أحمد أمين يكتب: «ياتي ساراسواتي ونادي الأربعين»

ذات مصر

تظل الأديان وعقائدها المحرك الرئيسي واللاعب الأساسي في تشكيل عقول الجماهير. لم يفُتُّ في عضد هذا التأثير العملاق لا مصدر الدين ولا نوع العقائد ولا حتى علمنة التاريخ والعلم منذ عصر النهضة والأنوار في أوروبا في القرن السادس عشر. فالعقائد الدينية لها من قوة التأثير سلباً وإيجاباً على تشكيل المجتمع وصياغة تفاعلاته الداخلية بين مكوناته، وعلاقاته مع غيره من المجتمعات الأخرى.

تذكرت عمق هذا التأثير عندما استمعت لتصريحات الراهب الهندوسي الهندي ياتي ساراسواتي والتي أفاض فيها من مكنونه العقائدي والفكري على أتباعه مؤكدا أنه لا سحق للإسلام ولا المسلمين إلا باحتلال مكة المكرمة وهدم الكعبة والتي بنيت ظلماً وجوراً على أنقاض معبد هندوسي. ولم يكلف نفسه قراءة تاريخ المنطقة، ولا تاريخ مكة والتي ينادي بالتحرك لها للقضاء على الإسلام. ولم يتكلف عناء الإطلاع على تجارب من كانوا قبله طوال التاريخ منذ أبرهة الحبشي حتى آخر من نعلم أثناء الحروب الأوروبية الدينية على المنطقة العربية، والتي دعا فيها أحد أبرز أمراء الحرب المعروفين، أرنولد دي شاتيليون، أو أرناط كما تم تدوينه في كتب العرب في تلك الحقبة، إلى التوجه للمدينة وهدم المسجد النبوي واستخراج جثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نكاية في أعدائه من المسلمين.

تزامن ذلك مع إرسال صديقي الأديب المعروف الأستاذ عمرو دنقل مقطعاً من إحدى رواياته معلقاً على تصريحات الراهب الهندوسي: " تراصَّتْ شرفاتٌ على جنباتِ الوادِي، امتلأتْ بجلابيبَ سُودٍ وبِيض، وأخرى بلوْن الدَّم، عباءاتٌ وعَمائم، قبَّعاتٌ ولِحًى بعضُها التصَقَ بشوارِب، وأخرى حُفَّتْ شوارِبُها، رؤوسٌ عارية، ورؤوسٌ مَجْدولةُ الضفائر، عناقيدُ من الخرَز تتدلَّى من بين الأصابع، وأيادٍ تَحملُ قِطَعًا مُعشَّقةً من الأخشاب. جميعُها ثمارُ رحِمٍ واحدٍ وماءٍ واحد، ولكنَّهم يتراشقون فيما بينهم، وتَحتدِمُ المعاركُ حتى بينَ نُزَلاءِ الشُّرفةِ الواحدة. تتعالَى صيحاتُ بعضِهم مع كلِّ دمٍ يُسفَك، ويَنْتحِب آخرون، بينما انشغلَتْ فئةٌ أخرى بتقسيم الألْقاب لمَنْ قُتل؛ ما بينَ نافِقٍ وشهيد، وكلَّما هدَأَ الوادي تُلهِبُه الشُّرفاتُ ليشْتعلَ من جديد."

تواردت الخواطر حينها علي مستحضراً تجارب العلمنة في أوروبا والتي انتقلت منها لبقية العالم حتى وصلت للهند والتي قامت فيها الدولة بعد الإستقلال بتبني النموذج الغربي في طراز الحكم: الديموقراطية والعلمانية. وتساءلت في نفسي، أين يمكن وضع تصريحات الراهب الهندوسي المبجل في سياق الديموقراطية والعلمانية الهندية، والجواب لما يتكشف بعد.

لقد مرت مرحلة العلمنة للدولة وفصلها عن العقائد الدينية بمراحل متتالية ومتعرجة من الصراعات المستمرة، والتي لم تنته حتى الآن، وربما لن تنتهي في المستقبل. فعملية فصل الدين عن الدولة لتكون الدولة على الحياد من جميع الملل والعقائد وأتباع الديانات، لتثمر عن مفهوم حديث للدولة منتجة نموذجاً تم تبنيه في أصقاع الأرض وكأنه نموذج جديد لم يسبق أن يوجد من قبل. وهو افتراض تنفيه تجارب الشعوب والأمم والدول على مدار التاريخ. ويمكن أن يكون هذا مثار نقاش طويل لا ينقطع فيما بعد. 

