د. إبراهيم عرفات يكتب: العلوم الاجتماعية بين الأصول الراسخة والممارسات الماسخة

ذات مصر

تتعرض العلوم الاجتماعية في معظم بلادنا العربية إلى ظلم شديد. فهي مثلاً لا تحصل إلا على ربع،وأحياناً ثمن، ما تحصل عليه العلوم الطبيعية من موازنات. علوم كالتاريخ والجغرافيا والنفس والاقتصاد والسياسة والاجتماع لا يعادل مجموع مخصصاتها ما يذهب لعلم واحد كالطب، أو الهندسة، أو الفضاء، أوالفيزياء، مع أن أعداد الطلاب المسجلين في الأولى يزيدون بكثير عن المسجلين في الثانية. وهي أيضاً مظلومة لأنه غالباً ما ينظر إليها، رسمياً وشعبياً،بصورة طبقية، إن لم تكن عنصرية، وكأنها فرز ثان. الجامعات العربية على سبيل المثال لا تشترط للالتحاق بالكليات والمعاهد المختصة بالعلوم الاجتماعية نفس الدرجات العالية التي تشترطها للالتحاق بكليات العلوم الطبيعية. كما أن صورة تلك العلوم لدى الرأي العام ما تزال منتقصة لو قيست بصورة العلوم الدقيقة كالطب والهندسة.

 لكن التقصير في حقها رسمياً وشعبياً يتوارى أمام تقصير المشتغلين بها أنفسهم. إن أكبر ظلم تتعرض له العلوم الاجتماعية يأتي من الممارسين لها عندمايخالفون أصولها الراسخة لينغمسوا في ممارسات ماسخة لا تمت لتلك العلوم بصلة. وأكتفي هنا بالإشارة إلى ست من تلك المخالفات: 

1) 

العلوم الاجتماعية الراسخة علوم وطنية، فهي من أهم خطوط حماية الوطن، ومهما اختلطت دارسوها بالعالم وامتزجوا بأفكاره وتعرفوا على ما يجري فيه، تبقى مهمتها الرئيسية تعزيز الشعور بالذات وتعريف المشتغلين بها والدارسين لها بكيفية الحفاظ على استقلال الوطن ورفاهيته وهويته ودينه ولغته وتاريخه. أما ما يحدث في كثير من الممارسات العربية للعلوم الاجتماعية فأمر ماسخ على أقل تقدير. إذ بات مشتغلون عرب كثربتلك العلوم يستوردون كل شيء من الخارج بدلاً من أن يطورنه من الداخل. من النظريات والأمثلة إلى الكتب والمناهج إلى توصيف المقرراتالدراسية وموضوعات البحوث. والأسوأ من كل ذلك استيرادهم لعمالة أكاديمية أجنبية مشكوك في قدرة معظمها على فهم الإشكاليات المحلية والتصدي للقضايا الوطنية. وهذه وحدها كارثة بشعة تنسف ما يجب أن تؤديه العلوم الاجتماعية في حماية الأمن الفكري لمجتمعاتها. لقد عُهِد بكثير من تلك العلوم لأجانب جاءوا ليعملوا برواتب باهظة وليفرضوا لغتهم وثقافتهم ونظرياتهم بالمخالفة للرسالة الوطنية لتلك العلوم ومسؤوليتها عن فهم المكان بما يناسب أصحاب المكان وليس بما يخدم أهواء القادمين من وراء البحار. العلوم الاجتماعية الراسخة هي التي تتصدى للأجندات الأجنبية لا تلك التي تروج لها. هي التي تصنع وتختبر نظرياتها بنفسها وتستجلب من الخارج ما يهدد الوطن. هي التي تبني شرعيتها على خدمة الوطن. أما الممارسات الماسخة فتحيل تلك العلوم الخطيرة والحساسة إلى مستعمرات يأتي أجانب ليرتعوا فيها بالطول والعرض لتتحول إلى حصان طروادة تتسلل منه مشروعات دخيلة للهيمنة الفكرية تتم عبر عمليات سمسرة دنيئة.

2) 

العلوم الاجتماعية الراسخة نبض للمجتمع ولهذا يتوقع منها ألا تستعديه سواء بأفكار تخالف ثوابته أو تجافي قناعاته. وهي إن تحدت خطأ في المجتمع فإنها تفعل ذلك من أرضية تلك الثوابت والقناعات لا من خارجها. ولو كانت العلوم الاجتماعية في كثير من مؤسسات التعليم العربية راسخة لما كانت قد أقحمت بسذاجة المقلدين نظريات عن المثلية والجندر والإلحاد والشذوذ تخالف نسيج المجتمعات العربية بدعوى مواكبة التحضر وما يقدم في جامعات غربية. إن الأصول الراسخة للعلوم الاجتماعية ترفض ذلك بينما سمحت الممارسات الماسخة به. العلوم الاجتماعيةالراسخة صديقة للمجتمع، أما الممارسات الماسخة فتنكر أصول المجتمع، فلا تحب أن تسمع نبضاته بل تستعديه فيستعديها. العلوم الاجتماعية الراسخة تركز على مشكلات مجتمعاتها، أما الممارسات الماسخة فتأتي بمشكلات مجتمعات أخرى تغوص فيها لتبني عند الناس وعياً زائفاً يركز يتابع الخارج البعيد ولا يهتم بالداخل القريب. العلوم الاجتماعية الراسخة تنفتح على الآخر بإرادتها، أما الممارسات الماسخة فتفتح للآخر الباب على مصراعيه.

