يحيى حسين عبد الهادي يكتب: اليوم التالي

ذات مصر

لن تَرْحَلَ الكوارثُ معه .. كل ما سيحدث أننا سنكتشفها .. هذه ليست دعوةً لليأسِ بل للاستعداد ليومٍ يريدونه بعيداً ونراه قريباً .. نهاية الشرِّ لا تَعنِي بالضرورة بداية الخير .. ولكنها قد تفتح له طريقاً.
فجر اليوم التالي لن تنخفض الأسعار ولن يسترد الجنيه عافيته .. لكنَّ السَفَهَ سيتوقف والفسادَ سيتوارى.
فجر اليوم التالي لن تُمطِرَ السماءُ ذَهَباً .. غير أنها ستتوقف عن إلقاء الحِمَم.
فجر اليوم التالي للزلزال المُدَمِّر لن تعود المدينة سيرتها الأولى، فالهزَّةُ استمرت عَشرَ سنوات .. غير أن فِرَقَ الإنقاذ سيمكنها البدء في عملها الشاق.
فجر اليوم التالي سيتوقف الجَلْدَ ويتمزق السوطُ لكن الألَمَ سيظل يكوي الظهور .. غير أن المسعفين سيمكنهم أن يبدأوا تطبيب الجراح. 
اليوم التالي ليس أربعاً وعشرين ساعةًً وإنَّمَا قد يمتد لسنواتٍ يمكن اختصارها بالعِلْم والوعي والجهد والتكاتف .. سيكون صباحُه شبيهاً بصباح ١٠ يونيو ١٩٦٧ .. شعبٌ مُثخَنٌ بالجراح، مُثقلٌ بالحزن لكنه رافضٌ للهزيمة .. عسى ألا يَمتَدَّ ست سنواتٍ كما امتد سابِقُه. 
ما أشبه الوطن بجَسَدٍ مُنهَكٍ مربوطٍ بصخرةٍ ثقيلةٍ يتجه بسرعةٍ تحت الماء إلى القاع .. فجأةً، تنزاح الصخرةُ عنه (أَيَّاً كان السبب) .. لن ينجو بمجرد تفتت الصخرةِ .. فقط سيتغير اتجاهُه لأعلى مع استمراره تحت الماء ولكن مع أملٍ في النجاة .. فإذا طفا، عليه أن يسبح متجاوزاً الألغام البحرية ثم البرية .. قبل أن يصل إلى بيته سالماً. 
ألغامٌ أسميتُها قبل اعتقالي (ألغام ما بعد الرحيل) .. إرثٌ مُوَزَّعٌ بالتساوى على كل من يعيش على هذه الأرض .. لا فضلَ لذكرٍ على أنثى .. ولا لمسلمٍ على مسيحى .. ولا لعسكرىٍ على مدنى .. ولا لناصريٍ على إخواني .. ولا لليبرالي على سَلَفي .. ولا لطَبَّالٍ على مُعارِض .. قِسمة الغُرَماء .. لا أتحدث هنا عن الألغام القديمة المتوارثة التى ستواجهنا فى جميع الأحوال كالأُمِّيَة وانخفاض الكفاءة والإرهاب .. إلخ .. ولكننى أتحدث عن إرثٍ من الألغام الجديدة التى تم زراعتها أمامنا ونحن مُكَبَّلون أو مُخَدَّرون .. أذكرُ منها ستة ألغام رئيسية (فضلاً عن الألغام  السِريَّة التى ستفاجئنا في اليوم التالي) .. واجبنا أن نجتهد من الآن فى التفكير فى كيفية تجاوزها وإبطال مفعولها:
١- الديون الخارجية:
———————-
لا ندري كم سيكون إجماليها صبيحة (اليوم التالي) .. فقد دخلنا فى الدائرة الخبيثة .. نستدين بأعلى فائدة لنسدد فوائد ديونٍ أخرى .. ورغم أن لغم الدَيْن الداخلى لا يقل خطورةً، إلا أن التركيز واجبٌ على لغم الدين الخارجى لتأثيره المباشر على استقلالية القرار الوطنى ولتَبِعاتِه التى نحفظها عن ظهر قلبٍ وكَلَّفَتنا قبل ذلك سبعين عاماً من الاحتلال الأجنبي.
٢- الاتفاقات والتنازلات الدولية:
——————-–—————-
وكُلُّها اتفاقاتٌ تفتقر إلى الدستورية ولكنها تُرّتِّبُ حقوقاً لأطرافٍ أخرى لا يعنيها دستورية أو عدم دستورية هذه التنازلات .. سواء ما يتعلق بترسيم الحدود والتفريط في الأرض أو بِسَدِّ النهضة وحصتنا في مياه النيل .. أو غير ذلك .. وما خَفِىَ كان أعظم.
٣- ابتلاع الأجانب للأصول الوطنية العامة والخاصة:
————————————————————
يبدأ المصريون يومهم التالي مُجَرَّدين من عَدَدٍ من أقوى أصولهم العامة والخاصة، بِيعَت ممن لا يملك لمن لا يستحق دون تفويضٍ من مالكها .. سيضاف هَمُّ استردادها أو إعادة بنائها إلى هموم اليوم التالي.
٤- القوانين غير الدستورية:
——————————-
مئاتٌ من القوانين التي تتناقض مع أبسط وأوضح المبادئ الدستورية، سواء تلك التى تُقَّنِنُ الفساد وانتهاك حقوق الإنسان أو تُكَّمِمُ الأفواه أو تعبث باستقلال القضاء والأجهزة الرقابية .. وتُعيد مصر إلى دولةٍ فى القرون الوسطى حيث الحاكم الفرد المُطلق الذى لا يُسأَلُ عمَّا يفعل.
٥- الكرامة الوطنية المهدرة والمكانة المُقَزَّمَة والتبعية المهينة:
————————————————————————-
مصر التي كانت تقود دول عدم الانحياز لرفض تدخلات القوتين العظميين .. صارت منطقة صراعٍ لنفوذ دولٍ صغيرةٍ في إقليمها .. كُلٌ يرى أن له حقاً في رسم سياساتها .. وهو هَوَانٌ إقليميٌ لم تنحدر إليه الدولة المصرية حتى في أزمنة الاحتلال.
٦- الاحتقان وثاراتُ الدماء:
——————————
لن يتم إبطال مفعول هذا اللغم إلا بتنفيذ الاستحقاق الدستورى الخاص بالعدالة الانتقالية .. عدالةٌ انتقاليةٌ بلمسةٍ مصرية يقودها العقلاء من كل التيارات تفتح ملفات كل الأحداث الدموية التى خَضَّبَت وجه مصر منذ يناير ٢٠١١، وتمزج بين التحقيق النزيه المحايد والمصارحة والشفافية والاعتذار والمحاسبة والتسامح معاً.

أخيراً .. تسألني ما الحل؟ .. سأصدمك .. ليس (عِندي) كما ليس (عندك) حل .. ولكن (عندنا) .. فالحلول في اليوم التالي سيحددها خبراءُ بدراسات جدوى .. ولن يرسمها فَردٌ مهما بلغت عبقريته أو اتصاله بالسماء.
لكن الشئُ المؤَكَّدُ في كل الأحوال أنَّه بانتهاء (اليوم الأول) وقبل أن يُؤَذَّنَ لفجر (اليوم التالي) لا بد أن تكون السجون قد خَلَتْ تماماً من نزلائها.