أحمد أمين يكتب: التقدم والتخلف: محاولة التحديث والصحوة الحضارية (1)

ذات مصر

شهدت مجتمعات المنطقة منذ انتهاء حملة نابليون على مصر وبلاد الشام في نهاية القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر تحولات عميقة على المستويات المختلفة اجتماعياَ وسياسياَ وعسكرياَ وثقافياَ. فقد مثلت تلك اللحظة وما تلاها محاولة حثيثة ومكثفة للخروج من التخلف العثماني الذي أصاب المنطقة بالشلل الفكري والحضاري لعدة قرون. 

ولا شك أن مصر هي المحرك الرئيس في المنطقة صعوداَ أو هبوطاَ. فمصر هي النموذج الأمثل، والسراج الحضاري الذي يشعل جذوة النور في المنطقة، وفي العالم من بعدها.

بدأت تلك المحاولات على أيدي محمد علي باشا، والذي تم اختياره من قبل المصريين وأعيانها ليكون أول حاكم تختاره ولاية عثمانية وتفرضه على إرادة الباب العالي في اسطنبول. وبدون العروج على تفاصيل تخلص محمد علي من وصاية أهل مصر عليه، والقضاء على مناوئيه وخصومه السياسيين تباعاََ، نتناول توجهاته المؤثرة في تحديث الدولة المصرية، والتي أفضت في نهاية الأمر لخروج مصر من التبعية للدولة العثمانية لتقع لاحقاً في مستنقع الهيمنة الإنجليزية بدعوات كريمة من نسل الباشا لتثبيت دعائم ملكهم في مصر، تماماً كما فعل السلطان العثماني في اسطنبول عندما فر هارباََ من التوسع السريع للباشا في مصر، مستنجداََ بالإنجليز للقضاء على طموحات محمد علي وأطماعه في تركة العثمانيين. وكما تشابهت البدايات فلابد أن تتشابه النهايات، وهو ما يسمونه في علم الحساب والمنطق المعطيات والنتائج الطبيعية.

عمل محمد علي على تأسيس جيش قوي على طراز الجيوش الأوروبية، مستنداََ لقاعدة تصنيعية راسخة للسلاح والذخيرة. وقد مكنت تلك التحديثات محمد علي من تأسيس دولة قوية في مصر، ويداََ ضاربة في العمق الافريقي والجزيرة العربية. وهو ما تجلت آثاره في سيطرة مصر على بلاد الحجاز والقضاء على الحركة الوهابية، وفي مد النفوذ المصري حتى أعتاب منابع النيل جنوباََ، هذا على المستوى الجغرافي.

وبالتوازي مع تحديث الجيش، كانت هناك مساعي وحزم من القرارات مست مصير منظومة التعليم في مصر، والتي لا تزال آثارها ممتدة حتى اليوم. فقد أسس محمد علي نظاماً تعليمياََ جديداََ على انقاض منظومة التعليم المصرية والتي كانت في يد الأزهر لقرون متوالية. فقد لعب الأزهر دور الريادة في منظومة التعليم للمصريين، وأفرز علماء ومفكرين في كافة المجالات وليست العلوم الشرعية فقط كما يتوهم البعض. كان هذا مبكراً، قبل أن يمنى الأزهر بالجمود الفكري في أعقاب التجريف العلمي على أيدي العثمانيين بعد دخول السلطان سليم مصر وسيطرته على القاهرة، عاصمة القطر. ومنذ هذه اللحظة تحديداً حدث تآكل في نفوذ منظومة التعليم بقيادة الأزهر، ووقع الانفصال بين علوم الشريعة وعلم الطبيعة في العقل الجمعي للأزاهرة تحديداً. ومع وقوع هذا الفصام تخلف الأزهر في كليهما معاََ. فلم يفلح في علوم الطبيعة ولا حتى علوم الشريعة، والتي أصبحت مداورة لكتب التراث والأجداد والمقلدين. وتحول العقل الجمعي للأزهر ومخرجاته وروافده المجتمعية لحوائط عاكسة ورافضة ومناوئة لأي تحديث فكري أو مادي. وفي نفس الوقت أصبح الأزهر مؤسسة دينية كتلك التي سادت أوروبا في عصور الظلام كما يسمونها.

وبناءً على هذا فلم يرى محمد علي مرغماََ ربما أو مغرضاََ، إلا أن يعمل جاهداََ على تقليص نفوذ الأزهر وتجفيف موارده المالية من خلال مصادرة الأوقاف المملوكة له وضمها لأملاك الدولة. وقد حدث ذلك على عدة مراحل وليست في قفزة واحدة، خاصة بعدما تأكد محمد علي أنه لن يستطيع مجابهة نفوذ خصومه السياسيين بقيادة الأزاهرة ما داموا يمتلكون كل هذه الممتلكات التي تمكنهم من مواجهته وعرقلة خططه الإصلاحية التي يراها في أركان دولته الجديدة. لذا كان الحل الأمثل من وجهة نظره هو تأسيس منظومة للتعليم بعيداََ عن نفوذ الأزهر ورجاله، تكون الدولة هي الحامية لها والداعمة بكل ما أوتيت من قوة لمخرجاتها، والذين ستستعملهم دولة الباشا وخلفاؤه في مصر لشرعنة توجهاتها وتعميق هيمنتها على المجتمع فيما بعد.

على أن هذه التوجهات واجهت قيام مفكرين من داخل منظومة الأزهر ذاته، أسسوا لتوجهات مناوئة للدولة الجديدة، عرفوا لاحقاََ باسم الحركة السلفية. كان من أبرز رجالها جمال الدين الافغاني، ثم محمد عبده، ورشيد رضا. على أن هذه السلفية غير السلفية التي امتدت في أركان المنطقة مدعومة من آل سعود في الجزيرة، والتي نراها اليوم.

وفي خضم كل هذا وقعت أهم إشكاليات الفكر في المنطقة، الحداثة، التطور، التقدم، الشرق والغرب، الإسلام ودوره. نبينها في المقالات القادمة.