله، بل يصير هو نفسه عورة، حين يرضى بمراقبة شاب مسكين، لحساب جهة لا يعلمها، فالمهم لديه هو ما دفعته له في بداية تكليفه بالمهمة البائسة، وأيضاً حين يعمل ويعمد على حرمان هذا الشاب من "جيهان"، زميلته في العمل، التي يراها أجمل من الفنانة "ليلى علوي"، ويهيم بها عشقاً في براءة، بل سذاجة.

يبدو الكاتب/ بطل الرواية، الذي يمسك بزمام الأحداث ويرتبها كيفما شاء كراو عليم، واحداً من العاجزين الموزعين على السرد في هذه الرواية، فهم ضحايا الهزات السياسية والاجتماعية التي حدثت، ومن بينهم من يعاني من عجز جسدي، مثل "لامبو" الذي قطع القطار ساقه وذراعه، و"رزق الله" الذي يعرج لقصر في إحدى ساقيه، لكن صعوبة الحياة تجبر كل منهما على أن يتصرف وكأنه سليم الأعضاء تماماً، إذ لا مكان لضعيف في هذه الغابة.

يضفي المكان طبعه على الشخصيات، وهو هنا "أنجريتا"، الحي الريفي الذي طالته المدنية، فوقف شائها بين عالمين. في هذا الحي العشوائي راح كل شيء يجري كما كان بين سكانه من المهمشين والمتعبين ومن سحقتهم ظروف الحياة القاسية، يحاول بعضهم التغلب عليها بارتياد بار "لامبو" يغيبوا فيها قليلاً  عن الوعي، ويمنحهمم الخمر إحساساً كاذباً بالخروج من حالاتهم الصعبة، لكن ما إن يفيقوا حتى يجدوا أنفسهم في مواجهة قسوة الحياة من جديد، وبعضهم يلجأ إلى المخدرات لكنها تمنحه سعادة مؤقتة، ثم لا تلبث أنه تعمق مأساته، ليصبح ضحية مركبة، أو مجرد "كلب ينبح خارج النافذة"، حين يشكو أو يتألم.

ورغم أن في الرواية مكاناً آخر وهو "المؤسسة الحكومية" التي تمثل مركزاً للأحداث أيضاً، فإن أغلب ما فيها يبدو اعتيادياً يفتقد إلى الحرارة، بما يناسب عالم الموظفين الأداتي، الغارق في الإجراءات، التي تتسرب إلى السرد نفسه أحياناً. وهناك مكان آخر لا يمكن لرواية تتحدث عن سنوات الثورة أن تتفاداه وهو ميدان التحرير، لكنه يبدو هنا أشبه بلوحة معلقة في خلفية الأحداث. 

أما المكان الحيوي، المفعم بالحرارة، الجاذب والغريب، هو "أنجريتا"، التي تدب في شوارعها الضيقة وحواريها، وحتى أماكنها الخربة، أقدام بشر مغموسين في دم الحياة وفذارتها.

هنا تطرح الرواية، بطريقة غير مباشرة، على قارئها سؤالاً مهماً: هل يمكن أن يكون بعض الناس، حتى أثناء جريان الثورة، وفي أيام اشتداد قوة دفعها، منغمسين في عالمهم الخاص، لا يغيرهم الحدث السياسي الكبير؟ والإجابة التي تأتي للوهلة الأولى، هي: نعم.  بل إن هؤلاء قد يحدث لهم العكس، إذ يقبضون بأيديهم، ويعضون بالنواجذ على عالمهم القديم، خوفاً من أن انهياره من أعلى، إن تمكنت الثورة من أن تجرف أمامها الكثير، وتعيد هندسة المجتمع على أساس جديد مختلف.

