قدم للناس نسخة جديدة من الضحك

عن الضاحك الجاد.. الفنان الكبير فؤاد المهندس

ذات مصر

لا يوجد شعب لا يعرف الفكاهة، وإن اختلفت أشكالها وتوجهاتها، يضحك الناس مما يبكيهم أو يدهشهم ومما هو غريب غير مألوف أو متناقض، يضحكون من بعضم البعض ومن أنفسهم، يضحكون طلبًا للبهجة أو سخرية من الألم، وعلى مر العصور تختلط الحكمة بالفكاهة فتعطيها مذاق الثقافة التي تسكنها.

ونحن كمصريين حبانا الله بروح من الفكاهة شديدة الخصوصية، يمتزج فيها المرح بالأسى والضحك بالبكاء، وتشكل وسيلة يومية يعالج بها المصريون كل أمور حياتهم بآلامها وافراحها، يتحدون بها صروف الحياة وضرباتها، ويعلقون فيها على الأحداث والمناسبات ويرسلون بها الحكمة المختزنة في وعيهم الجمعى منشورات حارة تلهب المشاعر وتفجر الضحك الأسيان. ويمكن القول إن للفكاهة وظيفة أساسية كأداة تعبير مفتوحة لكل الناس، أو فيسبوك العصور التى سبقت الكومبيوتر وستظل تسابقه، وظيفتها اختزال الواقع المعيش وإعادة إفرازه مختلطا بالحكمة المختزنة فى الوعى الجمعى في منشورات ضاحكة ورؤية ثاقبة.    

وقد عرفت مصر أرباب الضحك في فترات متعاقبة انتشروا بين الناس فأضحكوهم وابكوهم. في العصر الحديث سخر خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم من الانجليز وهرب من بطشهم بين الناس وسخر من سلوكيات المصريين وهو مختبئ بينهم لسنين.  وحين نفى الانجليز بيرم لسخريته منهم غافلهم ودلف عائدا اليها وأبدع في السخرية من أوجه الحياة المصرية وقارن بينها وبين الحياة في باريز. اضحك إسماعيل ياسين الملايين بكاريكاتورية التصوير الدرامى وجسد معاناة البسطاء وأحلام الحظ والثراء في مواجهة الفقر، وأبكاهم الريحانى وأضحكهم في اللحظات نفسها مازجًا المفارقة بالمفاجأة لامسًا أوتار الشعور بالوحدة والضعف والنزوع الى العدالة بالصدق وحسن النية، ثم حاول عبد المنعم مدبولى أن يضحكهم بشدة دون ان يعبأ بالمضمون، ثم جاء فؤاد المهندس ليقدم للناس نسخة جديدة من الضحك مزج فيها بين جد الريحانى وهزل مدبولى وكاريكاتورية إسماعيل ياسين جاعلاً من ذلك إطارًا لرسالة أكثر تعقيدًا وحفزًا للتفكير والتأمل. من هذا الرحم الأزلى في الوجدان المصرى ولد فؤاد المهندس نموذجًا جديدًا تشرب رسالات من سبقوه وخرج يضيف اليها رسالة جديدة عبرت عن مجتمع جديد اتسعت فيه الطبقة المتوسطة وتطلع الجمهور المصرى للنهوض والتقدم وراحت الفكاهة تعالج الأسئلة الجديدة والتحديات المختلفة التي صاحبت التجربة.

وبينما أصر الريحانى على كروية الأرض في مواجهته مع تاجر السمك في المسرحية الشهيرة تعبيرًا عن تحدى العلم في النصف الأول من القرن استعار فؤاد المهندس نظرية الأواني المستطرقة في مسرحية أخرى ليعمق فكرة المساواة في النصف الثانى من القرن كمصير حتمى يكاد يكون مأساويًّا.. فى أحد أفلامه شرح بخفة ظل متوالية مالتاس في زيادة السكان، ثم صرخ في المشهد التالى في وجه زوجته شويكار (أمال ابوسك فين) ملخصًا الصعوبات التى طرأت على حياة الأزواج العاملين الذين لم يعودوا يجدون الوقت للحب في خضم حياة العمل والطموح.. فى عيلة زيزى تاه في حب ماكينة الغزل لكى تنتج القماش قبل أن يتفرغ للخطيبة.. وفي أنا فين وانتى فين لخص مشكلة الفوارق الطبقية ثم انتصر برومانسية للحب وصدق النوايا. هكذا شكل المهندس لنفسه ركنا متميزا في عالم الفكاهة تركزت فيه توجهاته وانتقاداته وأحلامه التى عبر فيها عن أحلام الطبقة المتوسطة وتطلعاتها وفوق كل ذلك تناقضاتها. 

