عمار علي حسن يكتب: الكتابة والسياسة في أيام الباذنجان الأسود

ذات مصر

قال له رئيس التحرير بصوت مخنوق من فرط الأسى:

ـ لن نستطيع نشر مقالك.

كان يعرف الأسباب التي يمكن أن يسوقها، فقد سمعها غير مرة في الفترة الأخيرة، وأقلها أن يقال:

ـ قد تصادر الجريدة قبل الطباعة، وقد يُعدم ما طُبع منها، إن قرأ الرقيب المقال متأخرًا بعض الوقت.

كان دائمًا يعذره، ويقول له:

ـ لا يمكنني المزايدة عليك .. أنا أُقَّدر الظروف.

بعدها يجلس ليكتب مقالًا آخر عن كتاب أو ديوان شعر أو رواية قرأها، فيأخذ طريقه إلى النشر سريعًا، ثم ينشر مقاله الممنوع على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، ويجلس ليترقب اللحظة التي سينقض عليها "هاكرز" لاختراقها أو سرقتها، بينما هو يقرأ تعليقات ميليشات إلكترونية تمطره بألفاظ نابية تجرح عينيه، وتسعى إلى إصابته باليأس أو الخوف فيكف عن الكتابة، ويرمي جسده إلى جانب أي جدار قديم في هذه المدينة المتهالكة يروض الوقت، انتظارًا للموت أو الفرج، بعد أن قيل له بلسان أكثر حدة من سكين جزار سمين:

ـ الناس عادوا إلى جحورهم، فلتتخير لك جحرًا وتربض فيه إلى الأبد.

وتكرر رفض مقالاته، حتى بعد أن تجنب الكتابة عن القضايا السياسية، لاسيما إن كانت الرواية أو الديوان الذي يكتب عنه يمس السياسة ولو من بعيد، وتكرر إبداؤه هو الأعذار للواقفين على الجريدة، فقبل الاقتراح الذي قدمه له رئيس التحرير ذات صباح، حين قال له:

ـ مواهبك متعددة، وبوسعك أن تكتب مقالات في أي موضوع، حتى لو كان كرة القدم أو الفن أو الجريمة.

قهقه وقال له:

ـ خلاص، سأكتب عن الطبيخ.

أراد بهذا أن يُطلق نكتة، تجعل رئيس التحرير يدرك أنه يتألم من منع مقالاته، فيفسح له مسربًا حتى لو كان ضيقًا، يمضي فيه باطمئنان، لكنه فوجئ به يقول له بكل جدية:

ـ فكرة رائعة .. هناك من جعل المهتمين بالطبيخ في بلادنا أكثر من المنشغلين بالسياسة.

صمت برهة، وسأله بنبرة غاضبة:

ـ هل أنت جاد فيما تقوله؟

أجاب على الفور:

ـ طبعا .. أنا لا أريد اختفاء اسمك من صفحات الجريدة بعد كل هذه السنين من الكتابة معنا بسبب  كتاباتك السياسية التي تجلب لنا صداعًا لا ينتهي .. تحذيرات وتهديدات وضغوط على فريق التحرير، وعلى صاحب الجريدة، الذي خاطر بمصالحه طويلًا من أجل أن تكتب أنت بحرية، وآن لك أن ترد له الجميل.

وقرر أن يجرب الاستجابة لطلب رئيس التحرير ولو مرة واحدة، فنهض من مخدعه، وارتدى ملابسه سريعًا، وهبط إلى سوق الخضار. مر بين عربات الكارو المتتابعة، وملأ عينيه بما في الأقفاص من كل أنواع الخضروات، وراقب الأيدي التي تمتد وتلتفط الثمار الغضة وترميها إلى أكياس من البلاستيك، وسط جلبة عارمة، ملأت أذنيه بنداء البائعين، وصياح المارة، وجدل المبتاعين، وارتطام الأقفاص الفارغة بالأرض، ودبيب الأٌقدام التي تنهب أرض السوق بلا هوادة.

انتهت به الحال أمام عربة كارو تنيخ تحت كومة باذنجان أسود وأبيض مختلف الأحجام. نظر إليها مليًّا، وابتسم، ثم سحب هاتفه، واتصل برئيس التحرير، وقال له:

ـ قررت أن أكتب عن الباذنجان.

تراقص صوت رئيس التحرير فرحًا ورد، بما لم يتوقعه:

ـ عظيم عظيم ... أنا في انتظار المقال، بأسرع مما تتصور.

امتقع لونه، ومط شفتيه في أسى، وسأله وهو يواري سخرية ملأت نفسه:

ـ عن أي نوع أكتب، الأسود أم الأبيض؟ الممشوق أم المنفوخ؟

فوجئ بأن لديه ما يقوله:

ـ هذا يتوقف على الطريقة التي ستكتب بها المقال.

ـ كيف؟

جاءته إجابة بحروف تبدو راقصة، من فرط ضحكة مكتومة:

ـ المقال المشوي والمخلل يحتاج إلى الممشوق، أما المقلي فيفضل له المنفوخ.

تهللت أساريره للإجابة الحكيمة وقال:

ـ رائع، سهلت عليَّ الأمر.

فوجده يقول له:

ـ الفرصة مفتوحة أمامك للكتابة عن أي نوع وأي طريقة لتجهيز الباذنجان.

ولأنه اعتاد أن يكتب عما يحب، وكان يحب المقلي أكثر، وكذلك المسقعة، فقرر أن يجعل المقال مقليًا، فاشترى ثلاثة كيلوجرامات، وعاد إلى البيت سريعًا، وطلب من زوجته أن تقليها.

نظرت إلى الكيس المملوء عن آخره وقالت له:

ـ هذا سيحتاج إلى زيت كثير.

قال لها:

ـ لا بأس.

عادت تقول:

ـ سيكون فائضًا عن حاجتنا.

رد عليها:

ـ التجربة تستحق أن ندفع من أجلها.

وجلست إلى جانبه بعد أن انتهت من قلي الباذنجان وتجهيزه، لتحسب له تكلفة ما فعلته، وفمه يتسع دهشة مما يسمعه، وفي رأسه تبرق فكرة كتابة سلسلة مقالات عن الباذنجان في ألوان حضوره وأذواقه. اختار عنوانًا للمقال الأول: "تكلفة وجبة باذنجان مقلي". حرص على أن يكتفي بالعرض دون تحليل أو تقييم أو إبداء رأي، حتى يضمن مرور المقال بسلام. راح يصف منظر الباذنجان وهو متراص على العربة في السوق، وبعدها وهو يتزاحم في الكيس، ثم وهو يصير شرائح رقيقة يتراقص بعدها في الزيت المغلي.

في اليوم التالي فوجئ برئيس التحرير يتصل به ويقول:

ـ لدى خبر سيء، أرجو ألا يزعجك.

ـ خير إن شاء الله.

ـ أوقفوا الجريدة في المطبعة بسبب مقالك.

قهقه، ثم سأله مندهشًا:

ـ هل هذا معقول؟!!

ـ تقرير الرقيب يقول إنك قصدت باختيار الباذنجان المنفوخ ثم قليه، أن تقول إن الناس تورموا والتهبوا غضبًا، وباتوا على حافة الانفجار.

أقسم له أن هذا لم يرد إلى ذهنه إطلاقًا، فوجده يقترح عليه:

ـ أتمنى أن يكون المقال المقبل عن البطيخ، فقد يراه الرقيب بردًا وسلامًا.