3) 

من الأصول الراسخة للعلوم الاجتماعية كذلك أنها لكي تنجح لا بد وأن تكلم الناس بلغتهم وأن تخاطبهم بالأبجدية التي يفهمونها ويستعملونها وليس بلغة أجنبية تقدم زوراً كبديل للغة المحلية بدعوى أنها السبيل إلى اللحاق بالمتقدمين. هذا خطأ جلل. فعندما تُلغي اللغة العربية أحياناً أو تستبعد أو تهمش عند تدريس المشكلات العربية في أحيان أخرى تصبح اللغة والعلوم الاجتماعية معاً في خطر. العلوم الاجتماعية الراسخة هي التي تخاطب المجتمع بلسانه، بينما تعمل الممارسات الماسخة على أن تقطع للمجتمع من لسانه.

4) 

العلوم الاجتماعية الراسخة للشجعان ولا يمكن أن تسمح بمكان للجبناء. فهي لمن يعرفها علوم رأيومحاججة. لذا يتعين على أساتذتها أن يتكلموا وينطقوا ويعبروا عن تصوراتهم، لا أن يخرسوا أو ينطقون بكلام ساكت لا معنى له فيمتنعون عن مناقشة قضايا بلدانهم أو يسكتوا وهم يرون أقسامهم العلمية تُسرق أو كلياتهم تتحول إلى غنائم تخترق. إن الأستاذ الساكت عن التعبير لا يمكن أن يؤتمن على الطلاب الذين يعلمهم لأنهم سيكونون مثله جبناء مرتعبون لا شجعان يتكلمون.

5) 

من الأصول الراسخة للعلوم الاجتماعية كذلك أنها تبدأ من الفلسفة وتنتهي إليها. مهمتها الأولى اتساع الأفق بالبحث عن حكمة التصرفات والأفعال ومعرفة الغاية من الوجود وتحديد الطرق الأنسب للوصول إليها. لكن الممارسات الماسخة تبعد العلوم الاجتماعية عن أصلهاالفلسفي العميق لتجبر الممارسين والدارسين لها إلى الاهتمام بالأدوات على حساب الغايات. هذه الممارسات الماسخة هي التي حولت العلوم الاجتماعية إلى معادلات إحصائية وجداول رقمية وتجارب معملية دون أن تناقش روح الإنسان ومعاناته. ثم ذهبت خطوة أبعد مع الذكاء الاصطناعي فبدأت تهتم كثيراً بالرقمنة والأتمتة بناء والنماذج اللغوية الكبيرة لتغرق العلوم الاجتماعية في الشكل لتنسى المضمون وليتحول نفر واسع من المشتغلين بها من مثقفين تحركهم القيم الإنسانية إلى ميكانيكي آلات ومجمعي أرقام وصناع نماذج وموديلات. وبدلاً من أن يكون التركيز على فلسفة العلم الاجتماعي أكثرتالممارسات الماسخة من الشكليات والروتين ومكملات الماكياج العلمي.

6) 

أخيراً وليس آخراً، تقضي الأصول الراسخة بأن العلوم الاجتماعية علوم رأي تتيح اختلاف وجهات النظر، والتعايش بين الأفكار والانفتاح على كافة النظريات حتى يستطيع من يدرسها أن يصل إلى أقرب صورة ممكنة للحقيقة وليس إلى الحقيقة لأن العلم الاجتماعي الراسخ لا يسمح للمشتغل به من الأصل أن يدعي امتلاك الحقيقة. لكن الممارسة الماسخة لها ادعت عليها ما ليس فيها، فراحت تلونها بفكرة واحدة وتلبسها قميصاً بعينه لتفرض على الطلاب نظريات بالقوة وحتميات بالجبر لتنحرف بالعلوم الاجتماعية عن رسالتها في تدريب الإنسان على التفكير الحر لتحوله إلى عبد يدور في فلك أيديولوجية بعينها. وقد تسبب ذلك من بين أسباب أخرى كثيرة في مسخ بشع لهوية العلوم الاجتماعية، ومسخ أسوأ في شخصية من يتعلمونها