ياسر أنور يكتب: التفسير السينمائي للقرآن

ذات مصر


ياسر أنور
يمتلك القرآن باعتباره كلام الله الأخير للبشرية، طاقات علمية ودلالية وفنية متجددة، لا تنفد حتى قيام الساعة. وقد استطاع علم البلاغة أن يلقي بعض الضوء علي ملامح الإعجاز القرآني من وجهة نظر لغوية، و مع ذلك ظلت هناك بعض الآيات القرآنية تحلق في فضاء فني يتجاوز سقف و طاقة علم البلاغة، مثل الآيات التي تحوى ظاهرة الالتفات، وكذلك التقديم والتأخير. 
غهل بمكن للغة السينما ثلاثية الأبعاد (البعد الوجداني و البعد الصوتي الإيقاعي والبعد البصري)، هل يمكن أن تفتح مزيدا من الآفاق الدلالية لفهم بعض أسرار الالتفات والتقديم. والتأخير؟ إن لغة السينما ثلاثية الأبعاد تتفق مع قوله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالقلب هو البعد الوجداني  والسمع هو البعد الصوتي الإيقاعي ، وهو شهيد هو البعد البصري المشاهد من. خلال حركة كاميرا النص القرآني. 
لذلك نكرر و نقول : إذا كان  الالتفات ظاهرة بلاغية معروفة في  علم البلاغة العربية  و الدراسات الأسلوبية  .. فإنه اكتسب في القرآن الكريم  أبعادا  أخرى و دلالات فنية  و درامية جديدة ..حتى نستطيع أن نطلق  عليه باطمئنان  (الالتفات  السينمائي  في القرآن الكريم ) . ذلك لأنه لم يعد مجرد انتقال بين الضمائر وفقا لأنواعه المعروفة بين صيغة التكلم و الخطاب و الغيبة و بين  المفرد و الجمع .. وغيرها من الطرائق  المعروفة  متجاوزا ( أي القرآن ) ما قاله بعض البلاغيين (باستسهال) من أن الالتفات يستخدم حتى لا (يضجر السامع أو القارئ ) من تكرار الضمائر ... لم يعد هذا التبرير كافيا .. مع وجود  آيات أخرى .جرى فيها الكلام على طريقته المعتادة  دون التفات . إن المتأمل للسياق القرآني يجد أن ظاهرة الالتفات  تستخدم  لأغراض  درامية أخرى لا تقتصر على فكرة منع سآمة  السامع أو القارئ  فقط .. بل لتحمل دلالات  درامية و نفسية حتى و كأن هناك (كاميرا) تنقل المشاهد بعناصرها المختلفة حتى تبلغ درجة  التأثير القصوى ... هذه العناصر الدرامية لها ملامح مختلفة صوتية وبصرية و نفسية و زوايا رؤية   perspective  مختلفة .
و يمكن أن ندلل على ذلك ببعض   الأمثلة من الآيات القرآنية التي استخدمت تقنية الالتفات .
قال تعالى في سورة محمد : و منهم من (يستمع ) إليك حتى إذا (خرجوا) من عندك ..قالوا للذين  أوتوا العلم ماذا قال آنفا .إن هذا الانتقال من صيغة الإفراد (يستمع) إلى صيغة الجمع (خرجوا) لا يمكن أن يفسر أو يبرر من خلال فكرة الترويح عن السامع و منع السآمة .. وخصوصا أن الضمائر في الآية ليست بالكثرة التي تسبب تلك السآمة . والذي يبدو في الآية (بتطبيق فكرة الدراما) .. واستخدام (حركة الكاميرا) أن الآية تتحدث عن مشهد التآمر من قبل بعض المنافقين ضد النبي صلى الله عليه و سلم .. مدعين أن ما يقوله النبي ليس مفهوما (ماذا قال آنفا ؟ ) .. ولكي يتم هذا المشهد التآمري بإحكام و إتقان..فإنهم يدخلون إلى مجلس النبي فرادي .. ويجلسون متباعدين .. و( يستمع) كل واحد منهم بطريقته الخاصة (و كأنهم غير متفقين مسبقا ) و هنا تنتقل الكاميرا المتحركة بين الوجوه ..كل على حدة بصورة منفصلة ، وبعد أن يفرغ النبي من مجلسه  .. نفاجأ بالخروج الجماعي (خرجوا ) من أجل التشويه و التشويش على صاحب الدعوة و الادعاء بأن كلامه غير مفهوم .. و ذلك لمحاولة صرف الناس عنه . و من الأمثلة الشهيرة أيضا قوله تعالى في سورة " يونس" هو الذي( يسيركم) في البر و البحر حتى إذا (كنتم) في الفلك و جرين (بهم) بريح طيبة و فرحوا بها جاءتها ريح عاصف و جاءهم الموج من كل مكان و ظنوا أنهم أحيط بهم ..دعوا الله مخلصين له الدين ....و قد تكلم كبار المفسرين عن أسرار الالتفات من الخطاب (كنتم في الفلك ) إلى الغيبة ( وجرين بهم ...) و قد أجاد بعضهم في تقديم مبررات فنية مقبولة .. ومنهم الفخر الرازي . لكن بتطبيق فكرة  الالتفات الدرامي  يمكن إضافة المزيد من الأبعاد النفسية و التصويرية .. حيث يكون المنظور هنا من خلال تبادل الأدوار بين الأبطال الحقيقيين (كنتم ) إلى أن يكونوا جمهورا في ساحة العرض  (و جرين بهم ) .. و ساعتها سيكون حكم الجمهور موضوعيا غير منحاز .. و هم يشاهدون مشهدا جماعيا للفلك (جرين ) ثم بعض المشاهد (الخارجية )  حيث تجري الريح الطيبة بهذا السرب من السفن .. ثم يتم التركيز على سفينة واحدة (جاءتها ) ريح عاصف .. مع الانتقال من الخارج إلى الداخل ( وجاءهم الموج من كل مكان ) ثم الانتقال إلى رد الفعل النفسي ( ظنوا .. أنهم أحيط بهم ) و رد الفعل الظاهري ..(دعوا الله) ..إنه مشهد حقيقي إذن بكل تفاصيله .. و ليس مجرد منع السآمة عن السامع . إن الالتفات الدرامي في القرآن هو ظاهرة قرآنية بامتياز .. تجعل من الكلمات صورا و مشاهد حية تتضمن كل عناصر و ملامح الحقيقة ظاهرا و باطنا .