ولكي نفهم دور فؤاد المهندس فى الكوميديا المصرية علينا أن نتذكر انه على عكس كثيرين من نجوم الكوميديا الذين صعدوا للنجومية من ظروف اجتماعية صعبة عانوا فيها من الفقر وبذلوا جهودا مضنية لتكوين شخصياتهم المتفردة في الساحة الفنية إلا أنه جاء من شريحة رفيعة المستوى من الطبقة المتوسطة هو ابن الدكتور زكى المهندس رئيس المجمع اللغوى وشقيق صفية المهندس واحدة من أشهر شخصيات الإذاعة المصرية، وهو مثقف وصاحب رؤية. تمرد على القوالب الجامدة لطبقته المتوسطة، وراح يعبر عن طموحاتها وينتقد اساليبها وتنازلاتها، كان بارعًا في تقديم الشخصية المنغمسة في همومها الآنية الى حد البلاهة فيسقط الجمهور من الضحك والشفقة، ولا يشفع له إلا حسن نيته وطرقات الحظ على بابه وهي تيمة تتردد في عالم الكوميديا المصرية وربما العالمية كتعبير ساخر من الحياة أو الأقدار التى لا تعطى الإنسان ما يسحق وانه لابد للحظ دائما أن يكمل الدائرة.       لمع فؤاد المهندس في فترة المد الثقافي والتحول الاجتماعى الذى صاحب ثورة يوليو وما تلاها. وتجلت نزعته النقدية في بداياته في الإذاعة مع برنامج ساعة لقلبك في تبرم الأستاذ محمود من غباء زوجته واكتشاف الحكمة الخفية أحيانا فى تصرفاتها الطائشة، ثم وجد في السينما مجالا أوسع انتشارا من المسرح وتمكن من تناول القضايا الاجتماعية والإنسانية في أفلامه أكثر من المسرحيات التي تركزت فيه التيمات القديمة المعتمدة على المفارقة وبعضها كان امتدادًا لمسرح الريحانى. في السينما كانت هناك فرصة لمعالجة مشكلات الموظف والمهندس والزوج الموزع بين الحب والعمل، قدم المشكلة النفسية التي نشأت من حلم تقبيل صديقة زوجته. وفي جناب السفير وجد الفرصة ليقدم الأغنية الكوميدية المشحونة بأفكار جديدة عن التفوق والإجادة في مرح وبهجة وظهرت أيضا فى الدويتو الشهير مع صباح حول الإسراف في طعام رمضان كما اشترك الاثنان في الحملة على ترك الجلباب والتى لم تنجح بسبب الهجمة السلفية التى أعقبت هزيمة ٦٧. تطورت أعماله فيما بعد في الكوميديات الهزلية مثل شنبو في المصيدة وأخطر جل في العالم عبر فيها عن مأزق المصرى المعاصر فى البحث عن الحب والنجاح في مناخ الثورة الجديد الذى لم يكن يعتمد على الحظ في كوميديا الريحانى ولكن على مشاركة المرأة في مصيدة شنبو. على المسرح كان طاقة هائلة تميزت فيها أعمال مثل السكرتير الفتى الذى كان صادقا وبسيطا إلى أنا وهو وهي حيث لعبت المفارقة دورها فى تعقيد الأمور وخلق المناخ للكوميديا. وانا فين وانتى فين عودة للفكرة الازلية حول الفوارق الطبقية.  فى سنواته الأخيرة راح يقدم نصائح أحمد رجب المباشرة سعيا لإصلاح السلوكيات وإيقاظ الوعى لدى الجمهور. لم يكن فؤاد المهندس محض مضحك للناس، بل كان صاحب رسالة تنوير وتطوير حاول في رحلة طويلة متنوعة أن يوصلها للناس من خلال الضحك الذى كان مثل الريحانى ضحك كأنه البكاء.