وربما أراد صبحي موسى أن يقول لنا إن هؤلاء كانوا الفاعلين الأشد تأثيراً، لأنهم الكثرة، فهم تقدموا من خلفية الأحداث الملتهبة، ليقعوا في قلبها، ليس بوصفهم جزءاً من الثورة، إنما من الثورة المضادة. كانوا في الثورة هامشاً بعيداً، هناك من أطلق عليه "حزب الكنبة" ومنهم من كانوا بمنزلة المخزن البشري لتجنيد القوة التي تشد كل شيء إلى الوراء، سواء بسيطرة التيار الديني أولاً، ثم بالتخلص منه، ليعود الحكم إلى من يقبضون عليه منذ يوليو 1952.

لم يدن المؤلف هؤلاء، بل بدا متعاطفاً معهم على قدر غمزه في قناة الطليعة الثورية نفسها والتيار السياسي الديني في روايته السابقة "نادي المحبين". لا يعني هذا أننا أمام رواية تمدح التخاذل، أو تميل إلى القوى الاجتماعية المغيبة عن أي رغبة في التغيير، لكنها تجسد الواقع، أو تنحاز إلى ما جرى بالفعل، معبرة عن الإحباط الذي ساد عميقاً بعد أن فسد كل شيء.

في العموم فإن الروايات التي اتخذت من سنوات الثورة حدثاً لها توزعت في طرائق عدة، منها التي عالجت المشهد الثوري نفسه، وعرضت تفاصيله، لتسجله في طزاجته وحراراته قبل أن تذبل وتبرد مع مرور الزمن. وهناك روايات انشغلت بتصوير حالة الناس التي أدت إلى الانفجار. وتوجد ثالثة انشغلت بالسياق العام والأدوار الهامشية التي كان البعض يؤديها أثناء جريان الثورة، ورواية "كلاب تنبح خارج النافذة" تنتمي إلى الصنف الأخير.

يقع الفعل الثوري هنا في الهامش، أو يشكل الإطار الأبعد، الذي يمكن أن تحال إليه بعض المواقف، لكنه لا يعني أي من الشخصيات، ذلك الاعتناء الذي يكافئ الحدث الكبير، بل إن اللغة التي كتبت به الرواية تبدو لغة وظيفية محايدة مقتصدة في الجماليات أو المجازات، لأن شخصيات الرواية نفسها تفتقد إلى الخيال، بمن فيهم بطلها الكاتب، الذي تحول إلى "مخبر" أو "بصاص"، ثم صار موظفاً، وغارقاً في علاقات غرامية تفتقد إلى حب حقيقي، وعلاقة جسدية تفتقد إلى العاطفة العميقة، وكذلك بطلها الثاني الشاب المعاق ذهنياً، الذي لا تهبه حالته تلك خيالا، أو حتى قدرة على فهم الحقائق التي تحيط به، وتؤثر فيه، ومنها أن الكاتب الذي يتقرب إليه ويزعم أنه ابن خالته، هو المكلف بمراقبته، لقاء مال ليس بالكثير.

ورغم أن زمن الراوية هو سنوات ثلاث امتدت من 2011 إلى 2013 إلا أن زمن كتابة الرواية يتسلل إلى سطورها، بل يفعل ما هو أعمق من هذا وهو تحديد فكرتها، ليقبض السياق الراهن على السياق السابق، بل يدمغه بتصوراته، وينيخ عليه بحمولاته، ويحل محله أحياناً، ويهندس تفاصيل الأمس على تفاصيل اليوم، حتى عنوان الرواية نفسه لا يخلو من هذا الحُكم أو ذلك الوضع.

في ظل هذا جلب الكاتب استعارة تجعل من الصارخين في سبيل الحرية والحق كلاباً نبحت، ولم يسمع صوتها، وهو هنا لا يدينهم، إذ بدا متعاطفاً مع شخصياتهم، بمن فيهم قاصر التفكير والمعوق جسدياً والمنخرط في الجريمة، إنما يدين، على ما يبدو، أولئك الذين لا ينصتون إليهم، ويعتقدون أن الحل معهم هو مراقبتهم، وإحصاء شهيقهم وزفيرهم. إن العنوان هو إدراك السلطة للمطالبين بالحرية والعدالة والكرامة، وليس تصور المؤلف، لاسيما بعد أن جعل من كاتب بطلاً لروايته.