على أن هذه العلمنة لم أجد لها أثراً في حروب الدول الأوروبية إبان غزوها لبقية المجتمعات في القارة الأفريقية، وفي المنطقة العربية، أو حتى في الصين والهند. فقد ظلت المؤسسة الدينية ذراعاً طويلاً ومهيمناً في السياسة الخارجية لهذه الدول. وحتى لو تحدثنا عن الولايات المتحدة فستجد ذات النهج في التعامل مع خصومها في العالم. فتارة تحارب العراق وتغزوها كحملات صليبية جديدة كما جاءت في تصريحات أبرز صقور الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت، جورج بوش وكولن باول وكوندوليزا رايس. وتارة أخرى تقمع الحركات الجهادية الإسلامية، والتي ساهمت في تأسيسها لتقض مضاجع الروس في أفغانستان، بحجة أنها جماعات متطرفة دينياً. وتارة أخرى تدعم إسرائيل بحجة أنها دولة يهودية، ولا أدرى على أي مبدأ تستند في كل هذه السلوكيات. هل هي العلمنة، أم الديموقراطية، أم التقدم والتفوق للرجل الأبيض. الأكيد أن كل هذه الشعارات خاوية من المضمون. وكأني بكارل ماركس يتقلب في قبره ليلعن كل هذا بمقولته الخالدة" الدين أفيون الشعوب".

أما في العالم العربي، فليس الحال بأفضل كثيراً. فبالطبع نمت وتأسست مقاومة لكل هذه المفاهيم الغربية المجوفة، لتتجلى في حركات الإسلام السياسي والتي منيت بها مجتمعات المنطقة، لتدمر الدول وتمزق الشعوب والمجتمعات، وتستخدم كذريعة لمزيد من الهيمنة والتدخل والتدمير للمنطقة، ولتكرس لسرقة ثروات المنطقة بكل الصور. بل ويأتي سلوك تركيا وإيران على سبيل المثال كليهما تجاه المنطقة كتجلٍ واضح على عقائد دينية شرعنت لوجودها التاريخي. فتركيا تدخلت في سوريا وليبيا والعراق تحت ذرائع محاربة الإرهاب ولتعمل على إستراد الإرث العثماني. أما إيران فقد أطلقت أيدي ميليشياتها المسلحة الشيعية بحجة تميهد الأرض لعودة الإمام المهدي، والثأر من قتلة الحسين. 

أما في فلسطين فلا يختلف الوضع كثيراً. فدولة اليهود المسماة إسرائيل تدعي أن لها جذوراً منذ آلاف السنين، حيث حكم أسلافهم هذه المنطقة لمدة سبعين عاماً. بل وصل الأمر إلى إعلان الرئيس الإسرائيلي الحالي إسحاق هرتسوغ في زيارته لأنقرة مع رجب أردوغان: أن اليهود والأتراك كليهما من نسل إبراهيم. ولا أدرى ما الذي يجمع بين الترك القادمين من شرق الصين، مع اليهود الحاليين الذي ليس لهم لا صلة ولا نسب بإبراهيم النبي ونسله. وقد تحدث المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في موسوعته الكبيرة والمشهورة عن اليهود عن عدم وجود اتصال لأنساب اليهود الحاليين ببني إسرائيل والأسباط الإثنا عشر. 

وهكذا يدور العالم في حلقات من الصراع الجوهري العقائدي والديني دون الوصول لتصور واضح عن ماهية مرادهم من أنفسهم ولا من غيرهم. 

ويبقى السؤال الهام فارضاً نفسه، هل قدمت العلمانية والديموقراطية الغربية والتي تم تبنيها في دول العالم حلاََ لإشكالية الدين ودوره في حياة المجتمعات. أم أنه حدث تآكل لشرعية العلمانية والديموقراطية ذاتها في وسط كل السياقات السياسية والتاريخية والعسكرية والثقافية والإقتصادية والتي يمر بها العالم الآن؟